قصّة قصيرة
سائق كريتي غيور جدّا
رشاد أبو شاور - كاتب وروائي وعضو المجلس الوطني الفلسطيني يقيم في الأردن
بعد أن وضعت حقيبة ملابسي في صندوق السيّارة، وجلست بجوار السائق، كلّمني السائق بلغته اليونانيّة المختلطة بمفردات إنكليزيّة بدت غريبةً وهو ينطقها، ففهمت منه أنه يسألني إن كنت جاهزا للتوجّه إلى المطار، فهززت رأسي مؤمّنا على ما لم أفهمه تماما.
انطلقت السيّارة، فتأملت الأبنيّة، والشوارع، وملامح العابرين على الأرصفة، بنظرة من لا يؤمّل العودة إلى مكان ألفه في الأيّام الأربعة التي قضاها فيه.
أودّع مدينة (خاينة) التي يلفظها الكريتيون (هاينه)، بحسرة.
(خاينة) أسسها العرب ميناءً قبل أربعمائة عام - أتراهم حرّفوا اسمها بعد خسارتهم لها؟! - فازدهرت بعد أن مرّت بتقلبات، وها هي ببحرها، وبيوتها وجمالها الممتّد على شاطئ ساحر، هادئةً، لطيفة.
نسيت أن أسأل بيتينا عن معنى اسمها، بيتينا الكريتيّة التي عرفتها في حفل الافتتاح منذ مددت لها يدي ببطاقة الدعوة، عند مدخل قاعة الاحتفالات، ثمّ لنلتقي في كّل الندوات، ودعوات الولائم، ونجلس متجاورين، نواصل أحاديثنا، وكأننا نلتقي بعد طول غياب.
بيتينا! أهو تحريف لبيتنا، وهل للاسم أصل عربي؟ أيكون أحد أسلافي العرب قد دلّل امرأةً كريتيّة ب(بيتي)، معتبرا إيّاها بيته الذي يؤوب إليه في هذا الميناء؟!
رفع السائق الهاتف الخلوي إلى أذنه، وأخذ يرمقني بطرف عينه - رأسه كبيرة، وشعر رأسه متجعّد، وخده سمين، وشاربه كّث، وأنفه ضخم - ثمّ أغلق الهاتف، ونفخ من أنفه بشيء من الغّل، وسألني بكلمات يونانيّة و..كلمة إنكليزيّة واحدة: girl.
ولمّا تجاهلت كلامه، متأمّلاً البحر الذي بهرني امتداده بينما السيّارة تصعد بنا الجبل في طريق متعرّج، لم أكن قد رأيته عندما حضرت بسبب هبوط الظلام، ازداد توترا.
- girl
أخذ يكررها وهو يرمقني بنظرة غّل، عين على الطريق، وعين تنقل نظراتها بيني وبين الطريق.
رسم ثديا على الشّق الأيمن من صدره، بأصابع راحته اليمنى، وهو يردّد الكلمة الإنكليزيّة:
- girl
وأنا ولا على بالي، كنت أستمتع بأن أغيظه، هو الغيور، وكأنني أنتزع فتاته من بين ذراعيه.
كانت بيتينا قد أخبرتني قبل مغادرتي الفندق أنها تحمل لي هديّة من والديها الذين سرّتهما قطعة التطريز الفلسطيني التي أهديتها لها، وأنها ستنتظر في الطريق على سفح الجبل.
التّف بالسيّارة في منعطف حّاد، فرأيت بيتينا تقف على حافة الطريق، هدّأ السرعة، وأوقف السيارة بمحاذاة قدميها.
انحنت ومدّت رأسها عبر نافذة السيّارة، وناولتني لفّة فيها الهديّة، ثمّ أشارت إلى بيت مشرع الشرفة في حضن الجبل، وقالت لي:
- هناك بيتنا، ووالدي ووالدتي يدعوانك لزيارتنا في الصيف القادم، البيت جميل، شاعري، كما ترى، ستكتب قصصا جميلة، تعال.. ننتظرك.
مرّت بباطن أصابع راحتها على جبيني، وأنفي، ثمّ همست بكلمات يونانيّة جعلت قلبي يزداد نبضا.
أخذ السائق يكّز على أسنانه، حين انطلق بالسيّارة كأنما يقتلعها اقتلاعا، وهو ينطق بكلمات فهمت منها أنه يؤنبني لأنني أبديت له أنني لا أعرف الفتاة، وأنه ليس بيننا شيء.
أخرجت رأسي، وصحت بأعلى صوتي:
- انتظريني يا بنيلوب..
انقضت الدقائق حتى المطار في صمت عدائي.
هبط لاحقا بي وأنا أجّر حقيبتي، وأنتزع بطاقة السفر من يدي.
أنهى الإجراءات، ثمّ مدّ راحته الكبيرة فسلّمت عليه مودّعا..
تأمّل وجهي كأنه يراني للوهلة، وهزّ رأسه، وعلى وجهه طيف ابتسامة غامضة، ابتسامة رجل غيور لا يغفر لي أنني تعرّفت بفتاة كريتيّة جميلة، وأنها قدّمت لي هديّة، ودعتني للعودة في الصيف.
رنّ هاتفي الخلوي، فأخرجته من جيبي، وأنا أردّد اسم بيتينا.
بقي واقفا متنبها كأنما يتسمّع كلامنا، عّض طرف شاربه، حينما أخذت أردد، وأنا أنظر في عينيه مباشرةً: girl ،girl ، girl.
وإذ ابتعد قلت لنفسي: هذه ال girl ليست لي، وهاينه ليست مينائي أيها الكريتي الغيور جدا.