قرار آخر.. غير ميثاقي، وغير سيادي

معن بشور

لم يكن أهل السلطة عندنا بحاجة إلى اتخاذ قرار بمقاطعة القمة العربية في دمشق لكي يعبروا عن "اعتراضهم"، فالجعبة الدبلوماسية مليئة بخيارات عدة تستطيع تحقيق الغرض ذاته، فلا يكون تمثيل الدولة رفيع المستوى ولا تسجل الدولة على نفسها سابقة "المقاطعة"، وهو ما فعلته حكومات عربية باتت تشكل قدوة لأهل الحكم عندنا حتى لا نقول أننا نخشى أن يصبحوا لها وقوداً في حساباتها وصراعاتها.

"فالمقاطعة" تعبير ممجوج في قاموس" الاعتدال" العربي، وكثيراً ما كان يتهم أصحابه "بالسلبية" و"المزايدة" والنقص في "النضج" السياسي إلى درجة أن "مقاطعة" العدو الصهيوني ذاتها باتت موضع مراجعة أو إعادة نظر حسب المنطق الرائج لدى أهل "الاعتدال" العربي.

لكن ما يبدو أن بعض أهل السلطة الأكثر تطرفاً قد نجحوا في استدراج حلفائهم إلى موقعهم أو موقفهم التاريخي الذي لا يخفي الرغبة في فك الارتباط بين لبنان وهويته العربية وكل ما يترتب عليها من التزامات، بل انه هذا البعض لم يخف أبداً فرحه الكبير بأنه نجح في نقل "فريق لبناني كبير من موقع التمسك بالعروبة إلى موقع الانكفاء الفكري والنفسي والسياسي عن محيطه وهو انكفاء لا يتنكر عملياً لعروبة لبنان فقط، بل يتنكر أيضاً لوحدة الوطن لصالح "فيدرالية" أو "كونفدرالية" يسعون إليهما مهما طال الزمن، فكيف والزمن من حولنا زمن الفدرلة والتقسيم والمحاصصات العرقية والطائفية والمذهبية.

والحكومة المطعون أصلاً في ميثاقيتها وشرعيتها ودستوريتها من قبل فريق كبير من اللبنانيين لمخالفتها بنداً رئيسياً من بنود الميثاق والدستور ينص على أن لا شرعية لأي سلطة خارج سلطة العيش المشترك، تعطي اليوم لمعارضيها سلاحاً جديداً للطعن في ميثاقيتها وشرعيتها ودستوريتها حين تخالف بنداً رئيسياً آخراً من بنود الميثاق والدستور الذي يتصدر مقدمة الاثنين وينص على أن "لبنان عربي الانتماء" (وأن لبنان عضو مؤسس في جامعة العربية ملتزم بمواثيقها ومؤسساتها)، وهو نص سالت دماء كثيرة حتى خرج بهذا الوضوح في "اتفاق الطائف".

وقد يقول البعض ما علاقة هذا البند الدستوري بقرار سياسي يتعلق بمقاطعة قمة عربية، ولهؤلاء نقول ماذا يعنى "الانتماء العربي" إذا لم يكن مجسداً في الانضواء تحت لواء جامعة الدول العربية، التي فُصلّت أساساً على قياس الحساسية اللبنانية، وإذا لم يكن مترجماً في حرص على ديمومة المؤسسة الاعلى في هذه الجامعة، وهي مؤسسة القمة التي كانت وستبقى، رغم كل الملاحظات والاعتراضات على أدائها، فوق الأشخاص والأنظمة والاعتبارات العابرة، بل أنها تبقى مستهدفة من كل الذين حاولوا، وما زالوا، إحلال "نظام شرق أوسطي" يقوده الكيان الصهيوني مكان النظام الإقليمي العربي وعماده التضامن العربي، كما الذين حاولوا، وما زالوا، حلّ جامعة الدول العربية ومقرها قاهرة المعّز وصلاح الدين وجمال عبد الناصر لتقوم كبديل عنها "جامعة شرق أوسطية" عاصمتها الفعلية في تل أبيب.

فهل ننسى مثلاً أن قراراً أميركياً صريحاً قد حال دون انعقاد القمة العربية على مدى عشر سنوات (1990-2000)، وأن قمماً "للشرق الأوسط" وشمال أفريقيا قد أخذت تنعقد في دول عربية (عامي 1994 و1995)، وتحضرها حكومة تل أبيب مع انبعاث "مشروع بيريز الشرق أوسطي" إثر "مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو".

