العراق الساحة الأمامية في معركة العرب والإنسانية ضد العولمة الإمبريالية

إيان دوغلاس وهناء البياتي وعبد الإله البياتي

من "الولايات المتحدة في العراق: جريمة إبادة جماعية" -  ربيع 2007

في واقع الأمر، فإن سياسة الولايات المتحدة في العراق تصل إلى درجة الاستعمار وتتجاوزه، إن أفعال الولايات المتحدة في العراق في الوقت الحالي هي بمثابة محاولة موضوعية من أجل تدمير العراق كدولة وكشعب، في هذه الحال يكون قد تم التفعيل العمدي لمنطق الإبادة الجماعية للحرب الاستعمارية الجديدة وجعله الهدف النهائي. إن الأمر لا علاقة له بالحوادث العرضية أو عدم الكفاءة، بل ويتجاوز رد الفعل الانتقامي. إنه محصلة حالة كونية وإقليمية ومحلية كاملة. لذلك، وقبل أن نتناول كيفية تنفيذ ذلك المشروع، يجب علينا أن نتناول السياق الجيوبوليتيكي لتدمير العراق في حد ذاته. فالسياق الاستراتيجي لارتكاب الولايات المتحدة جريمة الإبادة الجماعية في العراق تعطينا الإطار الذي يمكننا من تفسير الأحداث وكذلك تقدير جسامة تلك الأحداث.

السياق الاستراتيجي للإبادة الجماعية

هناك ثلاث مجموعات أساسية من الأسباب التي أدت إلى اختيار العراق كهدف للتدمير. هذه الأسباب، والتي تعكس ثلاث مستويات سياسية (كونية وإقليمية ومحلية) تكون معا استراتيجية إمبريالية شاملة حيث يرتبط كل عنصر فيها بالأخر بل ويعتمد عليه.

1 - تأكيد الهيمنة الجيوسياسية الكونية للولايات المتحدة

حيث أنها "منطقة تكفي مواردها، إذا تمت السيطرة الكاملة عليها، لتوليد قوى كونية"، فإن السيطرة على "منطقة الشرق الأوسط" وEurasia هو أمر ضروري لأي محاولة للهيمنة على العالم، حتى عام 1989 كان تفوق الولايات المتحدة معطلا من قبل الاتحاد السوفييتي، ورغم الوجود الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة في "منطقة الشرق الأوسط"، إلا أن سيطرة الولايات المتحدة كانت افتراضية وليست فعلية، في حديثه إلى الشعب الأمريكي في عام 1980 لخص الرئيس جيمي كارتر هموم الولايات المتحدة في الحرب الباردة بشأن "الشرق الأوسط": "أي محاولة من قبل قوى خارجية للسيطرة على الخليج "الفارسي" سوف تعتبر اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وسوف نواجه ذلك بكل الوسائل الضرورية بما في ذلك القوة العسكرية"، وقبل ذلك في عام 1979 كان كارتر قد أنشأ فعلياً "قوات الانتشار السريع المشتركة" كرد فعل للغزو السوفيتي لأفغانستان وهي عبارة عن تجمع خاص من القوات الأمريكية جاهزة لإمكانية الانتشار في "الشرق الأوسط".

في عام 1981 أضاف الرئيس ريجان "لأزمة ريجان لبيان كارتر" حين أعلن أن الولايات المتحدة لن تستخدم القوى العسكرية "للدفاع" عن موارد النفط في "الشرق الأوسط" من التهديدات "الخارجية" فحسب، بل سوف تستخدم القوى العسكرية أيضا من أجل الحفاظ على "الاستقرار الداخلي" في المنطقة، "بالاستقرار" كان ريجان يعني فعلا ما يقول: الحفاظ على الوضع كما هو عليه وكما أصبح: تفكك العالم العربي والإسلامي وضمان التفوق الإسرائيلي، بالتالي، في عام 1983 عمل ريجان على تدعيم "قوات الانتشار السريع" كقوة مركزية للولايات المتحدة، وبحلول أواخر عام 1989 ومع سقوط "حلف وارسو"، ومع تفتت الكتلة السوفيتية، أصبحت الولايات المتحدة غير مهددة في أكثر مناطق العالم أهمية من حيث موقعها الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي، وهكذا أصبح من الممكن التفعيل الكامل للأهداف التي طالما كانت مكبوتة بفعل الحرب الباردة.

