في الذكرى الخامسة لكارثة العراق:
إلى متى يستمر الجبن العربي
بقلم الباحث: عبد الوهاب محمد الجبوري
إن ما يحصل اليوم في العراق من مآسي ودمار لا يمكن فصله عن محيطه ولا عن تاريخه بأي شكل من الأشكال، ولو تصفحنا هذا التاريخ على عجل لعرفنا أن غزو المغول لبغداد وما تلاه من تدهور وانحطاط في الحضارة العربية وتاريخها لم يأت من دوافع أساسها الطموح المغولي الاستعماري لهذا البلد وغيره فحسب، بل تيسر له ذلك من خلال تفكك أركان الدولة العباسية وضعفها وتصارع القوى المجاورة للعراق آنذاك ضد القوى العربية للسيطرة على مقاليد الحكم فيها، كما حققت الحملات الصليبية الاحتلالية اللاحقة للمنطقة أهدافها في ظل دويلات عربية متنازعة فيما بينها متحالفة مع الغزو الأوروبي، ويمكن سحب ذلك لاحقاً على كافة المشاريع الاحتلالية الأوروبية وحديثاً الأميركية.
بهذا المعنى كان ضعف الأمة وتمزقها وتقاعسها عن الدفاع عن نفسها وتدهورها الاقتصادي وضعف إمكانياتها العسكرية وتشرذمها وتفرقها إلى شيع وأحزاب واحتراب فيما بينها، كل ذلك مهد الأجواء وخلق الظروف المناسبة لانقضاض الأعداء عليها في ظل ثروات ترزح تحت أقدام أصحابها الغافلين عنها أو المبذرين لها.
وهنا استذكر قصة قصيرة من "الأدب العبري" اعتمدتها الصهيونية العالمية في توعية وتربية الأجيال اليهودية للاتعاظ من درسها وعبرتها، تقول القصة (أن ثعلباً مسك أرنباً وأخذ يتفاخر بقوته وقبل أن يأكله قال له الأرنب: ليس لأنك قوي مسكتني وتريد أن تأكلني، بل لأني ضعيفة وواهنة).
هكذا نجد عدونا "الإسرائيلي" يربي أبناءه على أن وهن اليهود وضعفهم يشكل أغراءً (للعدو) للانقضاض عليهم والنيل منهم، من هنا راحت الصهيونية منذ مؤتمرها الصهيوني الأول عام 1897 تعد العدة وتحسب الحسابات لبناء ما أسمته (الوطن القومي) باعتماد مشروع صهيوني واسع يرتكز على تأسيس القوة العسكرية والأجهزة الأمنية والمنظمات الإرهابية المختلفة تحت هذا الغطاء أو ذاك وتأسيس إعلام موجه واستخدام "الأدب العبري" كأحد أسلحتها للترويج لأفكارها وتحقيق أهدافها وحث اليهود في مختلف أنحاء العالم على الهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي من الفلسطينيين لإقامة المستوطنات والبنى الارتكازية المختلفة التي تخدم هذا المشروع الاستراتيجي واستغلال القوى العظمى لدعمها إلى غيرها من الأساليب والوسائل الخبيثة، ونحن هنا لا نريد أن نطيل في هذا الموضوع بقدر ما نأخذ منه المغزى والمعنى والعبرة حتى لو كان من عدونا. أعود فأقول أنه في سياق تطور الأحداث التاريخية ووقائعها المؤلمة على النحو المار ذكره، جاء الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وتدميره كدولة وحضارة، نتيجة لظروف مشابهة إلى حد ما لظروف سقوط الدولة العباسية وتدميرها سواء أكان ذلك لعوامل داخلية أم خارجية قبل أن تكون طموحاً أجنبياً وإن كانت كذلك فعلاً، فالأنظمة العربية كانت – وما زالت - منشغلة كل بحالها ووضعها ومرتبطة بهذا الطرف الدولي أو ذاك تبعاً لمصالحها ومصالحه على حد سواء دون الاهتمام جدياً لما كان يحصل للعراق من تآمر وحصار وعدوان أمريكي مستمر عليه منذ العام 1991 وحتى احتلاله عام 2003 واستمرار تدميره إلى وقتنا هذا، دون أن تلوح في الأفق أي بوادر لحل أزمته بمساعدة عربية أو دولية إلا بما عرفناه عنهم من شعارات ومؤتمرات من باب تسقيط الفرض وذر الرماد في العيون، بل ويمكن القول دون تحفظ أن البعض من هذه الدول كان أكثر من فرح بما حصل من دمار وخراب للعراق لدرجة أنه ساعد المحتل في تقديم تسهيلات لاحتلاله وتدميره ولولا هذه التسهيلات لما تمكنت الولايات المتحدة وتحالفها الدولي من احتلال العراق.
لقد مضت خمس سنوات منذ سقوط بغداد كانت كافية ولا شك لتقدم عينة عما يكون، وسيكون عليه مستقبل العرب، وليس العراق وحده، فالغزو الأمريكي لم يسقط النظام الحاكم، بل أسقط استقلال العراق كدولة، وشرع في تفكيكه ككيان سياسي تاريخي راسخ الجذور والفروع، وكمجتمع إنساني عريق في صناعة الحضارة والمدنية لذاته وللبشرية.
لقد وصف الاستعمار الأمريكي نفسه بأنه حامل وناشر "للفوضي البناءة"، لكنه أثبت أيضا أنه حيثما تحل وحوشه، يحلّ الخراب والموت.
