إعادة إعمار علي عباس

بقلم: بثينة الناصري

لعلكم ما تزالون تذكرون الفتى العراقي علي عباس الذي كان قد ولد مع أول أيام الحصار وكان له بيت وأبوان وأشقاء، وكان في البيت سيارة وكومبيوتر، وكان علي يقضي سنوات حصاره يلعب العاب الكومبيوتر ويحلم بأن يعلمه أبوه قيادة السيارة حين يكبر.

"ولكن السيد بوش حين أراد أن ينزل علينا "الحرية والديمقراطية"، كان يرسم مستقبلاً آخر للفتى علي.. ولهذا أرسل إليه لعبته المفضلة: قنبلة ذكية أحرقت البيت بكل عائلته، وتركت علياً مشبوحاً بلا ذراعين وبجذع متفحم، كانت لحظة الخلاص التي وعد بها بوش العراقيين.

في لحظة "تغيير تاريخي" صار علي ابن عباس، حفيد الحسين الشهيد الذي وعد بوش بتحرير ملته، صليباً تنوء بحمله ضمائرنا، وكان الجميع حاضرين في مشهد صلب علي عباس، الهود ويهوذا والمتفرجون.

ولأن عليا ظل يتأوه على الشاشات العربية وتطل عيناه العراقيتان على بعض صحف الغرب، فقد تبرع أشقاؤنا في الجنوب باستضافته وعلاجه، وكان آخر ما سمعناه من علي قبل أن يدخل مضارب الأشقاء في الجنوب وتنقطع أخباره عنا تماما – تساؤلاته: لماذا قتل الأمريكيون جميع أهلي؟ وأين سأذهب عندما أعود إلى بغداد؟ وكيف سأقود سيارة أبي؟ وكيف ألعب العاب الكومبيوتر بدون أصابع؟ وهل ستزرعون لي ذراعين؟"

***

وكنت قد أجبتك يا علي وأنت تهوم بين اليقظة والإغماء: وماذا تفعل بذراعين يا علي؟ وشرحت لك كيف كان السيد بوش رحيما بك:

"أن ما حدث لك شيء عظيم ورائع اسمه "حرية وديمقراطية"، عليك أن تفخر أن السيد بوش رئيس أكبر دولة في العالم قد اختارك أنت دون سواك يا علي، ليجعل منك أيقونة "القرن الأمريكي الجديد"، إلى كائن بدون ذراعين، بجسد محترق، ورأس كبيرة، أنت رمز العراق الحر.

لقد كان السيد بوش شديد الرحمة بك، ينبغي أن تعترف بهذا، فقد وجد أباك يضيق عليك الخناق أحياناً، فخلصك منه، ووجد أمك تفرط في حمايتك دائماً فخلصك منها، ووجد أخاك الصغير ينازعك اللعب ويعبث بدفاترك، فخلصك منه، ووجد أن بيتك عتيق الطراز لا يناسب العهد الجديد، فخلصك منه!!

ها أنت أخيرا، مطلق الحرية، فاقد الذاكرة، لتبدأ حياة جديدة، لقد منحتك الحرية أسرة خيراً من أسرتك البائدة: عندك الآن العم جورج والعم ديك والجد دونالد والخالة كوندوليزا والخال كولين، وهم أناس مرحون وطيبون ومتحضرون، ولهذا فقد تعهدوا أن يمنحوك حرية اختيار أي رصيف من أرصفة بغداد لتقيم فيه، لتشم هواء الحرية الطلق.

***

وأعود إليك يا علي بعد خمس سنوات، فقد تتبعت آثارك – في خضم تعمية إعلامية - حتى وجدتك وعرفت ما جرى معك في هذه السنوات الماضيات، والحمد لله أن قاتليك قد صدقوا في وعود رفاهيتك وإعادة إعمارك بما لم يخطر على البال، ولنعد لنلتقط خيط الحكاية منذ أن اختفت أخبارك في مضارب أشقائنا في محمية الكويت.

ما أن أخذوك للكويت حتى بدأوا يجمعون لك تبرعات المحسنين، لإخفاء جريمة احتراقك، وما أن تم الترقيع وعوفيت، حتى هرول المحسنون إلى تحويلك إلى إعلان دعائي متحرك أرخص كثيراً من إعلانات التلفزيون، انهالت عليك طلبات ارتداء قمصان شركات المحمول، وتكتكت كاميرات المحسنين وهي تصورك، لأن مثل هذا الإعلان كما تعرف يا علي، يلفت فضول الجماهير فأي هاتف معجز هذا الذي سيمكّن الفتى علي الذي فقد أمه وأباه وأخاه و13 فرداً من عائلته كما فقد بيته، من التواصل السريع مع الأحبة الذين غابوا إلى الأبد؟ ومع منزله الذي اجتث من جذوره، وأي هاتف معجز هذا الذي لا يحتاج الفتى علي معه إلى ذراعين لحمله أو أصابع للنقر على أرقامه؟! فسبحان جورج بوش الذي خلصك من كل شيء ولكنه سخّر لك المحمول لقضاء حوائجك في فضاء الحرية الجديد.