على حد كلمات هنري كسنجر: "إن النفط سلعة على درجة من الأهمية بحيث لا يمكن تركها في يد العرب"، إذا كانت تلك الكلمات تلخص السياسة الأمريكية التي ظلت غير معلنة حتى عام 1990، فقد أصبحت سياسة معلنة منذ انهيار "حلف وارسو"، إن نظام العقوبات الذي بدأ في عام 1990 وبعد "حرب الخليج" في عام 1991 هما بمثابة نقطة الانطلاق بالنسبة لخطة الولايات المتحدة للتحكم في "الشرق الأوسط" وEurasia والمستمرة حتى الآن.

في يوم ما سوف يصدر التاريخ حكمه بشأن الأسباب وراء "احتلال" العراق للكويت، قانونيا، لم يكن للعراق الحق في "غزو" الكويت، لكن نظام العقوبات الذي تبناه مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وسرعة تنفيذه وقسوته والنتائج المترتبة عليه، كل ذلك يقدم الدليل على وجود خطة مسبقة في عام 1990 لتدمير العراق وليس فقط وضع حد "لاحتلال" الكويت، إذا كان الاحتواء هو الفلسفة الاستراتيجية للحرب الباردة، فإن الإخضاع والاستبدال أصبحا هما الفلسفة السائدة منذ 1990، فقد أصابت العقوبات قلب العراق.

لماذا العراق بالذات؟ بالإضافة إلى كونه متحكم في ثاني أكبر احتياطي بترول في العالم، فإن الإجابة تكمن في موقعه الجيو-سياسي، إقليميا، "العراق بمثابة مفترق طرق، فأراضيه توفر الطريق للوصول إلى إيران من أجل الوصول إلى سوريا والأردن والمتوسط، وكذلك إلى سوريا والأردن في اتجاه إيران وحوض الخليج العربي، كما أنه الطريق الطبيعي من تركيا إلى الخليج وبالعكس، "إقليميا يقع العراق في الوسط ما بين آسيا والمتوسط، إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى للسيطرة على الاقتصاد العالمي فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك سوى عن طريق فرض نفسها كوسيط بين العراق وأوروبا والصين، وكما قال "بول فولفوفيتز" و"ديك شيني" (وزير الدفاع الأمريكي) في عام 1992، فإن الأمر يتعلق بـ "منع ظهور أي منافس عالمي محتمل في المستقبل" وذلك عن طريق "آليات تحول دون أن يطمح المنافسون المحتملون إلى لعب أي دور أكبر على المستوى الإقليمي أو العالمي."

وبحلول عام 1997 لم تعد العقوبات فعالة، ولذلك ومع الصعود المستمر لأوروبا والصين وما ترتب على ذلك من منافسة من أجل الحصول على النفط من أجل التنمية، اجتمع صهاينة مع سياسيي الشركات وأرسلوا تنبيها إلى واشنطن اسمه "مشروع القرن الأمريكي الجديد" وانتهت بذلك لغة "عصر جديد من عالم متعدد الأطراف" المرادف "للنظام العالمي الجديد"، إذ أن مستقبل أمريكا ذاتها أصبح متوقفا، حسب الليبراليين الجدد الذين صاغوا "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، على "السيطرة الكاملة"، وتنص وثيقة استراتيجية خرجت عن تلك المجموعة في عام 2000 أنه يجب التفكير في "وجود عسكري في منطقة الخليج"، "وجود فعلي دائم"، ويعترف "مشروع القرن الأمريكي الجديد" بشكل واضح بأن "الولايات المتحدة قد سعت على مدى عقود إلى لعب دور أكثر ديمومة في أمن منطقة الخليج، وعلى حين يوفر الصراع المستمر مع العراق المبرر المباشر، إلا أن الاحتياج إلى وجود عسكري أمريكي قوي في الخليج يتجاوز قضية نظام صدام حسين."

