كل هذا "تقدم"، وكل هذا "انتصار"!!

علي الصراف

إذا كان حساب الجريمة لم يكتمل بعد، فأن حساب العقاب ما يزال في أوله، وقد تختلف التقديرات، بين هذين الحدين، حول مدى "التقدم" و"الانتصار" الذي حققته الولايات المتحدة بعد خمس سنوات من الحرب، إلا أن حساب الجريمة يقول أنه ما من شعب على وجه الأرض تعرض لمجزرة كالمجرزة التي يتعرض لها العراقيون، والمسألة قد تبدو مسألة حقائق وأرقام ونسب ومعدلات باردة تتداولها المنظمات الإنسانية والدولية، إلا أن المعاناة، التي تختفي وراء كل منها، تجعل من المستحيل العثور على سبيل لوصفها.

بالتأكيد، فأن النازيين أنفسهم لم يجمعوا من المآسي والضحايا والعذابات، في بلد واحد، ما جمعه الأمريكيون وعملاؤهم في العراق، ويمكن للمرء أن يختار أي بلد في أوروبا غزاه النازيون، ويقارن نسب الضحايا، قياساً بعدد السكان، وسيرى أن العراقيين ذُبحوا، وما يزالون يُذبحون، في مجزرة تعسر على الفهم، حتى إذا قيل أن الذين يرتكبونها مصابون بهستيريا القتل، فحتى المجانين يرتاحون من سفك الدماء، إلا الأمريكيون، وإلا عملاؤهم.

و"التقدم" مستمر، وهذا يعني، بطبيعة الحال، المزيد من أعمال القتل، والمزيد من الخراب، والمزيد من القهر والوحشية والفساد.

تتفاوت التقديرات حول عدد القتلى من المدنيين الذين سقطوا خلال هذه السنوات الخمس، إلا انه إذا أخذنا بالمقاربة الشهيرة التي اعتمدها فريق البحث الأمريكي التابع لجامعة جون هوبكنز، ونشرت في 21 أكتوبر/تشرين الأول عام 2006، (وهي المقاربة ذاتها التي قبلت الحكومة الأمريكية نتائجها في تقدير عدد الضحايا في مناطق أخرى من العالم، ولكن رفضتها في العراق)، فأن الغزو يودي بحياة ما بين 200-220 ألف إنسان سنوياً كنتيجة مباشرة للحرب والعمليات العسكرية، وهو نفسه تقريباً عدد الضحاياً الذين سقطوا في قنبلة هيروشيما النووية عام 1945 في اليابان، وبذلك يكون قد سقط على رؤوس العراقيين، حتى الآن، ما يعادل خمس قنابل نووية.

وتقول تقارير صدرت عن (منظمة حقوق المرأة في العراق)، إن ما بين 90 إلى 100 امرأة عراقية تترمل يوميا نتيجة أعمال العنف والقتل الطائفي، وتشير المنظمة إلى أن هناك 300 ألف أرملة في بغداد وحدها، إلى جانب 8 ملايين أرملة في مختلف أنحاء العراق، وهذا يعني أن نسبة الأرامل في العراق تشكل 35% من عدد نفوس العراق، و65% من عدد نساء العراق و80% من عدد النساء المتزوجات.

العراق، بهذا المعنى، تحول إلى مجتمع أرامل، إلى أرض سبي، إلى بلد، له في كل بيت، ضحية ومأساة.

وكل هذا "تقدم"!! وكل هذا "انتصار"!! كما يصف النازيون الجدد نتائج أعمالهم في العراق.

ويقول تقرير أصدره (برنامج الأمم المتحدة للتنمية) أن ثلث سكان العراق البالغ تعدادهم 25 مليوناً يعانون من الفقر، أي أنهم يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم.

وتقول الأمم المتحدة أن الحرب أدت إلى تهجير (4) ملايين إنسان داخل العراق ومليون وثمانمائة ألف آخرين خارج العراق، في أعمال ما تزال المنظمات الخاضعة للإرهاب الأمريكي تتردد في وصفها بأنها أعمال "تطهير عرقي".

وتقول الأمم المتحدة أن أربعة ملايين لاجيء عراقي يواجهون صعوبات في توفير الغذاء لأنفسهم، وأن 40 بالمئة من سكان البلاد لا يجدون مياه صالحة للشرب، وتشمل البطالة نصف عدد القادرين على العمل من بين السكان.