وهل يمكن لنا أن ننسى أن الإدارة الأمريكية سعت بكل ما تملكه من نفوذ إلى تعطيل قمم أخرى انعقدت بعد 2000، وإذ لم تنجح تماماً في تعطيل القمة فقد كانت تعمد إلى خفض مستوى التمثيل فيها ثم إلى تعطيل قراراتها ومبادراتها رغم أن الرأي العام العربي كان يرى في تلك القرارات اقل من الحد الأدنى المطلوب، ويرى في تلك "المبادرات" تنازلات غير مبررة وغير مرغوبة بل وغير مقبولة بالمقاييس الوطنية والقومية والدينية.

أما الذاكرة، والذاكرة القريبة جداً، فتفيدنا أن الإدارة الأمريكية لم تخف معارضتها لانعقاد القمة العربية العتيدة، ولانعقادها في دمشق بالذات، وان دعوتها كانت صريحة لإفشال هذه القمة أو إضعافها بل أن الإفشال كان واحداً من الأهداف الرئيسية لجولات بوش ونائبه تشيني ووزيرة خارجيته "رايس" في دول المنطقة.

وهذا ما يدخلنا إلى التناقض الثاني الذي يكمن في ثنايا قرار المقاطعة غير المسبوق بين شعار قامت عليه هذه السلطة منذ سنوات ثلاث وهو شعار السيادة والحرية والاستقلال، وبين الممارسة الفعلية المتمثلة بالرضوخ الصريح لقرار أمريكي.

فكيف تستقيم سيادة دولة واستقلاله مع مثل هذا التجاوب الحرفي مع مطلب أمريكي يطال واحدة من المسلمات اللبنانية وركناً من أركان الهوية العربية له.

وبالمناسبة لقد أعاد التذكير بالمطلب الأمريكي هذا أحد أركان الموالاة خلال زيارته الطويلة والمستمرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فالمقاطعة هنا، إذاً، هي انسجام كامل مع رغبة أميركية صريحة مثلما هي دعوة إلى موقف "مبدئي" صريح مقاطع للقمة لا حاجة معه إلى لف ودوران.

وهنا يقع فريق السلطة في التناقض الثالث وهو الطلاق البائن بين الإرث المعادي "للتزمت العقائدي"، و"السلبية السياسية"، الذي يقوم عليه تاريخياً خطاب هذا الفريق ومنهجه، وبين هذا الموقف "الجذري"، والتطرف "المبدئي" اللذين يكشفان في عمقهما عن ضيق افق وارتباك رؤى وانسداد طرق أكثر مما يكشفان عن رجاحة فكر، ورحابة صدر، وثقة عامرة بالنفس والمستقبل.

وهنا يخطر بالبال سؤال آخر: ترى لو كان رفيق الحريري موجوداً هل كان سيقبل بالمقاطعة التي كان يعتبرها دوماً نقيض نهجه العملي والبراغماتي القائم على المقولة الفقهية الشهيرة "ما لا يدرك كله لا يترك جلّه"، بل ترى لو كان كان واحداً من الآباء "المؤسسين أو اللاحقين" كبشارة الخوري ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي، وكفؤاد شهاب ورشيد كرامي وصائب سلام، وكشارل حلو وعبد الله اليافي وحسين العويني، وكسليمان فرنجية والصلحين تقي الدين ورشيد، وكالياس سركيس وسليم الحص، موجوداً في مركز القرار هل كان يقبل ان تنحدر السياسة اللبنانية الى مهاوي المقاطعة المرتبطة دوماً بالخيبات والإحباط والمشحونة بالإيحاءات السلبية عند أغلبية اللبنانيين سواء كانت المقاطعة في شأن يتصل بالسياسة الداخلية او الخارجية .

فالمقاطعة، إذاً هي أيضاً خروج عن المألوف اللبناني، وعن التراث اللبناني، وعن التقليد اللبناني، فهل دخلنا فعلاً عصر "التثوير والتجذير" وعلى يد من؟!

وإذا كانت مقاطعة القمة العربية مسكونة بكل هذه التناقضات المدمّرة، فمقاطعة لبنان لقمة دمشق بالذات زاخرة أيضاً بالتناقضات وعامرة.