2 - السياسة الأمريكية استهدفت كسر الوحدة العربية

بنهاية "حرب الخليج" في عام 1991 أصبح من الواضح أن العراق يملك جيشاً ضخماً ومدرباً، قادر على الدفاع عن مصالحه الوطنية وذلك رغم ما تكبده من خسائر ضخمة ورغم كلفة الحرب الهائلة، فطوال الحرب الإيرانية-العراقية و"حرب الخليج" في عام 1991 أثبت الجيش العراقي أنه جيش من الفنيين في كافة الميادين، كذلك كانت وحدة الشعب العراقي المؤيد لحكومته ضد الأنظمة الأخرى واضحة، وبرز العراق كمدافع عن العرب جميعاً ضد الإمبريالية والصهيونية وطموحات إيران التوسعية التي بدأها الشاه وتبناها "آيات الله" في عام 1979، هذا الوضع كان مهددا للأنظمة العربية الموالية للأمريكان و"لإسرائيل" وكل من كان يخشى صعود أمة عربية تأمل في تحقيق الوحدة والاستقلال الاقتصادي والديمقراطية والتقدم.

منذ عام 1948 كانت الولايات المتحدة تحاول تحطيم الوحدة العربية بثلاث طرق أساسية:

1 - الدعم غير المشروط "لدولة إسرائيل" – كيان تأسس على النهب وعلى حرب استعمارية عدوانية ضد الشعب الفلسطيني – والمساومة مع المصالح السياسية الأمريكية على هذا الأساس.

2 - بلقنة العالم العربي على كل من المستوى الإقليمي (إضعاف التضامن العربي) والوطني (التآمر من أجل التقسيم الداخلي للدول العربية).

و3 - تحطيم الإنجازات التنموية العربية تمهيدا لفرض عولمة الشركات الأمريكية.

هذه العناصر الثلاث في سياسة الولايات المتحدة المستمرة في "الشرق الأوسط" يعتمد أحدها على الآخر بل ويدعم أحدها الآخر، بشكل عام، لقد كان هدف الولايات المتحدة ولفترة طويلة هو أن يبقى العالم العربي بمثابة "منطقة من عدم الاستقرار" حيث تستطيع الولايات المتحدة، من خلال شبكة دائمة الاتساع من القواعد العسكرية، أن تلعب دور الحكم الدائم والسلطة النهائية مما يضمن للولايات المتحدة هيمنتها على العالم ويحافظ على مصالحها الوطنية بواسطة القوة العسكرية.

إن استخدام واشنطن "لإسرائيل" رأس حربة عدواني لكسر العالم العربي، هو أمر موثق ومعروف، فبعد كل حرب عدوانية "إسرائيلية" على العالم العربي كان حجم المعونة الأمريكية "لإسرائيل" يزيد، قبل عام 1990، كان العراق هو البلد العربي الوحيد الذي كان يتمتع بدرجة من الاستقلال وبقدرة عسكرية قادرة على إحداث توازن مع توسع "إسرائيل" الاستعماري وعلى تحدي احتلال "إسرائيل" غير الشرعي للأراضي العربية، على العكس من السعودية ومصر والأردن ودول الخليج، لم يكن العراق معتمداً على الولايات المتحدة لا في مجال الأمن ولا فيما يتعلق بتوفير الرفاهة العامة للشعب، هذا الاستقلال وضع العراق – خاصة بعد "اتفاقية 1979 للسلام" بين مصر و"إسرائيل" – في مركز النظام السياسي العربي، على حين كانت التنمية العراقية أمراً مقبولاً طالما كان العراق في حرب لا نهائية مع جيرانه الشرقيين، إلا أن إنجازاته سريعاً ما اتضح أنها تتعارض مع المصالح الإقليمية والكونية للولايات المتحدة الأمريكية لحظة الوصول إلى وقف لإطلاق النار مع إيران.