وقال راضي حمزة الراضي رئيس "هيئة النزاهة" السابق في العراق - وهو واحد من عملاء الاحتلال أنفسهم - في شهادة أمام الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "لقد نجحنا في التحقيق في أكثر من 3000 قضية للفساد وإحالتها إلى المحاكم للفصل فيها، ووفقا لسجلات بلدي، فإن 241 حالة فقط تم الفصل فيها حتى الآن". وأضاف "إن تكلفة الفساد التي كشفت عنها اللجنة حتى الآن عبر جميع الوزارات في العراق، قُدرت بحوالي 18 مليار دولار، وتقف على رأسها وزارة الدفاع حيث بلغ حجم الفساد 5 مليارات دولار، ثم التجارة 3 مليارات، فالكهرباء 3 مليارات، تليها النقل ملياري دولار، فالصحة ملياري دولار، تليها الداخلية مليار دولار، فالاتصالات مليار دولار، فالإسكان مليار دولار، ثم المالية 500 مليون دولار، فالنفط 500 مليون دولار"، وأكد الراضي أن تلك البيانات لم تستوعب قضايا الفساد جميعها فهناك قضايا كثيرة لم يتم إدراجها لأسباب متعددة منها عدم اكتمال الأدلة، ومنها اختفاء ملفات.

وتم خلال السنوات الخمس الماضية اغتيال 5500 عالم وخبير وطبيب ومهندس، في حملة كشفت وزارة الخارجية الأمريكية نفسها أن جهاز "الموساد الإسرائيلي" هو الذي ينظمها في العراق، في حين يتولى "الحرس الثوري" الإيراني ملاحقة وقتل الضباط السابقين في الجيش العراقي بموجب قوائم يقدمها قادة المليشيات الشيعية.

ويقول العالم العراقي الدكتور نور الدين الربيعي، الأمين العام (لاتحاد المجالس النوعية للأبحاث العلمية)، أن الغزو الأمريكي للعراق يهدف إلى تدمير مستقبل العراق باغتيال العلماء وحرق المجلدات العلمية في مراكز الأبحاث التي تشكل خلاصة الأبحاث العلمية التي أنفق عليها أكثر من 10 مليارات دولار، وأن 80% من عمليات الاغتيال استهدفت العاملين في الجامعات ويحمل أكثر من نصف القتلى لقب أستاذ وأستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، تلتها البصرة، ثم الموصل، والجامعة المستنصرية، و62% من العلماء المغتالين يحملون شهادات الدكتوراه، وثلثهم مختص بالعلوم والطب.

وكل هذا "تقدم"، وكل هذا "انتصار"!!

ولكن، ليس هذا هو كل وجه الجريمة، فأعمال التعذيب والاغتصاب شملت عشرات الآلاف ممن يعتقلون عشوائيا بتهمة "الإرهاب"، ولئن كان سجن أبو غريب قد أغلق بعد الفضيحة الشهيرة، فإنما لكي يتم فتح مراكز اعتقالات وتعذيب في كل مؤسسة تسيطر عليها المليشيات الحكومية، وحتى المستشفيات نفسها، تحولت إلى مسلخ لقتل المرضى والجرحى إذا ظهر أنهم من السنّة، وفي حين يقدر عدد الذين مروا على السجون التابعة لقوات التحالف بنحو 120 ألف إنسان، فأن تقديرات الذين مروا على المعتقلات التابعة للمليشيات الشيعية والكردية تتراوح بين 300000 و500000 إنسان ألقيت جثث الآلاف منهم في الشوارع، وقرب المزابل، وتعرض معظمهم لأعمال التعذيب، بوسائل من قبيل "المثاقب الكهربائية"، وما يزال هناك نحو 150000 معتقل، من دون تهمة أو محاكمة، لا تعترف حكومة "المنطقة الخضراء" بوجودهم في سجونها، وأصبح اغتصاب النساء أمراً مألوفاً، إلى حد أن العديد منهن صرن يفضلن الانتحار بحرق أنفسهن بالنفط، أو بإطلاق النار، على أن يتم سوقهن إلى المعتقلات، بل وتحول بعضهن (غالبا أمهات فقدن أولادهن) إلى انتحاريات، وذلك في واحدة من أكبر المنعطفات في الوضع الاجتماعي للمرأة في العراق.

