المطران فرج رحّو.. يوم للمغفرة والتسامح

علي الصراف

سواء ظهر أن كبير أساقفة الكلدان في مدينة الموصل المطران فرج رحّو توفى بين أيدي خاطفيه من دون أن يتعرض للتعذيب، كما تفيد تقديرات الطب الشرعي، أو أنه قُتل بين أيديهم، فأن الجريمة التي ارتكبت بحقنا لن تكون أخف أو أهون.

والألم العميق الذي أصاب قلوب المؤمنين، مسيحيين ومسلمين، لن يكون أقل، ومن الواجب التذكير بأن الأسقف رحّو أُختطف يوم 29 فبراير-شباط الماضي بعد قتل ثلاثة من مرافقيه، وهو، إن لم يكن قد قُتل مرة واحدة، فأنه بمقتل مرافقيه كان قد قُتل ثلاث مرات، ولعله، وهو يرى ما آلت إليه أحوال العراق تحت الاحتلال، كان يُقتل كل يوم أيضا.

الجريمة لن تخف، ولن تزول. وجرحها، حتى إذا شُفى مع مرور الأيام، بقوة من عبق القيم المسيحية نفسها، فأنه يجب أن يبقى شاهدا وذكرى.

لا يدفع أهلنا المسيحيون في العراق، وفي الشرق كله، هذا الثمن لأنهم في نزاع ديني مع أحد، وهم لا يتلقون هذا الأذى لأنهم يتصارعون على سلطة، وهم لا يُصابون بهذا المصاب الأليم لأنهم يريدون شيئا أكثر مما يريده الآخرون لأنفسهم، وسوى العيش بمحبة وسلام وتآخ، مع أشقائهم من أتباع كل الديانات الأخرى، فأنهم لا يطلبون ولا يرغبون ولا يسألون، وعن كل رديئة يتعففون.

هؤلاء هم مسيحيونا، إنهم الطهرُ نفسه، والمودّةُ نفسها، والعطفُ نفسه، ذلك هو الجوهر الذي منه يأتون، وهو جوهر المعنى من المسيحية، وهم، كفداء عن الخطايا، ينظرون إلى دم المسيح عليه السلام، وقطرةً من ذلك الدم، كان فرج رحّو.

ولعلنا بغطرسة المخطئ، وفوق ما نلحقه من الألم بأهلنا، سنطلب أن يُغفر لنا، وأن تظللنا يد الرحمة، وأن نؤخذ بعطف.

ولعلنا سنركن إلى فوضى الاحتلال لنجعل من الجريمة غائمة، فنخفف من وطأة الأذى على أنفسنا، ولعل قلوبنا ستقول أن مرتكبي الجريمة قد يكونون مَنْ يكونون، وقد يرتكبون جريمتهم لأغراض لا سبيل إلى حصرها، وقد تأتى من كل اتجاه، إلا أن شيئاً لن يتغير من حقيقة أن الآلام التي تُلاحق المسيحيين في العراق، كما في الشرق كله، ما كانت لتبلغ هذا الحد، لو لم يكن هناك شرخٌ يسمح لمرتكبي الجرائم أن يدخلوا منه، وهذا الشرخُ من صنعنا نحن، قبل أن يكون مدخلا للمجرمين والغزاة والظالمين.

فأن يُصبح المسيحيون هدفاً للاضطهاد والتهديد، وهم أهلنا، وأبناءُ أرضنا، وجذرٌ من جذورنا، يعنى أن التفكك قد طال الحد الأدنى نفسه من قيم التعايش، ويعني أن مجتمع الأغلبية صار، على نحو ما، غائبا عن الوعي، حتى أنه لا يرى أن التهديد يطال وجوده نفسه، ويطال تكوينه نفسه، وبنية علاقاته نفسها، قبل أن يطال قيم الشراكة بين المسلمين والمسيحيين.

والسيد المسيح عليه السلام قد كان هدية السماء إلى الأرض، نعم، ولكنه ابن هذه الأرض أيضا، ابن مريم آل عمران الذين اصطفاهم الله للعالمين كما اصطفى آل ابراهيم، كنعانياً كان، وفلسطينياً كان، وبيت لحم التي وُلد فيها، هي بيتنا نحن، وهي ليست على أي حال لندن ولا نيويورك ولا باريس.

هنا، على أرضنا ولد سيدنا المسيح، إنه مسيحنا نحن أولاً، قبل أن يكون مسيحاً لغيرنا، وديانته ديانتنا، ونحن نملك فيها ما لا يملكه أي أحد آخر، ولهذا السبب كان من الحري بنا أن نحميها، ونحمى المؤمنين بها، ونراعى حقوقهم، ونجعل الشراكة معهم إيمانا بالقيم المقدسة للمسيحية والإسلام معاً، وكم كان من الحري بنا أيضاً أن نذكر، إذا اختلفنا، أن الخلافَ طفيفٌ، وانه لم يبلغ مبلغ الأذى في أي حين.

ولكنه يبلغُ اليوم مبلغَ الدم، لأن العمى صار عمىً أعمّ، وهو ليس عمى التطرف وحده، ولا عمى الوحشية وحدها، ولكنه العمى عن المسؤولية التي يتحمل وزرها الجميع، فجارك لا يُصاب بالأذى، فقط، لأن مجرماً ما اعتدى عليه، بل لأنك لم توفّر له الحماية أيضا.

ونكاد نرى رؤية العين أن خاطفي فرج رحّو أُسقط في يدهم، لأنهم رأوا رجل دين لا دنيا، ورجل دين دين، لا دين سياسة، ورجل محبة لا كراهية، ورجل إخلاص ووطنية جامعة، لا رجل مطالب طائفية.

ومثله، في الجوهر، كل مسيحيي العراق، ومثلهم كل مسيحيي الشرق، لأنهم الطُهرُ نفسه، والمودّةُ نفسها، والعطفُ نفسه.

يوماً ما، سنذكر يوم غياب فرج رحّو، كيوم للمغفرة والتسامح.

يوماً ما، سنجعل من هذا اليوم، مناسبة لكي نقدم وردةً لجارنا المسيحي، ونسأله العفو إذا أخطأنا، وأن يُبقينا في قلبه كإخوة مُحبين، فنشعر في سريرتنا أننا، بمحبته، نحمى نسيجنا الاجتماعي نفسه من التفكك والانهيار.

يوماً ما، سنكون مسلمين حقيقيين، يجلّون سيدنا المسيح، ويؤمنون برسالته، كما يؤمنون بكل رسل السماء الآخرين، وسندرك أننا، إذ نرفع العلاقة بين المسلمين والمسيحيين إلى مستوى الوطنية الجامعة، فإننا نحمى ديننا نفسه من دَرَك النزول إلى الطائفية.

ويوماً ما، سنفهم، إنك إذ تُدافع عن جارك، فإنك تُدافع عن نفسك، وإنك إذا تركته نهباً للظلم، فإن الظلم سيأتيك.