طاطي راسك، طاطي طاطي..

أنت مثقف ديمقراطي

علي الصراف

ماذا يبقى من الثقافة إذا لم تكن نقدا للسائد الاجتماعي والسياسي؟، وماذا يبقى من المثقف إذا لم يكن مشروعا للحرية؟، هل يمكن للثقافة أن تكون مطيةً للتستر على جريمة، ويظل بالإمكان وصفها كـ"ثقافة"؟، وهل يمكن للمثقف أن يتحول إلى مرتزق يعيش على فضلات احتلال وعمالة، ويظل بالإمكان وصفه كـ"مثقف"؟

وكيف يمكن لتاريخ الفكر والفن والأدب أن ينظر إلى "ثقافة" تتواطأ ولا تحتج، تنعم بعطايا السائد ولا تتمرد؟

وكيف يمكن لهذا التاريخ أن ينظر إلى "مثقف" يطأطئ رأسه للسلطة "أي سلطة" ولا يرفعه بقيم الثورة والمقاومة حتى ولو يُقطع؟

وما لم تكن الثقافة وخزة ضمير ضد القهر والتعسف، فبأي حق، وبأي معنى، تكون؟

وما لم يكن المثقف صرخة يقظة ضد كوابيس الموت والظلمة فبأي حق، وبأي معنى، يكون؟

لقد قدم تاريخ الثقافة في العراق أجيالاً من مثقفي الحرية والتمرد لم ينقطع سيلها حتى اليوم، ولكنه قدم في الوقت نفسه أجيالاً من مثقفي التواطؤ لم ينقطع سيلها حتى اليوم أيضا.

وثمة شرخٌ مروعٌ، ولن أذكر أسماء من فرط الخوف منهم وعليهم، ولكنه شرخٌ أعمق من هوة سحيقة، يدفنُ فيها بعض "المثقفين" ثقافتهم حيةً، ويهيلون التراب على أنفسهم. ويغرق فيها البعض الآخر بالغضب والحيرة.

أهو شرخ المثقف-الفرد؟

المثقف كان على الدوام فردا.

إلا انه كان على الدوام فرد-المجموع أيضا.

من هنا ينشأ الفرق. ومن هنا يبدأ الشرخ.

كان من بعض الثقافة أن نُعارض نظاماً، ونشقُّ عليه عصا الطاعة، وأن نبحث عن منافي لتمرداتنا الصبيّة وصرخاتنا الذاوية من أجل حرية كنا نعتبرها قدسا، ومن أجل قيم عدالة ومساواة كنا نظنها مشروعا ممكنا.

ووجد الكثيرون أنفسهم "ومنهم كاتب هذه السطور" مثقفين بمحض التمرد، وبمجرد الجرأة على قول "لا"، من دون أن يكتبوا شعرا، ومن دون أن يجترحوا للثقافة أي معجزة.

الثقافة، في أولها، لا شيء أكثر من تلك الـ"لا".. إنها حرف الثقافة الأول، منذ درايفوس إلى حفلة القتل التي تنظمها فرق الموت الصفوية-الصهيونية ضد "إخواننا السنة" "كما يسميهم قتلتهم بالذات، بلغة النفاق الفارسية"!

عندما كان من وحي التمرد أن تكون الثقافةُ نصرا للمظلوم على الظالم، فقد كان من جدير الثقافة أن يكون المرءُ فرد - مجموع مع الشيعة وفرد - مجموع مع الأكراد، وفرد مجموع مع الطلاب والبروليتاريا والفقراء والفلاحين والذين لا يريدون أن ينتموا إلى حزب "ولو انتموا".

اليوم صار هناك من "الثقافة" ما يتواطأ مع كل مجزرة يرتكبها الغزاة وعملاؤهم، من جسر الأئمة إلى حي الزنجيلي، من دون أن يتحسس "مثقفو" الارتزاق الذيل الذي نبت لهم في مؤخرتهم، ولا "الكرن" الذي يطلع لهم في رؤوسهم مع مشرق كل شمس تحت الاحتلال.

وصار من "الثقافة" أن يذهب الردح إلى القول إلى أن "إخواننا السنة" سيخسرون الحرب الأهلية، وأنهم لن تقوم لهم قائمة في السلطة أبدا!