وفي حين ظل عملاء الاحتلال يدوّرون الأسطوانة المشروخة عن "المقابر الجماعية" للنظام السابق، من دون كلل ولا ملل، فأن الهجمات التي شنها الغزاة ضد العشرات من المدن والبلدات العراقية، من الفلوجة إلى القائم، حولتها إلى "مقابر جماعية" للأحياء الذين تُلقى على رؤوسهم آلاف الأطنان من المتفجرات، من دون أن توفر الأسلحة الكيميائية أيضا. وفي حين أن ما يسمى "مجزرة حلبجة" (وهي قرية صغيرة على الحدود مع إيران) قضت، كما يزعم الأكراد أنفسهم، على 5000 ضحية (قبل أن يضربوا الرقم بعشرة فيما بعد وكأن تلك الحلبجة صارت عاصمة بحجم باريس)، فان ضحايا الهجوم على الفلوجة وحدها عام 2004 أدى إلى سقوط نحو 22000 ضحية وتهجير 250000 آخرين قضوا سنتين يعيشون في الخيام قبل أن يتمكنوا من العودة إلى منازلهم المهدمة.

وبرغم أن الجنود الأمريكيين يقتلون من دون حساب، إلا أن وحشيتهم نفسها صارت ترتد عليهم.

ويقول تقرير أعدته مجموعة عمل من "مجلس الجيش للصحة العقلية" (التابع للبنتاغون) عام 2007، أن 28% من الجنود الذين يُرسلون إلى مناطق القتال الكثيف يعانون من اضطرابات نفسية حادة، وأن عدد العسكريين الذين يعانون من مشاكل الإدمان على الكحول والمخدرات والخلافات الزوجية واضطراب علاقاتهم بشكل عام، ارتفعت بأكثر من 85% منذ اجتياح العراق قبل خمس سنوات، وهو ما يفسر جانباً من هستيريا القتل السائدة في العراق، فربع الجيش الأمريكي هم من المجانين رسمياً، وهم يقتلون الأبرياء، ويغتصبون الضحايا، ليس لأنهم يواجهون تهديدا أمنياً بالضرورة، بل لأن نساءهم يتحولن إلى عاهرات تحت مظلة الرئيس جورج دبليو بوش.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أقر الجيش الأمريكي أن نسبة الانتحار شهدت ارتفاعاً كبيراً، وأكد أن أكثر من ألفي جندي حاولوا الانتحار أو إلحاق الأذى بأجسادهم خلال 2006 مقابل نحو 375 خلال 2002.

وكل هذا "تقدم"، وكل هذا "انتصار". إلا أن الجريمة لم تمر من دون عقاب، وحسابه ما يزال في أوله.

فالمقاومة التي أوقعت نحو 4000 جندي قتلى وأكثر من 25000 جريح، الكثير منهم صاروا بعاهات دائمة، ومثلهم على الأقل بين صفوف المرتزقة (الذين لا يدخلون في حسابات الخسائر الرسمية)، كانت قد قلبت من الحسابات ما هو أكثر أهمية بكثير من عدد القتلى والجرحى في صفوف الغزاة.

كل المشروع الكوني للامبريالية الأمريكية يتحول، شيئاً فشيئاً، إلى أضغاث أحلام، ومن هنا سيبدأ الانهيار.

الوقائع تقول أن الولايات المتحدة إذا قررت أن تواصل "التقدم" و"الانتصار" في العراق فإنها ستمضي بسرعة إلى مزبلة التاريخ، وستلحق بها من الانهيارات ما لم تتعرض له قوة دولية عظمى من قبل، حتى انهيار الإتحاد السوفياتي السابق سيبدو مزحة أمام انهيار الإمبراطورية الأمريكية.

كيف؟ وهل يرى الخبراء الأمريكيون هذا الخطر ماثلا بالفعل؟

لقد كان البنتاغون قد قدر كلفة الحرب ضد العراق قبل خمس سنوات بحوالي 60 مليار دولار، الحرب، حسب ذاك التقدير، كانت تبدو رخيصة ومغرية، إلا أن تقديرات "البنتاغون" اليوم تقول أن الكلفة تصل إلى 600 مليار دولار، وفي حين يقول "مكتب الموازنة" في الكونغرس الأميركي أن كلفة الحرب لن تزيد عن 2 تريليون دولار، فأن الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز يقول بأن الكلفة الإجمالية للحرب على العراق ستصل إلى أكثر من 4 تريليون دولار.

هذه الأرقام قد تكون خالية من المعنى إذا جُردت من السياق الاقتصادي الذي تجد الولايات المتحدة نفسها فيه، ولكنها داخل هذا السياق يمكن أن تكون "القشة" التي تقصم ظهر البعير، وهي "قشة" ثقيلة ليس اقتصادياً فحسب، بل دبلوماسياً وإستراتيجياً أيضاً.