فالعلاقة بين لبنان وسوريا كما علمنا التاريخ، وكما تحدثنا الجغرافيا، وكما تنبئنا المصالح والروابط، هي من الضرورات الحيوية للبلدين، أمناً واقتصاداً وثقافة واجتماعاً، بحيث لا ينبغي أن تؤثر بينهما أي لحظات عابرة مهما تكاثرت فيها الأخطاء، وحتى الخطايا.

وتصحيح العلاقة هذه، كما هي العلاقات بين اللبنانيين أنفسهم، يكون من داخل العلاقة لا بالخروج عنها، ويجري عبر تطوير العلاقة لا تدميرها، ومن خلال بنائها على قاعدة التعاون والتكافؤ والاحترام المتبادل لا عبر الغوص في أحوال التبعية أو العداء التي أجاد بعض ساستنا في الانتقال بينهما دون رادع أو وازع.

وما دام حديثنا في الميثاق والدستور، وما دام الطائف الرابط الذي يجمعنا جميعاً حتى الآن، فوثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ومن بعدها الدستور، قد منحا للعلاقات اللبنانية – السورية مساحة واسعة، لم يفرداها لعلاقة لبنان بأي بلد آخر.

بل أن الحجم الذي أعطاه "اتفاق الطائف" لباب العلاقات اللبنانية - السورية يفوق حجم العديد من الأبواب الأخرى، بل أن هذا الاتفاق، ولإنعاش ذاكرة بعض المتمسكين بحرفيته، قد نص بوضوح على وجود مجلس أعلى يضم الرؤساء في البلدين كما نص على بقاء قوات سورية في البقاع من اجل حماية خاصرة سوريا الاستراتيجية من أي عدوان "اسرائيلي"، وهو عدوان إذا وقع هذه المرة لن يترك "الممر البقاعي" إلى طريق دمشق- بيروت آمناً، وسيحاول تكرار ما فعله عام 1982 قبل أن يوقفه الجيش السوري في معركتي السلطان يعقوب وبيادر العدس الشهيرتين في البقاع الغربي.

فلماذا التمسك بالهدنة مع العدو، بذريعة أنها وردت في الطائف، والدعوة إلى القطع مع سوريا رغم كل ما ورد في الطائف.

إن العداء لسوريا هو خروج عن الميثاق وعن الدستور معاً، ولا يكفي لاتهامات سياسية غير موثقة قضائياً ضد دمشق في قضايا الاغتيالات والتفجيرات أن تكون سبباً في إقامة السدود والحواجز بين بلدين شقيقين، وبين شعبين تجمعهما أقوى الروابط والمصالح، وهي روابط ومصالح تحدث عنها أيضاً البيان الوزاري للحكومة الحالية، فيما أكد رئيسها الأستاذ فؤاد السنيورة في غير مرة، على "ضرورة فصل العلاقة بين وسوريا عن مجريات التحقيق الدولي والمحكمة" وكلاهما باتا في عهدة "المجتمع الدولي" الذي ينبغي أن نتذكر دائما أن بعض أركانه، وفي زلة لسان، قد ربط بين "تسريع المحكمة وتمويلها" من جهة وبين تعامل دمشق مع الأزمة اللبنانية من جهة ثانية، ليفتح المجال أمام الكثير من الشكوك والتساؤلات.

وهذا التأكيد نفسه اعتمدته كذلك هيئة الحوار الوطني في واحد من القرارات التي أجمعت عليها.

ولنذهب أكثر من ذلك، فإذا كان للبنان مطالب معينة من سوريا (ورد بعضها في قرارات هيئة الحوار الوطني كالعلاقات الدبلوماسية، وتحديد الحدود وغيرها) فأي محفل أفضل من قمة عربية منعقدة في دمشق لبحث هذه الأمور، ولحل الإشكالات القائمة، إذا كان هناك فعلاً من رغبة في الحل.

وإذا تذكرنا أيضاً وأيضاً، أن المبادرة العربية، في نسختها الأخيرة الصادرة عن مجلس وزراء الخارجية العرب في أوائل آذار الحالي، قد نصت بوضوح على ضرورة بحث العلاقات بين لبنان وسوريا في قمة دمشق العربية ألا تعتبر مقاطعة هذه القمة خروجاً عن "المبادرة العربية" ذاتها، بل تهرباً من بحث هذا الموضوع الحساس لما فيه مصلحة البلدين.