عراق الاحتلال هو عراق الشيعة والأكراد و"صحوة" السنة، هذا هو عراق "المثقف" ديفيد بيترايوس وأتباعه من حملة أقلام كابونات الصمت والرشوة.

وعراقنا هو عراق المسيحيين قبل المسلمين، والصابئة واليزيديين قبل المسيحيين، والأكراد قبل العرب! هذا هو عراق محمد مهدي الجواهري ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البيات وبلند الحيدري وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف، وقد أحببناهم من دون أن نعرف من أي طائفة، أو أي ركن من العراق جاءوا، وأكبرنا عراقنا بعراقهم.

ولا تعرف ثقافة الحرية عراقا آخر.. إنه العراق الوحيد الممكن، والوحيد الذي سيبقى، ويذهب الزبدُ جفاءً.

***

"معارضة النظام السابق" "مما كان من بعض التمرد والثقافة، لبعض وقت" صار كل ما لدى ثقافة التواطؤ ما تتستر به الآن، إنما من دون أن ترى شيئا مما أورثه الغزاة وعملاؤهم لهذا البلد من موت وعسف وقهر ودمار وجريمة.

ولأنها لا ترى، فإنها لا تتمرد ولا تُعارض، ومع كل جثة تُلقى على ناصية رصيف، يقولون لك "النظام السابق"، ومع كل امرأة تُغتصب، يقولون لك "النظام السابق"، ومع كل مليون قتيل وملايين الذين حرموا من منازلهم على أسس طائفية يقولون لك "النظام السابق".!!!

ويا لهذا النظام السابق ما كان أعظمه حجة، لكي يتمرغ النظام "ما بعد السابق" بكل مستنقع لأعمال القتل الوحشية من دون أن يشعر أبداً أنه يفعل ما لم يكن يجرؤ عليه أي "نظام سابق"، من هولاكو إلى هتلر. "وحمدا لله أن هتلر هذا لم يكن عضوا في منظمة "بدر" لصاحبها "الحرس الثوري" الإيراني، ولا رئيسا لـ"حزب الدعوة" الصهيونية، وإلا لما كان بقى في ألمانيا أحد".

"النظام السابق" هو كل الذريعة التي تحمي صورة التعذيب لكي لا يبدو في عين "الشاعر" تعذيبا، والتي تحمي "الناقد" من أن يستمر ناقدا، والتي توفر للقاص والفنان والروائي الوسيلة لكي يطأطئ رأسه لديمقراطية القتل على الهوية والتهجير الجماعي والاعتقالات العشوائية والتعذيب وحمل الأوسمة عن أعمال الاغتصاب.

لماذا؟

لأنه مثقف ديمقراطي، يعيش في نظام قتل-قراطي، ويملأ جيوبه مما ينهب الحرامية على رأس سلطة الفساد-قراطي، فيقبض من رئيسهم رشوة لقاء تأجير "ثقافته" لمطايا الاحتلال بوصفه مستشارا للرئيس-قراطي، وخذ من هذا الـمضـ - راطى ما يكفى لكل "مثقف" أن يشعر أنه مُطي-قراطي، وانه كلما أراد أن "يعلو" و"يعلو"، فأنه لازم يطاطى يطاطي.

كيف حدث الشرخ؟

إنه زلزال العوز العظيم، لا شك، الذي خلل كل نظام الأخلاقيات والاعتبارات والقيم.

ولكن لا بد من الاعتراف أيضا، أن المسافة بين المثقف كحاصل جمع لعنجهياته الفردية، والمثقف كحاصل جمع لكرامة الأمة، ظلت تكبر حتى صار من الجلي أن هناك عالمين شديدي التناقض في بيئة الثقافة، ونوعين مختلفين تماما من المثقف، واحدهم وخزة ضمير، والآخر وخزة عصا، واحدهم مشروع حرية، والآخر مشروع استعباد. واحدهم كلمة مقاومة مسلحة ضد الاحتلال "بوجهيه الأمريكي والإيراني"، والآخر كلمة قهر واضطهاد وباطل.