المفارقة الأبرز هنا، هي أن الولايات المتحدة لا تمول الحرب من جيوب دافعي الضرائب، كما كان الحال بالنسبة للحرب ضد فيتنام، بل أن واشنطن تمول الحرب ببيع سندات الخزانة، أي أنها تمول الحرب بالديون، وفي النهاية فأن هذه الديون يجب أن تُدفع، أو أن تُدفع، على الأقل، تكاليف خدمتها (الفوائد والأقساط).

يقول خبراء أمريكيون حسب "سي. أن. أن" أن الدين الداخلي الأمريكي أشبه بقنبلة زمنية موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، حيث يزداد بحوالي 1.4 مليار دولار يوميا، أي بحوالي مليون دولار كل دقيقة، ويبلغ حجم هذا الدين الداخلي حالياً 9.13 تريليون دولار، وهذا يعني أن كل أمريكي، سواء أكان رجلاً أم امرأة أم طفلاً أم رضيعاً، يولد وهو مدين بـ (30) ألف دولار تقريباً.

حسنا.. إذا كان الحال كذلك، فما المشكلة إذا زادت "القنبلة الموقوتة" تريليوناً آخر أو حتى أربعة؟

المشكلة هي أن ممولي الديون الأمريكية يجدون أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بشراء المزيد من الديون، وإذا توقف ممولو الديون عن الشراء، فأن القنبلة ستنفجر.

الصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا هي المشتري الأساسي لسندات الخزانة، وهي تفعل ذلك في محاولة لإبقاء الميزان التجاري مع الولايات المتحدة يميل لصالحها، وهناك، بطبيعة الحال، الدول النفطية العربية، التي تشتري هذه السندات لاعتبارات سياسية.

ولكن كلما اشترت هذه الدول مليارا، فأنها تخسر نسبة منه تساوي نسبة انخفاض قيمة الدولار، وخلال العامين الماضيين وحدهما خسر الدولار من قيمته 17%، بينما كان قد خسر 20% أخرى في الأعوام الخمسة التي سبقت، ما يجعل الإجمالي يصل إلى نحو 37%، أي أن كل مليار دولار خسر من قيمته 370 مليون دولار، وكلما خرج الرئيس بوش ليقول أن إدارته "تؤيد سياسة الدولار القوي"، كانت قيمة الدولار تنخفض، لأن أسواق المال تعرف أنه يكذب، وأنه يحاول، بخفض قيمة الدولار، أن يخفض قيمة الديون، ويرفع قدرة الصادرات الأمريكية على المنافسة، على حساب أولئك الذين يشترون سندات الخزانة أنفسهم.

ولكن "الذي يعيش بالحيلة، يموت بالفقر" (كما يقول العراقيون الذين لم تتعلم إدارة بوش منهم شيئا).

المشكلة لا تقف عند هذا الحد. فحسب تقرير التجارة الدولية، وبرغم كل الحيل، فأن العجز التجاري الأمريكي ظل لعدة سنوات يتراوح بين 50 و60 ملياراً شهرياً، وهو ما يعني أن العجز التجاري السنوي يمكن أن يصل إلى ما يتراوح بين 600 مليار و720 مليار دولار.

وفي علامة واضحة على أن الكارثة آتية لا ريب فيها، أظهرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية الصادرة الأسبوع الماضي أن صافي التدفقات الرأسمالية الأجنبية الإجمالي إلى الولايات المتحدة انخفض في يناير/كانون الثاني إلى 37.4 مليار دولار ليسجل أدنى مستوى منذ أربعة أشهر مع تحاشي مستثمري القطاع الخاص للأصول الأمريكية.

كيف تسدد الخزانة الأمريكية هذا النقص في التمويل؟

الجواب: طباعة المزيد من الدولارات، وهذا يعني خفضاً مباشراً لقيمتها، وخفضاً مباشراً أيضاً لكل قيمة الديون التي أشتراها الآخرون.

ويقول محللون حسب "رويترز" إن السبب المبدئي لهبوط الدولار في السنوات الأخيرة كان العجز الكبير في الإنفاق والتجارة. "ولم يكن القلق يساور سوى قلة قليلة ما دامت التدفقات الاستثمارية على الأصول الأمريكية المقومة بالدولار تغطي العجز، إلا أنه مع تباطؤ الاقتصاد وزيادة المخاوف بشأن استقرار النظام المالي الأمريكي وتزايد الخسائر من جراء العجز عن سداد الالتزامات الائتمانية، فقد بدأت قيمة الأوراق المالية المقومة بالدولار تتراجع في عيون المستثمرين، مما قلل الطلب على الدولار لتمويل مثل هذه الاستثمارات".