قد يقول قائل: لكن حجم التوتر بين أهل السلطة في بيروت والقيادة في دمشق كبير إلى الحد الذي لا يسمح بالحوار المنتج والجاد، بل حتى بالعلاقة الطبيعية بين البلدين، ولكن نذكر هؤلاء أيضاً أن شبه حرب كانت تقوم بين المغرب والجزائر على مدى عقود وأن الحدود بينهما كانت مغلقة والاتهامات المتبادلة عنيفة، ومع ذلك لم تقاطع الجزائر قمة انعقدت في المغرب، ولا المغرب قاطع قمة في الجزائر، بل ان الجزائر والمغرب ومعهما المملكة العربية السعودية كانوا الثلاثي الذي سعى عبر لجنة شهيرة بعد قمة الدار البيضاء عام 1989 إلى التمهيد لوقف الحرب اللبنانية وللوصول إلى "اتفاق الطائف".

ولقد شهدت العلاقات الثنائية بين الدول العربية تاريخاً حافلاً بالتوترات لم يحل، إلا فيما ندر، دون مشاركة الدول العربية في قمم انعقدت في دول كانت على خلاف حاد معها، بل أن بعض القمم شهد مصالحات عربية – عربية والأمثلة كثيرة.

فهل نحن أمام مقاطعة لقمة، أم قطيعة بين بلدين، أين منها تلك القطيعة التي فرضتها حكومة خالد العظم في دمشق عام 1950، والتي وما زال البلدان يدفعان ثمنها حتى اليوم، وكانت آنذاك مجرد قطيعة جمركية ونقدية لا قطيعة سياسية وأمنية ومصيرية كالتي يحاول البعض دفعنا إليها اليوم.

يبقى سؤال أخير، ولكنه جوهري بالطبع، وهو كيف تريدون للسلطة في لبنان أن تحضر قمة في دمشق، فيما دمشق تعطل الحل السياسي في لبنان وتحول عبر حلفائها دون انتخاب رئيس للجمهورية.

والرد الأفضل على هذا السؤال يكون بسؤال آخر، إذا كان أمر انتخاب رئيس توافقي، كالعماد ميشال سليمان، مهماً للموالاة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تفوت هذه الموالاة، على دمشق وحلفائها، "خطتهم التعطيلية" عبر القبول بحكومة وحدة وطنية لا يملك فيها أي فريق القدرة على الاستئثار والتعطيل (وهو ما تقوله المبادرة العربية)، وعبر القبول بقانون انتخاب منصف وعادل.

لكن الأمر على ما يبدو ابعد من ذلك وأكثر ارتباطاً بمجمل أزمات إقليمية ودولية أعاد أهل السلطة ربط لبنان بها، بعد أن كان شعارهم فصل لبنان عن أزمة الصراع العربي – الصهيوني بحجة "أنه لا يجوز أن يتحمل لبنان وحده عبء هذا الصراع"، فإذ بنا نحمًله أعباء كل صراعات المنطقة، وهي أعباء لا يمكن للبنانيين التخفيف من آثارها السلبية عليهم الا عبر الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية وهما حصنا السيادة والاستقلال والحرية.

المضحك - المبكي في قرار المقاطعة ليس في أنه أظهر أن أهل السلطة في لبنان "ملكيون أكثر من الملك" فقط، بل في أنه اسقط كذلك نظرية كان يجري الترويج لها عبر سنوات بأن كل من يزور دمشق، أو يسهم في دفع الضغوط عنها، هو جزء من المحور السوري – الإيراني، فإذ بدمشق تستقبل زعماء العديد من دول الأمة من محيطها إلى الخليج الذين لا يستطيع أحد، وبأي المقاييس، اعتبارهم جزءاً من ذلك المحور، بل أن بعضهم معروف بصداقته لواشنطن لكن دون أن ينسى أن الصداقة شيء، والتبعية شيء أخر، ناهيك عن أن بعض الغائبين عن القمة كانوا الأكثر حفاوة بالرئيس الإيراني حين زارهم أو شارك في قمم إقليمية نظموها.

وفي الختام، هل يملك أهل السلطة الجرأة للرجوع عن قرارهم بالمقاطعة، ممتلكين بذلك شجاعة التراجع، وحكمة المراجعة.

وقديماً قيل أن "الحكومة" تأتي من "الحكمة".

26/3/2008