حرب الشتاء والصيف

هل تدفع دمشق ثمن هزيمة "إسرائيل" في لبنان؟

علي الصراف

يعرف "الإسرائيليون" "السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله" بأنه "رجلٌ يفعل ما يقول، ويقول ما يفعل"، وهم يعرفون أيضا أنهم خسروا جميع حروبهم في لبنان، حرب الصيف عام 1975 انتهت بالهزيمة رغم الاحتلال الطويل لجنوب لبنان، وحرب الصيف عام 1982 انتهت بالهزيمة مرة أخرى رغم نجاح "إسرائيل" بإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك انتهت حرب الصيف عام 2006 بالهزيمة أيضا رغم كل الدمار الذي تم إلحاقه بالبنية التحتية في لبنان، وفي كل هذه الهزائم كانت المقاومة اللبنانية التي يتصدرها "حزب الله" هي العامل الحاسم.

اليوم فقط صارت "إسرائيل" قادرة على الإقرار، ضمنيا، بأنها لا تستطيع الانتصار في أي حرب أخرى ضد "حزب الله"،

ولكن الاعتراف بالفشل، من جهة أخرى، هو نصف الطريق إلى النجاح، هذا ما تأمل به "إسرائيل"، ولهذا السبب صار ممكنا "للجنة فينوغراد" التي حققت في أسباب الفشل أن تقول أن "إسرائيل" هُزمت بالفعل وإن قياداتها العسكرية والسياسية ارتكبت جملة من الأخطاء التي أدت إلى تلك النتيجة.

الشيء الرئيسي الذي يتحاشى الخبراء "الإسرائيليون" ذكره أو التحدث فيه هو أن نظرية الوجود "الإسرائيلي" نفسها كانت هي التي هُزمت في الحرب الأخيرة، وجود "إسرائيل" كله يقوم على أساس نظرية الردع ونقل الحرب إلى أرض العدو، وهذه النظرية تشترط أيضا إبقاء العدو ضعيفا، مهزوما، محطما من جميع النواحي (العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية والمعنوية)، و"إسرائيل" إنما تنشر الخراب في جميع الدول المحيطة بها لأنها تؤمن بأن ضعف الآخرين هو مصدر قوتها الأهم، وأن مصيرها يتعلق بهذا الضعف حصرا، وبالتالي، فأنها لن تبقى على قيد الوجود إذا ظهر طرف لا تُخيفه قابليات الردع "الإسرائيلية"، أو إذا أظهر ذلك الطرف قدرة على النمو والتقدم العلمي بصورة لا يمكن التحكم بها، أو إذا فشلت "إسرائيل" في نقل الحرب إلى أرضه.

تدمير العراق وتمزيقه، كان واحدا من مفاعيل هذه النظرية، وتحويل دول الجوار إلى زرائب للتدخلات والهيمنة "الإسرائيلية" هو مفعول آخر من مفاعيل هذه النظرية أيضا، ونشر الحروب والنزاعات الأهلية بين دول المنطقة هو مفعول ثالث..

ما حصل في صيف عام 2006 هو أن "إسرائيل" فشلت في إضعاف "حزب الله"، بل أنها انتهت إلى تقويته، ثم أن الحرب لم تنتقل الى أرض العدو، بل انتقلت إليها، والمقاومة اللبنانية لم تعد تأبه بقابليات "إسرائيل" على الردع، ولبنانيو الجنوب لا يخافون "إسرائيل"، وقد تمكنوا من "شرشحة" وقهر "الجيش الذي لا يقهر" على نحو لم يسبق له مثيل، حتى أن أشلاء الجنود "الإسرائيليين" (وتشمل مئات الأيدي والأرجل والرؤوس المقطوعة) ما تزال في عُهدة "حزب الله"، ولا أحد يعرف أي جثث سلّمت "الحكومةُ الإسرائيلية" لأسر القتلى.