إنه لأمر معروف أن "إسرائيل" كانت دائما ترغب في أن تنقسم البلدان العربية إلى كيانات إثنية وطائفية صغيرة، في مقاله الصادر في 1982 بعنوان "استراتيجية إسرائيل في الثمانينات" يقول أوديد ينون:

"إن تحلل لبنان الكامل إلى خمس أقاليم يمثل سابقة لكامل العالم العربي بما في ذلك مصر وسوريا والعراق والجزيرة العربية... إن انقسام سوريا والعراق، إلى مناطق إثنية أو دينية منفردة كما هو الحال في لبنان هو بمثابة هدف (إسرائيل) الأول على جبهتها الشرقية على المدى الطويل، أما هدفها على المدى القصير فهو تصفية القوة العسكرية لتلك الدول، العراق الغني بالنفط من ناحية والممزق داخليا من ناحية أخرى هو بالتأكيد أحد المرشحين للاستهداف من قبل "إسرائيل"، إن تفككه أهم بالنسبة لنا من تفكك سوريا، فالعراق أقوى من سوريا، إن القوة العراقية هي ما تمثل التهديد الأكبر (لإسرائيل) على المدى القصير، إن حرباً عراقية إيرانية سوف تمزق العراق وتتسبب في انهياره داخلياً قبل أن يتمكن من تنظيم معركة على جبهة واسعة ضدنا، كل شكل من أشكال المواجهات العربية فيما بينها سوف يساعدنا على المدى القصير وسوف يقصر الطريق أمام الهدف الأكثر أهمية وهو تفتيت العراق إلى طوائف مثلما هو الحال في سوريا ولبنان. في العراق من الممكن أن يحدث التقسيم على أساس من الانتماءات الإثنية والدينية كما كان الحال ي سوريا أثناء الحكم العثماني، ومن ثلم تصبح هناك ثلاث (أو أكثر) دول حول كل من المدن الثلاثة الأساسية: البصرة وبغداد والموصل، كما سوف تنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن المناطق السنية والكردية في الشمال" (التشديد كما في الأصل).

في كتابه، "حليف المستبد: فشل أمريكا في هزيمة صدام حسين"، يكتب "ديفيد فورمزر"، (مستشار "ديك شيني" الحالي لشؤون الشرق الأوسط)، معبراً عن أفكار مشابهة حين يدافع عن ضرورة تدخل الولايات المتحدة من أجل تشكيل "حكومة عراقية فيدرالية مفككة، ممثلة لكيانات طائفية وإقليمية قوية، "في عام 1996 يكتب "فورمزر"، بالاشتراك مع "دوغلاس فايث" (وزير الولايات المتحدة الأمريكية لشؤون سياسات الدفاع من 2001-2005) و"ريتشارد بيرل" (رئيس اللجنة الاستشارية لسياسات الدفاع من 2001-2003)، وكلاهما من "المحافظين الجدد" البارزين، يكتب وثيقة استراتيجية لرئيس الوزراء "الإسرائيلي" المنتخب حديثاً "بنيامين نتانياهو"، بعنوان "بداية نظيفة: استراتيجية جديدة لتأمين المجال"، في تلك الوثيقة يتم تشجيع "نتانياهو" على "إعادة التأسيس" "لمبدأ الاحتراز" بما في ذلك إزالة صدام حسين من الحكم، والذي هو "في حد ذاته هدف استراتيجي هام لإسرائيل".

مقال "ينون" وكتاب "فورمزر" يرددان تأكيدات وزير الخارجية "الإسرائيلي" السابق من "حزب العمل" "أبا ايبان" أن "الشرق العربي" هو بمثابة "فسيفساء" من الاختلافات الإثنية، إن الخطط الحالية بتقسيم العراق إلى ثلاث محميات ضعيفة ومتصارعة هي نتيجة مباشرة لتلك الأفكار، في العراق، لا تدور العملية السياسية الحالية حول الاستقرار وإنما حول الاستمرار في الحرب بطرق أخرى، حرب تستهدف تحطيم الدولة وبذر الصراعات بطول المنطقة وعرضها".