من السهل القول أن مثقف الحرية يعيش أبد الدهر حرا، ويموت مثقف الاستعباد وهو يحيا على عطايا أصحاب "المعالي"، ولكن الشرخ ليس شرخ سلوك وصفة.. إنه شرخ تكوين.

"المثقف" الذي "يقبض"، و"المثقف" الذي وُلد لكي يُحتفى به بين هذا المربد وذاك الماخور، كان على الدوام موجودا، وكانت عنجهياته الفردية بعضا من عُدة النصب الثقافي التي يُقدمها لنفسه على أنه متوجٌ بريشة الغطرسة وسطوةُ الاعتداد الذاتي والدافع الذاتي و..النفع الذاتي.

ولكن مثقف التمرد والحرية كان هو وحده الذي يمنح الثقافة روحها، فإن تقدست في الضمائر، تقدّس معها في القلوب.

وكان يصرخ.

وكان يعرف أنه قد يُسجن وقد يُنفى وقد يفقد مصدر عيشه وقد يتعذب، إلا انه يظل يصرخ، شيءٌ ما، يملك عليه كيانه، فيجعله يصرخ، وصرخته تظل تدوي من أجل رفعة شأن الحرية والسيادة والكرامة الوطنية والقيم الإنسانية التي تجعل من مجتمعه مجتمعا، لا غابة أوباش وطوائف.

الثقافة فعلُ حرية أولاً،، والمثقفُ مناضلٌ أولاً.

من دون نقد ومعارضة وصراخ من اجل الحرية، لا يعود للثقافة أي معنى، ومن دون رؤية مجاهد تحوله إلى رمز للأخلاقيات الرفيعة والقيم، لا يعود للمثقف أي معنى أيضا.

وما لم تكن الثقافةُ قوةَ إدانة للقهر والظلم والتعسف، وما لم تكن بالتالي قوة تغيير ومقاومة، فإنها لا تعود أداةً لصنع أي شيء في التاريخ، ولن تترك خلفها أي علامة، وسرعان ما تصبح حرفةً للكلمات الفارغة، دجلاً يومياً، جزءا من حملة التجهيل والتسطيح والضحك على الذقون.

وها هي ثقافة العراق اليوم، وقد تبدلت من ثقافة حرية تلاحقُ الظلمَ والتمييزَ والاستعمار، إلى ثقافة لطّامة، حتى الشيوعيون فيها ينتظرون عودة "المهدي المنتظر"! بالتزامن مع تعزيزات بيترايوس الأمنية، وغدا سيحمل مؤتمرهم شعار "يا لثارات الحسين" "من "إخواننا السنة" بدلا من "يا عمال العالم اتحدوا".. فقد فرقتهم الطوائف، وجعلتهم دبابات العم سام هشيماً تحت كل طائف.

اليوم وقد صار بين هذين النوعين من المثقفين برزخ لا يلتقيان، فربما كان من المفيد أن يُرتسم خط الثقافة بين "المثقف" والمثقف، أن يقال لثقافة الاحتلال ومثقفي الجرائم الطائفية: لكم دينكم ولنا دين، أنتم براء منا، ونحن براء منكم.

نحن نرفع الرأس ليُقطع، ورؤوسكم لجرائم الاحتلال تطاطى تطاطي.

واحدنا "مثقف دكتاتورية" "ولو عارضها بالحرية"، وأنت مثقف ديمقراطي.

***

وما كان أصدقه أحمد فؤاد نجم نُطقا في التعبير عن بعض شرخنا، عندما قال:

"طاطي راسك طاطي طاطي

أنت ف وطن ديمقراطي

أنت بتنعم بالحـرية

بس بشرط تكون مطاطي"

"...."

"لما حاميها يكون حراميها

وبلاده ورا ضهره رامـيـها

طالع نازل واكل فيها

مسنود بالبدلة الظباطي

طاطي راسك طاطي طاطي

أنت ف وطن ديمقراطي"

"...."

"لما الكلمة تكون بتدينـك

لما تخبى ف قلبك دينك

لما الذل أشوفه ف عينك

هات إحباطك على إحباطي

طاطي راسك طاطى طاطي

أنت ف وطن ديمقراطي".