ببساطة، لقد تحولت "إسرائيل" إلى مسخرة.

وهذا هو وجه التهديد الحقيقي لوجودها كله.

ولم يكن ينقص "الإسرائيليين" سوى أن يأتي "السيد" حسن نصر الله ليُفصح عما يسكتون عنه، وليذكّرهم بما قاله "ديفيد بن غوريون" مؤسس الدويلة، بأن "إسرائيل لا تتحمل هزيمةً واحدةً، فإذا هُزمت زالت من الوجود".

نصر الله هدد أيضا، عقب اغتيال القائد العسكري لـ"حزب الله" عماد مغنية في دمشق، بأن الحرب المقبلة ستكون حرباً لإزالة "إسرائيل" من الوجود، وأن العد العكسي لبقاء "إسرائيل" قد بدأ، وقال لمغنية: "بكلمة واحدة، أقسم بالله، دمك لن يذهب هدرا".

واعتبر "نصر الله" أن "زوال "إسرائيل" من الوجود هو نتيجة حتمية وقانون تاريخي وسُنّة إلهية لا مفر منها"، وقال "نتحدث عن مسار تاريخي في المنطقة وهذا المسار سيصل إلى نهايته في سنوات قليلة".

وقال نصر الله أيضا إن مغنية قتل "في سياق عملية استباقية تحضر فيها "إسرائيل" لحرب جديدة على لبنان".

والحرب قادمة بالفعل، ولكن ليس ضد "حزب الله" في لبنان.

***

"إسرائيل" اعترفت بالهزيمة مع "حزب الله"، ويبدو أنها قبلتها، وهذا نصف الطريق إلى النجاح، الطريق إلى النصف الآخر يمر عبر دمشق، وبالأحرى، فلا يوجد أمام "إسرائيل" طريق سواه.

سوريا هي المعبر الذي يجعل "حزب الله" "قوةً لا تقهر"، هي القاعدة التي تجعل المقاومة اللبنانية قادرة على تحويل "إسرائيل" إلى مسخرة، وهي قوة الممانعة والاعتراض الوحيدة الباقية ضد مشاريع السلام القائمة على التسويف ونشر الخراب، ولكنها لا تحارب، ولا تريد أن تحارب، وتكتفي باللعب بأوراق، ورقة هنا، وورقة هناك، على ما يبدو وكأنه طاولة قمار.

من دون سوريا، ماذا يمكن لـ"حزب الله" أن يكون؟

لا شيء سوى مليشيا محلية، يمكن أن تستنزفها مليشيات محلية أخرى، ولا يتعدى أفقها السياسي مربع الوزارات والبرلمان في بيروت، ولكن بوجود سوريا، فأن "حزب الله" يبدو وكأنه قوة ذات نفوذ إقليمي، قوة تمتلك مشاريع عابرة للحدود.

هذا الفارق (وهو فارقٌ جذريٌ وحاسمٌ بالنسبة لقدرة "إسرائيل" على البقاء) إنما تصنعه سوريا.

وهناك طريقان، لا ثالث لهما، لإخراج سوريا من هذه المعادلة:

الأول، هو طريق المفاوضات.

والثاني هو طريق إسقاط النظام.

الأول، يتطلب إعادة الجولان، وهو ما يعني قبول تسوية شاملة.

ولكن الثاني يتطلب بضعة تحديات عسكرية وأمنية.

الأول، حرب صيف.

والثاني، حرب شتاء وصيف.

الأول، يعني قبول التسوية مكتوبة على صفحة هزيمة سابقة، وهذا يعني تقديم تنازلات.