عبد الإله البياتي وهناء البياتي يصفان ما يدور بالكلمات التالية:

إن ما يطلق عليه اسم العملية السياسية، بدلاً من أن تأتي بالاستقرار إلى العراق، تتسبب وسوف تتسبب في مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، في واقع الأمر هناك الأحزاب الكردية في الشمال التي تعمل من أجل إنشاء كيان كردي في الشمال، دون تقييد من الحكومة المركزية، إن ذلك سوف يكون عاملا مثيرا لعدم الاستقرار بالنسبة لكل من إيران وتركيا وسوريا كما أنه محل معارضة من قبل غالبية العراقيين العرب، من ناحية أخرى تحاول القوى الدينية الشيعية بناء شبه دولة شيعية في الجنوب يحكمها مفهوم "ولاية الفقيه" (إنه مفهوم خطير يضع السلطة الدينية في منزلة أعلى من الانتماء الوطني) مشابه ومتحالف مع إيران، إن ذلك سوف يتسبب في عدم الاستقرار في كافة منطقة الخليج بما في ذلك "المملكة السعودية"، إنه أمر محل معارضة غالبية البلدان العربية، في حقيقة الأمر، أنه بدون عراق قوي وموحد، مسالم ومتعاون مع جيرانه المباشرين، لن يكون هناك استقرار لا في العراق ولا في المنطقة، وكما لاحظ سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، عن حق، أن ذلك سوف يؤدي إلى حرب أهلية وإقليمية.

كون ذلك التقسيم لازال مقترحاً، حيث أنه لم يكن متضمناً في الأهداف المعلنة للغزو الأمريكي غير المشروع في عام 2003، يكشف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انتقلت عن وعي نحو تنفيذ أجندة "إسرائيل" وتنفيذ تلك النتائج بمنتهى الدقة.

النتيجة الإجمالية: نصر استراتيجي "لدولة إسرائيل"، مزايا إضافية لإيران كوكيل من المستوى التالي، وتبرير لوجود أمريكي دائمي ومتزايد في جميع أنحاء "منطقة الشرق الأوسط".

البعد الثالث في سياسة الولايات المتحدة الإقليمية يتمثل في تدمير الإنجازات التنموية العربية المحققة وإضعاف وتحطيم الدول العربية ككيانات قابلة للنمو وفي نفس الوقت دعم الفساد والأنظمة الفاشلة والقمعية التي تخدم مصالح القوى الخارجية، وقد رفض العراق هذا المصير، ومما هو معروف في جميع الدول العربية أنه قبل عام 1990 كان العراق يملك أكثر النظم الحكومية الوطنية تطوراً في مجالات التعليم والصحة والخدمات الأساسية، على أساس من الصناعات البترولية المؤممة وموارد العراق المائية تمكن العراق من تحقيق تنمية وطنية وتطوير للدولة مستقلاً عن رأس المال الأجنبي وبالتالي مستقلاً عن التأثير الخارجي، شمل البنية التحتية والعلوم والتقدم العسكري والضمان الاجتماعي، لقد استهدفت العقوبات العراقيين شعباً ودولة وليس فقط الحكومة العراقية أو الجيش العراقي، وفي واقع الأمر إن نظام فرض العقوبات على العراق ليس له سابقة في التاريخ الحديث، فقد أدى وبشكل منهجي إلى تدمير إنجازات العراق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية وأدى إلى ما يتجاوز مليون ونصف حالة وفاة خلال ثلاثة عشر عاما.

بشكل عام، فإن تلك الأبعاد الثلاثة لسياسة الولايات المتحدة الإقليمية – كسر الوحدة الإقليمية باستخدام إسرائيل أداة لذلك، بلقنة وتقسيم الدول العربية إلى كيانات إثنية وطائفية، وتدمير القدرات العربية على التنمية – من حيث تصميمها تسعى إلى التأكد من أن العالم العربي ككل لا ينجح أبداً في تحقيق القدر المطلوب من التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي تسمح له بالاستفادة من موارد النفط والغاز والمعادن الهائلة التي هي ملكه وثروات يحق له ممارسة سيادته عليها.

