"داركولا" النفط العراقي!
جواد البشيتي *
خمس سنوات من التدمير المنظَّم للعراق وشعبه قد انقضت، و"المهمَّة" لم تُنْجَز بعد، ولا بدَّ من استكمال إنجازها، ولو تعب الآخرون، على ما أعلن وأكَّد مهندس الغزو ديك تشيني، الذي على تغنيه بما أُحْرِز من أمن واستقرار في العراق لم يجرؤ لا هو، ولا الرئيس بوش، ولا حتى الأقل منهما مكانة في الإدارة الجمهورية، على زيارته بما يُظْهِر ويؤكِّد شيوع الأمن والاستقرار في ربوعه.
و"المهمة"، التي أُكْرٍِه المجتمع الدولي على أن يقف منها مواقف سمحت لإدارة الرئيس بوش بأنْ تدَّعي تمتُّعها بـ "الشرعية الدولية"، ما عاد مُمْكناً تعريفها، وتعيينها، لكثرة ما اعتراها من تغيير، على ألْسُن وأيدي تلك الإدارة، ومهندسي الغزو، عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً، من قادتها وأركانها، وليس أدلَّ على ذلك من أنَّهم جميعاً يعجزون الآن عن إقناع شعبهم، والعالم بأسره، بالأسباب التي حملتهم على الغزو، ومن ثمَّ، على البقاء، فلقد أصبحت الأسباب المُعْلَنة للغزو أثراً بعد عين، لجهة وجاهتها، وتوافقها مع الحقائق الواقعة، أمَّا الأسباب المُعْلَنة للبقاء، والتي لا وجه للشبه بينها وبين الأسباب المُعْلَنة للغزو، فلم تُعْطِ من النتائج على أرض الواقع إلاَّ ما يُفْقِدها، ويُمْعِن في إفقادها، منطقها ووجاهتها.
في مناخ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، قرَّر الرئيس بوش، أو تَقرَّر من خلاله، غزو العراق، وإطاحة نظام حكم صدام حسين، حتى يقي العالم من شرِّ ترسانة صدام من أسلحة الدمار الشامل، التي صُوِّرت للعالم، مع صاحبها، على أنَّها في حجم خطر النازية وهتلر، فماذا كانت العاقبة؟ لقد قتلوا صدام، بعدما تأكَّد وثَبْتَ للعالم أنَّ تلك الترسانة كانت الكذبة التي تَعْدِل، لجهة نتائجها وعواقبها، الجريمة الكبرى للقرن الحادي والعشرين، فإذا بإيران تغتنم المستنقع العراقي، التي أغرقت القوَّة العظمى في العالم نفسها فيه، وتنطلق مسرعة في برنامجها النووي، الذي إنْ لم يُتَوَّج بـ "قنبلة نووية"، فسوف يُتَوَّج، لا محالة، بامتلاكها القدرة على صنعها، وإذا برئيسها نجاد يقف مواقف من "المحرقة اليهودية"، وغيرها، ما جعل الولايات المتحدة ترى فيه نسخة من هتلر، لقد قاتلت ضد "ترسانة صدام" حتى ظهرت "ترسانة نجاد"!.
ولو كان لـ "الشرعية الدولية" من أهمية تُذْكَر لترتَّب على انهيار الأسباب والمبرِّرات والدوافع والأهداف المُعْلَنة للغزو نزع الشرعية الدولية عن تلك الحرب، وإلباسها لبوس الجريمة الدولية، ومعاقبة، من ثمَّ، قادتها، وفي مقدَّمهم بوش وتشيني ورامسفيلد، على ارتكابهم هذه الجريمة، ليس في حق العراق وشعبه فحسب، وإنَّما في حق شعبهم، وفي حق العالم بأسره.
التاريخ علَّمَنا أنَّ اللصوصية، والسرقة، والجريمة، هي أشياء يمكن أن تكون جزءاً من السياسة، أمَّا الولايات المتحدة في عهد بوش فعلَّمتنا أنَّ تلك الأشياء، وأشباهها، هي كل السياسة التي قادتها إلى غزو العراق، واحتلاله، وإلى التهيئة للبقاء فيه عشرات السنين، فإنَّ فيه مِمَّا يُغْري باللصوصية، والسرقة، والجريمة، ما يجعل القوَّة الإمبريالية العظمى في العالم، التي في العراق كان مهدها، وفيه سيكون لحدها، تُفرِّط في نيويورك، ولا تُفرِّط في دُرَّة تاج إمبراطوريتها، فهم جاءوا إلى أرض الرافدين بإرادتهم، ولن يخرجوا منها إلاَّ أذلَّة وهم صاغرون.
ما نراه في العراق، إذا ما نَظَرْنا بعيون يقظة لا تغشاها أوهام، إنَّما هو السرقة لنفطه في شكلها الاستعماري القديم، فإذا كان الاستعمار الأوروبي القديم قد تلفَّع بشعارات "التمدين"، و"نشر الحضارة الغربية"، في الشرق، فإنَّ القوَّة الإمبريالية العظمى في عالمنا اليوم لا تختلف عنه إلا بما يؤكِّد أنَّها امتداد له من حيث الجوهر والأساس، فهي تفضِّل أن تلبس لبوس ناشِر الديمقراطية (التي لا ترى من أهمية تُذْكَر لنشرها إلاَّ حيث تُوْجَد احتياطات النفط الكبرى في العالم) على لبوس ناشِر "التمدين" و"الحضارة".
وها هو جزء كبير من الشعب العراقي (نحو 4.5 مليون إنسان) يَطْرق أبواب العالم طلباً للجوء الإنساني، لقد لجأ عن العيش في جنَّاتٍ له فيها نعيم ديمقراطي مقيم إلى العيش في المنافي، أمَّا الباقون منه في تلك الجنَّات فلم يبقوا إلاَّ عن اضطِّرار!.
"المارينز" لم يأتوا وحدهم إلى العراق، فمعهم أتى لصوص النفط والآثار، ومهندسو الفساد والإفساد، والمرتزقة، وعراقيون لا يملكون من الانتماء والمصالح إلاَّ ما يجعلهم يرون "الوطن" على هيئة "مزرعة"، ينبغي لهم المشاركة في نهبها قبل فوت الأوان، ومعهم أتى، أيضاً، خبراء في إحياء عظام الموتى وهي رميم، فرأيْنا ممثِّلي وأشياع كل عصبية كريهة، منافية للديمقراطية والقومية، يخرجون من الأجداث سِراعاً، فيُناولهم بريمر "صندوق اقتراع"، لعلَّهم يَعْبرون به إلى "المستقبل"، بعدما أنجزوا مهمة "انتخاب الماضي"، معيدين حُكْم الأموات للأحياء!.
في العراق، وبه، تأكَّد وثَبُت أنَّ "حَيْوَنة"، و"وَحْشَنة"، ما "تأنْسَن" من علاقة بين البشر، عبر التاريخ، هو كل ما بقي لدى الرأسمالية في عهد القوَّة الإمبريالية العظمى في العالم من "رسالة تاريخية" تؤدِّيها، أمَّا "المحتوى الإيديولوجي" لهذه "الرسالة" فهو "التهويد"، تهويد العقل، والضمير، والثقافة، والسياسة، والرئاسة في الولايات المتحدة!
في العراق، رأيْنا "داركولا" في بعثه الجديد، مصَّاص دماءٍ ومصَّاص نفطٍ في آن، وليس له من إلهٍ يَعْبُد سوى "يهوا" الذي يعيش على رائحة "الشواء"!.
* عن العرب اليوم) الأردنية 20/3/2008