ولكن الثاني، يتطلب تصعيدا سياسيا وأمنيا يُشعر الطرف الآخر بأنه هو الذي يجب أن يقدم تنازلات، وإذا نجح فإنه أكثر فائدة من الناحية الإستراتيجية على المدى الطويل، ويمكن أن يسحق كل مشروع ممانعة واعتراض على سياسات الهيمنة ونشر الخراب "الإسرائيلية" في المنطقة، ويساعد في كسب الحرب في العراق وإبقاء الاحتلال لمائة عام، ويعزل إيران ويجردها من ساحة مناورة إقليمية، ويشجع ملالي طهران على تحويل تحالفهم مع "الشيطان الأكبر" في بغداد إلى تحالف إقليمي، ويقنعهم بالتخلي عن برنامجهم النووي، ثم أنه يعيد الاعتبار، بقوة، لنظرية الوجود "الإسرائيلية".

ودمشق التي لا تحارب مشروع الهيمنة الامبريالية في العراق، وتكتفي بمحاربته في لبنان، يبدو أنها تفعل ذلك لأسباب طائفية، فحليفها الإيراني يتعاون مع المشروع الإمبريالي عندما يفيده طائفيا في العراق، ولكنه يحاربه عندما يضره طائفيا في لبنان.

هذا هو سبب التناقض في السلوك الذي تمارسه طهران ودمشق حيال المشروع الإمبريالي والصهيوني (الواحد) بين العراق ولبنان.

وهذا "مقتلٌ" حقيقيٌ للنظام في دمشق، إنه السيف الذي سيجد النظام في سوريا نفسه يسقط عليه، وإذا حصل، فللجميع أن ينتظروا من سفك الدماء ما يجعل كل ما يجري في العراق مجرد مزحة.

العروبة والعروبوية، كانت على الدوام عنصراً حاسماً من عناصر الاستقرار الداخلي في سوريا، من دون هذه العروبوية، ماذا يبقى للطائفة العلوية من غطاء يبرر هيمنتها على السلطة في دمشق؟

لا شيء في الواقع.

وفي الواقع، فإن للطائفية في سوريا دماً وتاريخاً ليس موجودا في العراق، فإذا وجدت سوريا نفسها متورطة (كما هو الحال الآن) في مشروع طائفي إيراني، فأن هذا السيف سيقطع من رأسها ما لم يقطعه من رؤوس السُنّة في العراق.

الزواج من السُنّة في دمشق، والسماح بذبحهم في بغداد، في إطار مشروع طائفي إيراني، يحوّل علاقة دمشق بطهران إلى شيء أكثر تعقيدا من فضيحة نفاق، إنه تهديد حقيقي لكل وجه من وجوه الاستقرار الداخلي في سوريا.

العروبوية حتى وإن كانت تبدو كمجرد غطاء أيديولوجي للسلطة، إلا أنها يجب ألا تكون مجرد غطاء، إنها الخندق الوحيد الذي يمكنه أن يمنع المذبحة ضد الأقلية العلوية في سوريا.

وهكذا، فلكي تدافع هذه الأقلية عن نفسها، فإنها يجب أن تدافع عن المشروع القومي (التوحيدي) لا عن أي مشاريع طائفية، لأن هذه المشاريع تضع السكين على الرقبة مباشرة، و... تحز في الموضع الذي الجميع يريد أن ينساه.

ولكي تدافع هذه الأقلية عن نفسها في سوريا (بتلك الروح القومية العزيزة) فإنها يجب أن تدافع عن السُنّة في العراق*، لا أن تتسامح مع ذبحهم بأيدي المليشيات الطائفية التي تدعمها إيران.

ولكي يبقى المشروعُ القوميُّ قومياً، فإن دعم ومساندة المقاومة الوطنية العراقية هو ما يجب أن تفعله سوريا.

بهذا فقط، يمكن حماية الاستقرار في سوريا، وبهذا فقط، لا تعود الطائفيةُ مشكلةً أو تهديداً بمجزرة، وبهذا فقط، يمكن تقوية مناعة النظام، وبهذا فقط، سيكون الدفاع عن هذا النظام دفاعاً عن القيم والمبادئ القومية والتحررية.

أيُّ شيء آخر، سيكون مقتلاً.