إن الحفاظ على العراق بالذات في حالة عدم استقرار هو أمر جوهري بالنسبة للخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها، على حد تعبير عبد الإله البياتي وهناء البياتي، وفي ضوء موقع العراق المركزي من المنظور الجيو-سياسي: "إن أقل تدهور في العلاقات بين العراق وبين أي من جيرانه يؤدي فورا إلى تدهور في علاقات التعاون مع المنطقة بأسرها." كذلك فإن مايكل ليدين، العضو المؤسس في "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" وهو من بين "المحافظين الجدد" البارزين، عبر عن الحقيقة سنة 2002 بقوله: "الاستقرار هو مهمة أمريكية لا تستحق شيئا كما أنه مفهوم ضال لا يجوز ترويجه، نحن لا نريد الاستقرار في إيران وسوريا ولبنان ولا حتى في "السعودية العربية"، إن لب الأمر هو ليس ما إذا كنا نهدد ذلك الاستقرار أم لا، وإنما السؤال هو كيف نهدد ذلك الاستقرار، إن التدمير الخلاق هو الاسم الوسط بالنسبة لنا، لطالما كره أعداءنا زوابع الطاقة والإبداع التي تهدد تقاليدهم (بغض النظر عن طبيعة تلك التقاليد)، يجب أن ندمرهم لكي نتقدم في مهمتنا التاريخية."

3 - مصالح الولايات المتحدة الوطنية المشتركة والطارئة

إن مجمل كيان الولايات المتحدة ينتظر الموت، لقد كانت نهاية عصر البترول بمثابة النطق بالحكم، لا يوجد نظام حياتي على وجه الأرض يعتمد على النفط مثل الولايات المتحدة التي تنفق 20.000 دولارا أمريكيا على النفط في الدقيقة، إن الاقتصاد الاستهلاكي، الذي يعتمد على النفط والأجور العالية نسبيا هو الضامن للهدوء الداخلي في الولايات المتحدة، الكثير من صناعات الولايات المتحدة الأساسية – المحمية والغير قادرة على المنافسة والمعتمدة على أجور عالية – سوف تنهار إذا توقفت موارد النفط المضمونة والتي يعتمد عليها ثبات الأسعار، مع انهيار تلك الصناعات سوف يغرق الاقتصاد الاستهلاكي في الإمدادات فتنهار الأسعار ويتوقف النمو، أما خارج المجال الوطني فإن العولمة الأمريكية، الاستغلالية في طبيعتها، تعتمد على الآلة العسكرية الأمريكية والتي بدورها تعتمد على النفط الخارجي، وإذ يقترب كسوف عصر النفط فإن تلك الحقائق الموضوعية تمثل طارئا وطنيا بالنسبة للولايات المتحدة.

إن ضعف الاقتصاد الأمريكي لا يتمحور فقط حول إمدادات النفط، فمجمل كيان الولايات المتحدة يراهن على استخدام الدولار باعتباره العملة الرئيسية لمبادلات النفط، ومنذ وقت طويل فرضت الولايات المتحدة أن تتم كافة معاملات النفط في (الأوبيك) بالدولار فقط، مما جعل من الدولار العملة العالمية للاحتياطي، بل أن صناعة البترول الكونية هي الضامن والمحرك للاقتصاد العالمي للدولار، أي تغيير في هذه المنظومة يهدد بالانفجار ذلك الوهم الذي  يستند إليه التفوق الاقتصادي الأمريكي، لو أن الدولارات عادت منهمرة إلى الولايات المتحدة فإن ذلك سوف يخلق حالة من التضخم الشديد يتبعه حالة تضخم مصحوبة بالركود الاقتصادي حين تبدأ الصناعات المحمية وغير القادرة على المنافسة في الانهيار، إذ يتم إدراك أن نهاية عصر النفط قد اقتربت، وإذ تبدأ قوى أخرى في الصعود، مثل الاتحاد الأوروبي والصين، يصبح هذا الاعتبار المالي عنصرا ثانيا في حالة الطوارئ الداخلية في الولايات المتحدة.

