كيف تُدمّر بلداً دون أن تتحمل المسؤولية!؟
ترجمة: د. عبد الوهاب حميد رشيد
أخبرني أحدهم ذات يوم بقوله: إذا أردت أن تقول كذبة فاجعلها كبيرة تستند إلى الفذلكة التالية: كلما كانت شنيعة، زاد احتمال تصديقها، وفي كتاباتي استبعدت هذه النصيحة التافهة hogwash، ولكن كما نرى في كارثة العراق، أنه كان على حق، بعد مضي خمس سنوات على الاحتلال، تستمر الكذبة المخاتلة على قوتها، ولا أحد وقع تحت طائلة المسئولية الجرمية.
وعد رئيس الوزراء البريطاني Gordon Brown أمس إجراء تحقيق بشأن "الأخطاء" التي وقعت في حرب العراق، وهذا الإجراء يعكس لأول وهلة خطوة إيجابية، ولكن لا تحبس أنفاسك. كافة التحقيقات السابقة تعرضت لـ "الغسيل الأبيض"، لا يمكنهم إعلان الحقيقة وإلا سوف يحصلون على تذكرة سفر ذهاب فقط إلى Hague (محكمة العدل الدولية).
السفير David Satterfield ومستشار كوندوليزا سكرتيرة/ وزيرة الخارجية يقوم بجولات خطابية لإظهار النصر الأمريكي على القاعدة في العراق، في إحدى جولاته واجه الحقيقة المرة من أحد الحاضرين بأن أعضاء القاعدة انتشروا في العراق فقط حالما دخل الأمريكان البلاد، تاركاً السفير بقوله هذا في حالة صمت.
من الواضح أن السفير أصبح متخماً بأفكار الحزب إلى درجة غاب عن ذهنه الدراسة التي صدرت عن البنتاغون مؤخراً وكشفت بشكل مؤكد عدم وجود علاقة لرأس النظام العراقي "السابق" مع "القاعدة"، ونخشى أن ننسى أيضاً أنه كذلك لم يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وهذه الحقائق تعني أن الحرب جسّدت، أيضاً غياب الأسس الأخلاقية والقانونية للمقاطعة لما قبل الاحتلال والتي أدت إلى موت أكثر من نصف مليون طفل.
فكرْ في الأمر لحظة واحدة، إن تجار الحرب سحقوا واحتلوا بلداً لم يشكل تهديداً لأحد، وقفوا متفرجين (بل وداعمين) حالات النهب والسرقة، الصراعات "الطائفية"، حرق المؤسسات، تدمير المدن، اعتقال وتعذيب أعداد ضخمة من الأبرياء، جعلوا من البلاد مضغة gum-chewing في أفواههم، استقدموا عصابات الجريمة ومرتزقة الحرب، ودفعوا للشركات الحميمة الموالية بلايين الدولارات لمشروعات إعادة إعمار خرافية.
وبعد ذلك تظاهروا زيفاً أنهم ينقلون السيادة إلى البلاد، بينما باشروا في نفس الوقت ببناء قواعد عسكرية دائمة وأيضاً أكبر سفارة في التاريخ تعادل مدينة صغيرة، زعموا أن لا مطامع لديهم بشأن نفط العراق، ومع ذلك يفرضون الضغوط القوية على حكومة الاحتلال الدُميّة في بغداد لإصدار قانون يسمح لشركات النفط الأجنبية أقرأ (American) لتحقيق سيطرتها على هذا المورد وفق اتفاقيات طويلة الأمد تمتد لعقود.
لنكن صريحين، لم يتعرض العراق إلى مجرد التخبط والفوضى، بل لجريمة حرب، إذن كيف يُبررون موقفهم بالهروب من جريمتهم التي قامت على مخططات مخفية مسبقة طويلة الأمد مع "إسرائيل" العدو رقم 1، والتأكيد لمنافسيهم أنهم لن يضعوا أيديهم على موارد العراق وتحصين جيوشهم في المنطقة؟ من المؤكد أن مؤرخي المستقبل سيهرشون رؤوسهم كثيراً قبل أن يصلوا إلى الحقيقة، عليك أن تعيش الكارثة لتصدقها.
لقد استخدموا أولاً السياسة بذكاء لإثارة رعب الرأي العام والسيطرة عليه، وهذا مثبت في وثيقة "مشروع القرن الأمريكي الجديد" "إعادة بناء الدفاع الأمريكي" الموقعة من قبل تجار الحرب - ممن أصبحوا لاحقاً أعضاء كبار في إدارة بوش - احتاجوا إلى "بيرل هابر جديدة" New Pearl Harbor.
في 11 أيلول/سبتمبر العام 2001 حصلوا على العذر المطلوب، أصبح الأمريكان وحلفاؤهم في حالة من الصدمة، وصار كل بلد في العالم تقريباً متعاطفاً وراغباً في عمل أي شيء للمساعدة، وأيضاً تقمصوا دورهم لإقناع روسيا البقاء صامتة، في حين وقعوا على اتفاقيات مع الدول المعنية للسماح بقواعد أمريكية.