والتحالف مع نظام الملالي، وخدمة مشاريعه الطائفية، هو هذا المقتل بالذات.

***

"إسرائيل" والولايات المتحدة تعرفان ذلك جيدا.

اللعبةُ الطائفيةُ لعبتهما أصلاً، وهما المستفيدتان الرئيستان منها في العراق وفي لبنان، وفي كل دول الجوار، أنها جزء لا يتجزأ من نظرية الوجود "الإسرائيلية" نفسها.

فإذا كان إسقاط النظام في سوريا هو الخيار الأكثر فائدة من الناحية الإستراتيجية بالنسبة لـ"إسرائيل"، فهناك لتحقيقه طريقان: الأول، الحرب (في صيف ما)، وهذه مكلفة وغير مأمونة العواقب. والثاني، زعزعة الاستقرار من الداخل، ودفعه أكثر فأكثر ليجعل من تحالفه مع نظام الملالي تأكيدا على طبيعته الطائفية، وهذه حرب شتاء وصيف، تخوضها "إسرائيل" ضد سوريا، كما تخوضها سوريا ضد نفسها.

فإذا تم تشغيل الطائفية، من جانب الولايات المتحدة، تحت ستار الديمقراطية وحقوق الإنسان وإطلاق سراح المعتقلين والدفاع عن... "رجال الأعمال الأبرياء" (حسب ما قالته وزارة الخزانة الأمريكية الأسبوع الماضي لتبرير المزيد من العقوبات)، فإن النظام في دمشق سيسقط على سيفه هو.

المفارقة المضحكة والدامية، هي أنه مثلما يتناقض الحال بين "شيعة - عملاء" (في العراق) و"شيعة - مقاومة" (في لبنان)، فأن دمشق ستكون هي ميدان الفصل الآخر لتناقض الحال بين "سنة - مقاومة" (في العراق) و"سنة - عملاء" (في سوريا).

وهكذا تدفع دمشق، من عروبتها ومن خطابها التحرري، ثمن الهزيمة التي تعرضت لها "إسرائيل" على يد "حزب الله".

تحالف "سنة-العملاء" في دمشق مع أقرانهم في لبنان سيقضي على الكثير من بهرجة القوة التي يمثلها "حزب الله"، في حين أن هذا التحالف نفسه سيحاول أن يُحيط بالضعف والإحباط "سنة-المقاومة" في العراق، فتخرج "إسرائيل" والولايات المتحدة رابحتين على جميع الجبهات.

"إسرائيل" والولايات المتحدة ليستا، على أي حال، ضد السنة أو الشيعة لأنهم سنة أو شيعة، بل لأنهم مقاومة.

وكذلك ايران، فهي ليست ضد السنة في العراق فقط لأنهم سنة، بل لأنهم مقاومة ضد مشروعها الطائفي، في حين أنها ليست مع الشيعة في لبنان لأنهم مقاومة، بل فقط لأنهم شيعة (يُغذّون مشروعها الطائفي نفسه).

ودمشق في الوسط، تأخذ من بعض شيعة لبنان مقاومتهم، وتأخذ من بعض شيعة العراق عمالتهم، ولكن، ليس لأنهم مقاومة أو عملاء، بل لأنهم شيعة (كما يبدو الأمر تحت تأثير التحالف مع الدجّالين في طهران).

وهذا مقتلٌ، يخدم "اسرائيل" ولا يحمي أحداً في سوريا، وستعرف "إسرائيل" كيف توظّفه للانتقام من دمشق (وتاليا، من "حزب الله") بسيفها بالذات.

* المفارقة الأهم، هي أن هذه المقاومة ليست مقاومة سنية، وإن كان السنة هم جسمها الأكبر، إنها مشروع يتحدث بنفس اللغة التحررية والقومية التي تتحدث بها سوريا، ولكنه مشروع يقدم الدم قربانا على صدقه، وقربان الدم غير قربان الكلام.