بلد فيه الفلوجة لا يهان

سجل موقف مدينة الفلوجة العراقية برفض رفع العلم الجديد للعراق المحتل، وقبله موقف أهالي مدينة تكريت، خطوة أخرى في طريق تحرير هذا البلد المنكوب بالغزو الأمريكي الإيراني منذ ما يقارب الخمس سنوات.

بعض ممن لا يرى في الصورة غير السطح، قد يعتبر هذا الرفض ضربا من السباحة ضد التيار، أو تأويلا لا يتطابق مع الواقع، لاسيما أن المنطق الذي يراد له أن يسود وتروج له ترسانة الغزاة الإعلامية وذيولها المنتشرة في بغداد وخارجها، يحاول بشتى الوسائل أن يحشر في الأذهان حشرا أن هناك في هذا العراق مصالحة ووئاما وانفتاحا، وأن خطط الرئيس الأمريكي جورج بوش لضبط الأمن والاستقرار وتوطيد أركان "الديمقراطية" قد حان قطاف ثمارها، غير أن الذي فات هؤلاء أن هذه الثمرة التي يحلم بوش وذيوله بقطفها على أنها نصر سيجدونها في نهاية المطاف مرّة وغير قابلة للتسويق، لأنها ببساطة ثمرة حرام من أصل فاسد.

هذه الثمرة الحرام ذات الأصل الفاسد، ربما كان يمكن أن تجد من يتخذها تجارة لو غزا الكاوبوي الأمريكي بلدا ليس فيه شعب أو حضارة أو وطنية، ولكنه بحمق قاتل وغباء أعمى غزا هذا الكابوي بلاد الرافدين، ليلقى هناك جزاء حماقاته وتجاهله لمقدرات شعب سليل أمة علمت العالم كل سام ونبيل.

نقول هذا ليس عزاء أو تقليلا من فظاعة الجريمة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية وأذنابه بحق العراقيين ومن ورائهم العرب جميعا، بل للتأكيد على الحق في أن لا يغادر المجرم أرض جريمته منتصرا، وهذا ما يجب أن يتم وقد قدمت مدينة الفلوجة العراقية الجواب مرتين، مرة عندما كانت أول من انتفض على الغزاة بعيد احتلال بغداد في أبريل- نيسان 2003، وثانية ها هي ترفض ما يقدم على أنه علم للعراق وما سبق ذلك من مسرحية مداولات ومشاورات "برلمان" المنطقة الخضراء.

معركة العلم تندلع من الفلوجة في طريقها لتعم كل العراق، ومثلما كانت شرارة المقاومة الوطنية قد بدأت من هذه المدينة التي احتلت مكانا بارزا في تاريخ الشعوب المقاومة إلى جانب مدن عالمية مثل بورسعيد في مصر و"ديان بيان فو" و"هانوي" في فيتنام، فإن المعركة الجديدة لا تقل شأنا عن الأولى، بل هي الأقوى والأكثر شراسة، لأن المحتل يحاول أن ينقل المعركة إلى مرحلة أخرى تخدم مخططات التقسيم والتفتيت والتذويب من خلال ضرب كل ما يعتبر إرثا عظيما ورموزا خالدة هي من المكونات الأساسية للعراق، هذه المكونات التي أراد لها المحتل الأمريكي أن تذوب وتتفتت حتى لا يبقى غير ما يرسمه وينفذه عملاؤه وأتباعه.

ليس صحيحا أن العلم العراقي الوطني الذي قرر "نوري المالكي" استبداله ورحب به الأكراد في الشمال يرمز إلى فترة حكم الرئيس الشهيد صدام حسين، فهذا العلم أقدم من حكم صدام، ورموزه عراقية وليست بعثية، كما يزعم من يدعون الآن أنهم أصحاب سيادة، ويكفي أن نذكر أن النجوم الثلاث كانت وضعت في العام 1963 بهدف التطلع إلى الوحدة بين العراق وسوريا ومصر وليس كما يروج إلى أنها ترمز إلى شعارات حزب البعث العربى الاشتراكي وهى الوحدة والحرية والاشتراكية، فيما ترمز الألوان إلى الرايات الإسلامية، تلك الرايات التي عمرت العراق وبنت حضارته وصنعت وحدته ومجده، أما عبارة "الله أكبر" التي خطها الرئيس الراحل صدام حسين عام 1991 فقد كانت تعبيراً عن عمق انتماء هذه الأمة.

على هذا الأساس لن يكون التأويل مجافيا للحقيقة، إذا اعتبرنا أن من يدعو إلى ما يسمى العلم الجديد ما هو إلا داعية إلى تمزيق ما تبقى من العراق، وهادم لوحدته، وضارب لسيادته، وقاطع صلة بالماضي البعيد قبل القريب، ضمن مخطط محكم يرمى إلى سلخ هذا البلد العظيم عن أمته العربية وتشويه إسلامه بفتح الباب أمام عمائم بلون واحد، تفرخ الحقد وتكرس الشعوذة والخرافات.

هذه الغمامة السوداء سرعان ما تنجلي، لأن هذا البلد ذا الجذور الراسخة لن يقطع، حتى وإن تألب عليه الأعداء، وإذا كان غزاته اليوم ومواليهم لم يعتبروا من التاريخ، فلأن في ذلك مقتلهم، وتؤكد مقاومة العراق أن بلدا فيه مثل كل ذلك المخزون الهائل من المشاعل الحضارية ومدنا مقاومة كريمة مثل بغداد والبصرة والفلوجة لن يسقط أو يهان.

العرب التي تصدر في لندن (22/2/2008)