أمامي صورك مرتدياً قمصاناً إعلانية حمراء وزرقاء وبيضاء، وصورتك مع رئيس وزراء محمية الكويت، واضعاً يده الحانية القانية بدماء أهلك على المكان الذي كانت توجد فيه ذراعاك اللتان لم تعد في حاجة إليهما، وماحاجتك إليهما؟ طالما أن عمك بوش لديه ذراعان وعمك بلير خرج أيضا بذراعين وصاحب المحمية يحتفظ بذراعيه.

ثم تلقفك أعمامك الإنجليز، وأقاموا لك أكثر من موقع على الانترنيت (لم يتم تحديثها منذ خمس سنوات) لجمع التبرعات لك من أجل صناعة أطراف صناعية (غالية الثمن) كما لم ينس مراسل "التلغراف" أن يشير، وأنك تعيش الآن في "كنزنغتون" في بيت خصص لك من إحسان المحسنين وأنك وضعت تحت رعاية وتوجيه مدير مدرسة خاصة اسمه "تيم هوبز" وهو الذي يتولى كما يبدو عملية نقلك من البداوة إلى الحضارة، وهو الذي يغسل لك دماغك، وهو الذي يستلم التبرعات عنك حيث يوجه المحسنين إلى عنوان مدرسته وليس المنزل الخيري الذي تعيش فيه مع عمك الأصلي العراقي!! وأنه حتى في المقابلة التي أجراها معك مراسل "التلغراف" في الذكرى الثالثة لمصيبتك عام 2006، كان اللقاء في مكتب "هوبز" هذا الذي كان يتدخل فيما تجيب ومالا تجيب عنه، فحين صيغت الأسئلة بحيث تستدعي إجابة تشتم فيها بلدك والعراقيين والمسلمين أتاح لك كل الوقت للإجابة وحين أردت أن تبدي كرهك لجورج بوش باعتباره قاتل أمك وأبيك وأخيك، قاطعك "هوبز" قائلا "ربما لا تحب الحديث في هذا الموضوع، إذا تعبت من الإجابة على الأسئلة فليس عليك أن تجيب".!!!

وحين يسأل المراسل ناظر المدرسة "جوناثان" وهو شقيق مستر "هوبز" إذا كان قد لاحظ أن علي يعاني من مشاكل نفسية، يجيب: "قبل سنة، زرته في منزله، عرض عمه فيلم فيديو فيه كل الأخبار عن إصابة علي وعلاجه وصور كل عائلته الذين قتلوا وكان يتفرج على كل ذلك مبتسماً، لقد تعجبت من أنه لا يظهر أية علامات على الصدمة أو الحزن على عائلته، لا توجد أية علامات ظاهرة للحزن".!!!

يلتقط الحديث "مستر هوبز" "في رأيي إن هذا السلوك لا يتطابق مع ثقافة "الشرق الأوسط" حيث نرى الكثير من العويل والصراخ بعد هجمات القنابل هناك(!!) يبدو أن علي تعود هنا على السلوك المتماسك، ولم أجد أية حاجة لعرضه على طبيب مختص، إذا كان يشكو من شيء فهو يشكو من الملل.".!!

ولكن، يستدرك مدير المدرسة، لا تتنفسوا الصعداء وتنسوا التبرعات لأن علي مازال يحتاج إلى استمرار التعليم والعلاج طوال حياته، أرسلوا التبرعات إلى (عناية مستر هوبز مدرسة هول في ومبلدون، 17 شارع داونز، الخ).

علي يعيش في رفاهية وسعادة لا ينغص عليه فيهما إلا (الملل)، فهو يظهر في كل الصور التي التقطت له خلال مسيرته من أحضان القتلة في الكويت إلى بريطانيا، مبتسما، سعيدا بكل ما جرى له.

مبتسما وهو يحول جذعه المبتور إلى شاشة دعاية لشركات المحمول.

مبتسما وهو يرتدي قبعة رعاة البقر من تكساس بلد عمه بوش.

مبتسما وهو يرتدي خوذة الشرطة البريطانية في بلد عمه بلير.

مبتسما وهو يجلس في غرفة "المستر هوبز".

ابتسم حتى تطلع الصورة حلوة، ويرتاح الناس لأن كل شيء على ما يرام وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وأن إعادة إعمار علي عباس، مثل العراق، قد تمت بنجاح منقطع النظير.

ابتسم وأنت تركب دراجة المعوقين ثلاثية العجلات "استمتع بركوبها، تعطيني نوعا من الاستقلال".

نعم يا علي.. هذا هو نوع الحرية التي وعدك بها بوش.

ويشرح لنا علي "أستخدم بدال دراجتي بقدمي وأقودها بكتفي، لا أستطيع أن أرتدي ذراعي حين أركب الدراجة".

يقاطعه "هوبز" قائلا "تشاجر علي مع أحد المارة مؤخراً، كان يركب دراجته فوق الرصيف، الشيء الذي يجب أن تفعله يا علي في هذه الحالة هو أن تقول آسف وليس أن تدخل في مشاجرة."!!!