بحلول عام 1997 أدرك "مشروع القرن الأمريكي الجديد" المستوى المزدوج للحالة الاستثنائية في داخل الولايات المتحدة والتزم بتناولها، ورغم أن تدمير العراق بقيادة الولايات المتحدة كان قد بدأ فعلياً إلا أن الموقعين على "مشروع القرن الأمريكي الجديد" يعبرون عن قلقهم من أن الولايات المتحدة تواجه أزمة – ومن ثم يشرعون في الإسراع بحلها، "مشروع القرن الأمريكي الجديد" يعلن عن وجوده من خلال سؤال وتحذير: "هل تملك الولايات المتحدة العزيمة لتشكل قرن جديد يخدم المبادئ والمصالح الأمريكية؟ إننا في خطر من أن نضيع الفرصة وأن نخذل ذلك التحدي، إننا نعيش من فائض رأس المال – لكل من الاستثمارات العسكرية وإنجازات السياسة الخارجية – الذي راكمته الإدارات السابقة." وإذ يكيل "المحافظون الجدد" اللوم على إدارة "كلينتون" آنذاك، فإنهم، أصحاب "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، يطالبون بزيادة الإنفاق على الدفاع والسياسة الخارجية للحد – بدون سخرية – "من وعود المزايا التجارية قصيرة المدى" التي تهدد "بأن تطغى على الاعتبارات الاستراتيجية."

في عام 1999، يسخر "ديك شيني"، وكان رئيس شركة "هولبيرتون" النفطية، وأكبر مقاول في عراق ما بعد الغزو، من مسألة الإمداد: "بحلول عام 2010 سوف نحتاج إلى 50 مليون برميل إضافية يوميا، من أين إذن سوف يأتي هذا البترول؟.. رغم أن الكثير من مناطق العالم تعرض فرص بترولية ضخمة، إلا أن الجائزة في النهاية تكمن في "الشرق الأوسط"، الذي يملك ثلثي نفط العالم وبأرخص الأسعار، ورغم أن الشركات تحرص على مزيد من الحصول عليه من هناك، إلا إن التقدم في ذلك الشأن لازال بطيئاً." وبحلول أيلول/سبتمبر 2000 يبدأ أصحاب "مشروع القرن الأمريكي الجديد" في فقدان صبرهم رغم أن أفكارهم بدأت تلقى بعضا من الاهتمام، "القيادة العالمية ليست أمرا نمارسه حين تسمح لنا الظروف أو حين يكون ذلك مناسب لمزاجنا أو حين تواجه مصالح أمننا الداخلي بتهديد مباشر؛ عندئذ يكون الوقت قد تأخر. إنه اختيار يتعلق بما إذا كنا نريد أو لا نريد أن تحافظ أمريكا على تفوقها العسكري، وأن نحافظ على قيادة أمريكا في المجال الجيو-سياسي وأن نحافظ على السلام الأمريكي."

لقد قيل الكثير عن أن ادعاء "مشروع القرن الأمريكي الجديد" بأن تغيير الاستراتيجية الأمريكية سوف يكون أمرا بطيئاً ومحبطاً "في غياب أي حدث كارثي أو طارئ – مثل معركة بيرل هاربور جديدة." الكثيرون يعتقدون أن أحداث 11 أيول/سبتمبر كانت هي المحرك المناسب، في واقع الأمر فإن "البيرل هاربور" الحقيقية هي ما حدث في بعد أسابيع من نشر ذلك التنبؤ من قبل "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، ففي السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 2000 بدأ العراق في بيع البترول باليورو على حين بدأ آخرون (فنزويلا، إيران، روسيا، ليبيا) في التهديد بالسير في نفس الاتجاه، وبعدها قام العراق بتحويل مخزونه لدى الأمم المتحدة إلى اليورو أيضا والذي بلغت قيمته 10 بليون دولار، بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر 2000 قام اليمين الجمهوري بمواجهة الطوارئ الوطنية طويلة المدى فورا، إذا كان لاقتصاد النفط أن يتحول إلى اليورو فإن ذلك سوف يتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي، إن هذه هي الظروف التي أحاطت بالمداولات التي قادها "شيني" حول الطاقة في بداية 2001 والتي لازالت قراراتها حتى الآن معلومات سرية.