ويقول (أومير ايزينر) محلل الأسواق لدى "رويش انترناشيونال" في واشنطن "هذا من أسباب القلق الرئيسية، أي الخوف من أن يصل هبوط الدولار إلى نقطة يبدأ فيها المستثمرون الأجانب بيع معظم استثماراتهم وعندها سنواجه فعلا مشاكل تمويلية".

ويقول الخبراء أيضا "أ.ف.ب" إن العجز في الموازين الأمريكية هو السبب الأساسي للمشاكل المتزايدة في الاقتصاد لأنه يعكس ميل المستهلكين الأمريكيين للإنفاق بدلاً من الادخار والاقتراض بلا أي قيود من الخارج لتمويل الإنفاق.

ويقول (كيرت كارل) كبير خبراء الاقتصاد الأمريكي لدى شركة "سويس ري" لإعادة التأمين في نيويورك "يتعين أن نشهد قفزة هائلة في عوائد سندات الخزانة كمؤشر على أن هذا البلد قد يبدأ في مواجهة مشاكل التمويل، ولكن الوقائع تقول عكس ذلك".

وتواجه الولايات المتحدة خطر الانكماش الاقتصادي، ومع تفاقم أزمة القروض العقارية، لم يجد مجلس الاحتياط الفيدرالي من سبيل للحد من التدهور سوى ضخ المزيد من الأموال (أكثر من 200 مليار حتى الآن) إلى الأسواق من الورق المطبوع باللون الأخضر، وفي الوقت نفسه خفض معدلات الفائدة إلى 2.25%، مما يدفع إلى المزيد من خفض قيمة الدولار، ويهدد برفع مستويات التضخم إلى معدلات صاروخية قد تجعل من تركيا الثمانينات نموذجا للاستقرار قياساً بالولايات المتحدة في الأعوام المقبلة.

هذه العوامل بدأت تنعكس بوضوح على البورصات الأمريكية والأوروبية، وذلك في سلسلة من الانهيارات التي تقول أن المستثمرين يهربون بأموالهم بحثاً عن مراكز آمنة، و(رأس المال جبان كما هو معروف)، في حين أن الذين يطبعون الدولارات، من دون قيمة، هم وحدهم "الشجعان".

وقد يمكن للولايات المتحدة أن تنهب مليون برميل من النفط يومياً من العراق، مما يخفض كلفة الحرب عليها بمقدار 100 مليون دولار يومياً (36 ملياراً في العام)، ولكن بالنسبة لبلد يستورد 9.6 مليون برميل يومياً، ويدفع من أجلها أكثر من 100 دولار للبرميل الواحد، فأن العجز يظل هائلاً قياساً بما كانت عليه أسعار النفط قبل الغزو (50 دولار للبرميل تقريبا)، وهذا يعني أن الطموح بتحويل الغزو إلى مصدر للنهب والثراء، انقلب، في الواقع، إلى كارثة.

الركود سوف يحرم الحكومة الأمريكية من القدرة على زيادة الضرائب لتمويل العجز، وهو يعني في الوقت نفسه انكماش سوق الاستهلاك الذي كان يحث دولاً مثل الصين واليابان على شراء المزيد من الديون الأمريكية، وما أن يجد المستثمرون أنه لم يعد بإمكانهم تحمل المزيد من الخسائر في قيمة الأصول التي يحملونها فأنهم سيجدون أنفسهم مضطرين إلى قبول الخسارة والتخلي عن تلك الأصول.

وسبحة الانهيار ستكرُّ من هناك "إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم".

إلى الجحيم.

إلى سوء العاقبة وبئس المصير.

لا قيمة للبشر

ما يهم الولايات المتحدة هو مصالحها المادية، الثقافة الغربية كلها قائمة على استعباد البشر وقتلهم، من ناحية، وصنع المال من ناحية أخرى.

وما لم يشعر الغربيون أن "الميزان التجاري" بين قتل البشر وصنع المال صار خاسراً، فأنهم لا ينسحبون ولا يكفّون عن القتل، هؤلاء الفاشيست لا يتألمون، حقيقة، إلا عندما تُوجعهم جيوبهم.

وإذا ما تنبهت قوى المقاومة إلى التخريب الاقتصادي، كعنصر حاسم في المعادلة، فان إمبراطورية الشر، كيان الوحشية الأخير، سيسقط كما لم يسقط كيان آخر.