خمس سنوات مضت على تمادي الوحشية الأمريكية، فكانت بمثابة إعادة تكثيف القرون الوسطي بكل فظائعها الدموية والسحرية والخرافية، لم تبقَ ثمة وسيلة أو نظرية في علم (الأنثروبولوجيا) التخريبية، المتفوقة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، إلا واتبعتها أجهزة الاحتلال في تمزيق النسيج الاجتماعي والبشري للشعب العراقي.
خمس سنوات من إقامة دولة الإرهاب الأعلى النموذجي، لم يسجل الإعلام العالمي خلالها إلا أقل العناوين والكلمات والأرقام عن أهوالها وفظائعها غير المسبوقة في مسيرة المذابح الجماعية الكبري المشهودة في ظلام التاريخ قديمه وحاضره.
ولو أردنا تحليل الأسباب والمعطيات التي قادت إلى حصول هذه المأساة الكارثية والتي تفوق مأساة فلسطين وغيرها من ماسي شعبنا وأمتنا، لابد من استذكار سريع لحالة الدول العربية الهشة منذ ثمانينات القرن الماضي واندلاع الحرب الإيرانية-العراقية إلى عجزها عن صياغة مفهوم واضح ومحدد للأمن القومي الواحد، كما عجزت اتفاقيات الدفاع المشتركة فيما بينها عن دعم العراق في كل حروب رد العدوان عليه مثلما عجزت عن صيانة الحق الفلسطيني والدفاع عن لبنان والسودان وغيرها، وتوزعت توجهاتها بين الشرق والغرب في استقطاب حاد بلغ حد القطيعة فيما بينها في فترات معينة، فيما كانت المنافسة حادة بين أقطاب النظام العربي للحد من نهوض دولة على حساب أخرى، إذ تحولت العلاقات العربية – العربية من تنافس على توحيد أو قيادة العمل العربي المشترك والنهوض به، إلى صراع على قيادة توجهات المنطقة ومنع ظهور دول عربية منافسة تمتلك رصيدا من القوة العسكرية والاقتصادية قادرة على استقطاب الجماهير العربية وتوجهاتها نحو الحرية والاستقلال والكرامة وامتلاك ناصية العلم والمعرفة في كافة مجالات الحياة.
نخلص مما تقدم أن المسؤول الأول عن احتلال العراق ومعاناته، التي لن تنتهي إلا بزوال الاحتلال وإقامة نظام وطني غير طائفي يضم كافة الأطياف العراقية دون استثناء بما فيها المقاومة العراقية، هو الإرهاب الأمير كي والصهيوني والبريطاني، إلا أن مسـؤولية أخرى تقع على المجتمع الدولي وعلى العرب أنفسهم، ولا تتحدد المسؤولية هنا في تشتت كلمتهم وعجز قياداتهم فحسب، بل في تقديم كل ما يسّر ذلك الاحتلال وسهل عليه غزوه للعراق، ابتداءً من المشاركة في الحصار الظالم على شعب العراق عام 1991 والذي استمر 12 عاماً وأودى بحياة مئات الألوف من أبنائه، وتحطيم نهضته العلمية وقدراته العسكرية والاقتصادية التي كانت تشكل الاحتياط الاستراتيجي، مروراً بحالة التدني التي بلغت ذروتها عندما سهلت مرور آلة الحرب الأمريكية المدمرة في الممرات المائية العربية، رغم "اتفاقية الدفاع العربي المشترك" التي تعتبر العدوان على أي بلد عربي عدوان على الدول العربية كلها، وهو ما يعطي الحق لأصحاب تلك الممرات بإقفالها في وجه الجيوش المعتدية ضد أي بلد عربي، وتقديم الأراضي والمياه الإقليمية اللازمة لرسو تلك القوات وسفنها الحربية ومعداتها وتجهيزاتها ومدّها بكل أنواع الدعم الإداري والعسكري لغزو العراق واحتلاله، وليس أخرها صمت الأعراب عما يحصل في العراق من دمار وتفتيت ومذبحة جماعية بحق شعب بكامله وتدخل دول أجنبية في شؤونه الداخلية دون تحريك أي ساكن لوضع حد لهذه الكارثة المأساوية، إلى مواقف من سار على النهج الأمريكي من العراقيين وتأسيسهم لنظام طائفي، ومحاولة البعض منهم طرح مشاريع لتقسيم البلد الواحد إلى كانتونات طائفية أو مذهبية أو عرقية، وهذه مفارقة غريبة وسابقة خطيرة في تاريخ الأمم والشعوب، إلى دعم الميليشيات المسلحة وفرق القتل على الهوية التي تسرح في طول البلاد وعرضها، إلى نهب نفطها وخيراتها وانتشار الفساد فيها بشكل مخيف جعل من العراق يحتل المرتبة الثالثة بين بلدان العالم في هذا المجال، إلى محاولات بعض البلدان العربية رفض استقبال المهجرين العراقيين أو وضع قيود عليهم ونسوا أو تناسوا شهامة أولئك العراقيين ودفاعهم عن قضايا أمتهم وتضحياتهم بالغالي والنفيس من أجلها إلى غيرها من المواقف التي يشهد عليها التاريخ وتشـهد عليها الجماهير العربية وحكامها.
وأخيرا نقول إن استمرار الصمت العربي عما يحصل هذه الأيام في العراق من مأساة وتأجيج لنيران الفتنة والتقسيم والقتل والتدمير والتهجير سيشكل كارثة ثانية للعرب والمسلمين بعد كارثة فلسطين وعندها لن ينفع الندم وسيلعن التاريخ وتحاسب الشعوب كل من يحمل صفة (أبو ر غال) و(العلقمي) طال الوقت أم قصر.