نعم يا علي.. استمع إلى راعيك "هوبز"، كان يجب أن تقول "آسف"، هذا ما يقوله العراقي بعد إعادة إعماره.

تقول: آسف.. لأن بيتك كان في طريق صاروخ العم بوش.

تقول: آسف.. لأن أمك الحامل وأبيك وأخيك وأختك و13 آخرين من أهلك كانوا نائمين حين هبط الصاروخ ولم يهربوا فزعين، فأحرجوا عمك بوش وعمك بلير.

تقول: آسف.. لأنك لم تمت وتنهي الحكاية، وبقيت شوكة في الضمير، شاهداً وشهيداً.

ماذا يقول "الجنتلمان" يا علي؟ ليس "آسف" فقط وإنما تعلم كلمة أخرى "من فضلك".

تقول: من فضلك، وأنت تطلب هامساً من صديق بجانبك أثناء المقابلة الصحفية "اخلع لي نظارتي".

تقول: من فضلك، فرّش لي أسناني.

تقول: من فضلك، اغسل لي وجهي.

تقول: من فضلك، ساعدني على دخول المرحاض.

تقول: من فضلك، امسح لي دموعي.

ماذا تفعل بذراعيك، إذاً، يا علي؟

"أستطيع أن أحركها حركة محدودة، الكف يمكن أن يغلق ويفتح، المرفق يمكن تحريكه في ثلاثة أوضاع، وحزام على الصدر يحرك المعصم، لكني آكل وأرسم وأنقر على الكومبيوتر وألعب الكرة وأحرك الدراجة بأصابع قدميّ".

تقرير مراسل "التلغراف": "شاهدت علي وهو يلعب كرة قدم في فناء المدرسة بينما تتأرجح ذراعاه الصناعيتان إلى جانبيه وبالنسبة له أسهل عليه أن يلعب بدونهما ولكنه يشعر بالإحراج إذا خلعهما وسط بقية الطلاب".

أين الذراعان "البايونك السوبر" التي نراها في أفلام العم سام؟

أين وعد السيد بوش؟ لقد وعدك ببيت أفضل من بيتك الذي مسحه من الوجود، وعائلة أفضل من عائلتك التي مسحها من الوجود، وتاريخ أفضل من تاريخك الذي مسحه من رأسك، وجسد أفضل من الجسد الذي جبلك عليه الله، وعراق أفضل من عراقك؟ وعيشة كريمة أفضل مما كنت تعيش؟

لماذا، إذاً، يا علي، أراك مجتث الجذور، يتيما، لاجئا، في بلاد غريبة، تعيش على صدقات المعلنين المحسنين التي لم توفر لك إلا ذراعين لا تستطيع معها حتى أن تمسح دموعك؟ في حين وفرت لهم ملايين الدولارات وهم يسربلون عليك قمصانهم الدعائية، ويجني السياسيون أصواتا انتخابية جديدة وهم ويقفون إلى جانبك يلتقطون صورهم الباسمة، فخورين بإعادة إعمارك، مصرين على أن يصافحوا يدك الصناعية التي صممت على خدمة أهدافهم وليس أهدافك، فهي تنفتح لتصافح القتلة ولكن ليس لإمساك قلم تكتب به أو ريشة ترسم بها أو ملعقة تأكل بها.

تصور يا علي، أني – قبل خمس سنوات - كتبت بحسن نية:

"لا نقلق كثيرا لأن أبناء عمومتنا في الجنوب سوف يتكفلون بتركيب ذراعين جديدتين أكثر حضارة وتمدنا، خطافين لامعين من معدن لا يصدأ، ينتهي الخطاف اليمين بكلاب معقوف يمكن غرسه بسهولة في ساندويتش ماكدونالد، والخطاف الأيسر ينتهي بحلقة مقفلة تسمح بالقبض على زجاجة الكوكاكولا."

ولكن كما يبدو أن الذراعين السوبر اللتين حظيت بهما بعد خمس سنوات من إعادة إعمارك، لا تسمحان لك بإمساك شيء غير أياديهم ، وهم يقودونك إلى المصير الذي رسموه لك.

ولكن إذا كانوا لم يركبوا لك ذراعا بأصابع تسمح لك أن تفعل بها ما تشاء، فقد بلغني انك استخدمت عبقرية أصابع قدميك التي خلقها الله لك من طين العراق، وانك بحثت في (غوغل إيرث) عن مكان بيتك الذي كان.

"وجدت بقعة بيضاء . كان لدينا خراف ودجاج".

وربما ابتسمت وأنت تقول ذلك.. تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهك وانت تتفرج على صور أمك وأبيك وأختك وأخيك، ولم يفهمها "مستر هوبز" ومن على شاكلته، ولكننا، أهلك العراقيون، نعرف الشجن الذي يستدعي ابتسامة، ونستدعي الحنين لحضن الأم بابتسامة، نعرف الكبرياء التي تغلفها – وسط الغرباء - ابتسامة، نعرف الحزن الذي نخفيه بابتسامة، إذا ما فقدنا الأصابع، ولم يكن معنا من لا نستحي أن نسأله "من فضلك امسح لي دموعي".