لقد تحولت حالتا الطوارئ على المستوى الوطني إلى حالة طوارئ واحدة: صدام حسين والشعب العراقي ينتصرون على العقوبات على حين تقوم دول أخرى بتطويقهم مما أبطأ من التقدم على صعيد الطموحات النفطية الإقليمية الضخمة، لقد لعب صدام حسين بالكارت الرابح وأصبح بخطوة واحدة يهدد مجمل الأساس الذي يعتمد عليه الاقتصاد الأمريكي، لقد كان العراق هو ذلك البلد الذي لم يساوم ونجح في إطلاق الصواريخ على "إسرائيل"، كما أنه كان البلد الذي استخدم نفطه من أجل التقدم والذي ساعد بلدان فقيرة في آسيا وأفريقيا والعالم العربي، وإذ أصبح العراق هو ذاك البلد القادر على تحدي الإمبريالية في وقت كانت فيه منتصرة في كل مكان آخر في العالم، فإنه بذلك وقع على الأمر بتنفيذ حكم إعدامه، يجب أن يموت، أن تتقاتل شركات البترول الأمريكية الضخمة حول الموارد العراقية المسروقة، ذلك أمر إضافي، الأمر الحقيقي كان الدفاع الوطني – أي الدفاع عن نظام حياة أمة تستهلك 25% من موارد الطاقة في العالم على حين لا تمثل سوى 4.6% من سكان العالم، نظام ينتج 600.000 طن من القمامة يوميا.

4 - استراتيجية موحدة للإبادة الجماعية

لضمان تفوق الولايات المتحدة كان على العراق أن يصبح الاقتصاد الواحد والخمسين للولايات المتحدة الأمريكية، إن ذلك لا يمكن إلا أن يعني الإبادة الجماعية، فما من سبيل آخر يمكن الولايات المتحدة من التحكم فيما كان على مدى 6000 عاما وحدة جيو-سياسية وقلعة للقومية العربية طوال القرن العشرين، ما من سبيل آخر تستطيع به الولايات المتحدة أن تنتزع من العراقيين المصدر الأساسي للرفاهة المادية والرفاهة في المستقبل ولا أن تفرض على ثقافتهم فكرة الملكية الأجنبية لثروات بلادهم، إن تدمير الدولة العراقية لن يكون كافياً، للسيطرة على العراق، في موقعه المركزي، لا بد من تدمير هويته العربية الإسلامية – لا بد من محوه تماما كشعب.

كل ما سبق مجتمعا يمثل السياق والدوافع الاستراتيجية – الكونية والإقليمية والمحلية – التي كانت وراء تدمير دولة و شعب العراق، لا يمكن النظر إلى أي من تلك الجوانب منفصلاً عن الآخر، فكل واحد منها يدعم الآخر، ومن خلال بلايين الأفعال التي تلتقي مع تلك الأهداف الاستراتيجية الواسعة الثلاث يمكننا أن نقتفي أثر "القصد في التدمير" لدى الولايات المتحدة، على حين يشير الترابط العام بين تلك الأسس الثلاثة الاستراتيجية الولايات المتحدة "إلى التدمير المتقصد" للعراق كنتيجة منطقية لسياسة استراتيجية أمريكية مستقرة تجاه "الشرق الأوسط" والعالم.

لا شيء في هذا المنطق يمكن أن يبرر لتنفيذه، بل أنه لا يوجد في ذلك المنطق ما يمكن تبريره، إن القصد المحدد، وليس التنفيذ، هو ما يعرف جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي، أما ادعاءات "الهيمنة الخيرة" التي تصاحب الخطط الكونية الأمريكية فلا معنى لها على الإطلاق، إن القصد وراء تلك الخطط يمثل الإبادة الجماعية، إن الخطط المحلية والإقليمية والكونية للولايات المتحدة هي التي تفرض المنطق المتضمن في التفكير والتخطيط العسكري، إن التنفيذ ما هو إلا مرآة للقصد، وكما قال "موريس وشارف"، "ليس من الضروري أن يكون الفرد على علم بكافة تفاصيل سياسة أو خطة الإبادة الجماعية"، فنمط التنفيذ كاف لاستنتاج الجريمة.