كانت الخطوة الأولى مُركزة قطرياً، ويفترض اختفاء البعبع في كهف ومسلح بمكنة فرز dialysis machine واستوديو إعلامي، بينما الحكومة ذات العمامة السوداء تفرض بالقوة على النساء لبس البرقع burga وتُحرّم صبغ الأظافر.
جاءت الخطوة الثانية داخلية بالعمل على شيطنة المسلمين demonizing of muslims، تم اعتقال آلاف منهم لأشهر دون توجيه تهمة أو تخصيص محامي، وفي ذاك الجو المرعب كان من السهل نسبياً إقناع الشعب الأمريكي بأن رأس النظام العراقي "السابق" متواطئ مع أولئك الذين فجّروا مركز التجارة الدولية، كما وحذّر الرسميون الأمريكان أن "غيوماً متلبدة" تتكاتف فجأة، بينما نطّ رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ليعلن كذبته الكبيرة بقوله: يمكن أن تتعرض المصالح البريطانية للخطر بعد 45 دقيقة من إصدار الرئيس العراقي أمره بالهجوم!
وبعدئذ سمح كولن باول سكرتير/ وزير الخارجية لنفسه أن يُستخدم كمهرج مضحك لهم بقراءته وعرضه لنصوص معلوماتية جاهزة هي الأكثر بعداً عن التصديق في تاريخ الأمم المتحدة، وفوق ذلك التنمر على الدول المستضعفة وتقديم الرشاوي لحكومة بعد حكومة للتظاهر بتصديق مزاعمهم، وهذا ما حصل أيضاً لكل من محمد البرادعي رئيس الوكالة الأممية للطاقة الذرية وهانز بليكس رئيس المفتشية الأممية للبحث عن أسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي السابق*.
استلزمت الخطوة الثالثة استبدال أسامة في عقول الناس برأس النظام العراقي، حيث حولوه بين ليلة وضحاها إلى وحش يُعذب شعبه.
تجسّدت الخطوة الرابعة في "الصدمة والرعب" shock & Awe التي أنارت سماء بغداد في 19 آذار/مارس العام 2003، وهطول قنابلهم وصواريخهم على الأماكن والأسواق المزدحمة بالمدنيين مُبعثرة أطراف الضحايا.
وبعد مضي أشهر أخذنا العجب بشأن مصير أسلحة الدمار الشامل، أخبرونا أنها مسألة وقت فقط قبل أن تظهر إلى السطح من تحت الرمال أو من تحت الأرض في أحد قصور رأس النظام، بل وحتى افترضوا أنها ربما نُقلت إلى بلد مجاور للحفاظ عليها سالمة!!
تمثلت الخطوة الخامسة بحملة قامت بهندستها إدارة بوش بغية حقننا بقدر مكثف من فقدان الذاكرة، لا تهتموا بشأن أسلحة الدمار الشامل، حسب قولهم، نحن هنا من أجل تحرير العراقيين المساكين من نير شيطانهم الدكتاتور ولننقل إليهم الحرية والديمقراطية!! قالوا أنظروا، أنظروا، العراقيون عندهم أصابع أرجوانية وعدد لا يقل عن مليون قتيل، العراقيون محظوظون لأنهم تخلصوا من أصابعهم بصفة نهائية!
How to Destroy a Country and Get Off Scot-Free,(Linda Heard, Arab news), uruknet.info, March 17, 2008.
* صرّح هانز بليكس بعد فوات الأوان أن اللجنة التي كان يرأسها أي الأنموفيك UNMOVIC كانت تخضع لضغط كبير من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. بينما جاء في كتاب الدكتور ضياء جعفر (و) نعمان سعد الدين النعيمي (مركز دراسات الوحدة 2005)، ما نصه "وفي حمى دق طبول الحرب، أدّى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي الدور المرسوم له فكتب في تقريره إلى مجلس الأمن بتاريخ 17/3/2003 "هذه المسائل والأمور المعلنة المتبقية ذات علاقة بالتقدم الذي كان قد تحقق (في السابق) بخصوص تصميم السلاح النووي بسبب عدم وجود بعض الوثائق، وبسبب عدم التعرف على مدى المساعدة الأجنبية في ذلك المجال وبسبب عدم وجود دليل على أن العراق تخلّى عن برنامجه النووي"! وهكذا بدلاً من أن يبين المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية حقيقة هذه الأمور الهامشية المتبقية التي اعترف بها للجانب العراقي، ضخّمها ومنحها التهويل المطلوب أمام مجلس الأمن، واصفاً إياها بأنها أمور يتوجب حلها، "مانحاً نفسه امتياز المساهمة الفاعلة في الترويج للحرب على العراق."
- أنظر، عبد الوهاب حميد رشبد، التحول الديمقراطي في العراق "المواريث التاريخية والأسس الثقافية والمحددات الخارجية"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص154- 15 5.