"هل أنا حقاً بطبيبٍ؟"

عبد الله الدملوجي

لم أكتب بالغة العربية مقالاً أدبياً لسنواتٍ طوال، فمنذ أن دخلنا كلية الطب إلى ساعتنا الحاضرة دفعتنا دراستنا بالانكليزية بعيدا عن لغتنا الجميلة، وها أنا اليوم أجد نفسي بلا منجدٍ إلا القلمَ بندقيةًََََََ والحروفَ عتاداً، فيا عربيةُ انجديني!

بدأً سأسردُ قصةً صغيرةً أبدأها من الأعظمية منطقةً وأشجار ثانوية كلية بغداد مدرسةً وطلاباً مراهقين بأحلامٍ كبيرة، كنت وصديق العمر نرسم معاً حلماً بدخول كلية الطب، فكنا طلاباً مجدين لا نترك من اليوم وقتاً إلا وكنا ندرس أدبا وشعراً، فيزياء وأحياء، ولا أزال أذكر "الهلاهل" وأذكر الفرحة عندما عُلقت أسماء القبول في جامعة بغداد فأراحت سهر الليالي الطويلة على أضواء الشموع، ست سنوات مضت، فتالله لا أستطيع اختصارها بكلماتي العربيةِ الركيكة، فأروقةُ الكلية الطبية و"النبكة" وامتحانات التشريح ومحاضرات الدكتور حسن الربيعي رحمه الله في الفسلجة، وردهات مدينة الطب والمحاضرات السريرة للدكتور زياد جريديني والدكتور جعفر الهلالي في الطب الباطني وعصبية أستاذنا الفاضل الدكتور فالح البياتي وهو يحاول أن يجعلنا أطباء ملتزمين، وأستاذنا الفاضل سالم الصراف في ردهة الجراحة وهو يعتني بمرضى الانفجارات - ذكر الله أساتذتي الأفاضل أجمع بالخير - وغيرها من محطات حياتي مما جعلني أذكر أيام بغداد الجميلة تنبض بشباب يتوقون علما ومعرفةً في بلدٍ مزقته حروب ودكتاتوريات وطائفية.

قررنا أنا وصديق العمر أن ندرس لامتحان المعادلة الطبية الأمريكية حينما كنا طلاب في الصف الخامس في الكلية ذلك لنذهب للولايات المتحدة الأمريكية ونكمل دراستنا التخصصية في الطب في إحدى الجامعات هناك، فوالله كنا ندرس ليلاً نهاراً، نقرأ Davidson في الطب الباطني وال Essential of Surgery في الجراحة، فنذهب للمشفى صباحاً، ونتطوع للعمل مع الصليب الايطالي بعد الظهر وندرس مساءً لسنةٍ كاملةٍ، وذهبنا لعمان لنأخذ الامتحان مع كل المذلة التي صاحبت كوننا عراقيين محاولين أن نقنع ضابط الجوازات الأردني أننا طلاب طب قادمين لنأخذ امتحاناً طبياً - فأحن الله ُ قلبَهُ وأدخلنا الأردن المحروسة!

نجحنا أنا وصديقي بالامتحان - وقدمت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الماجستير في إحدى الجامعات المرموقة تاركاً خلفي بغداد تحترق حزناً وضيماً، لم نتمكن من إكمال الامتحانات للحصول على البورد الأمريكي في الطب ليس لأننا طلاب فاشلون بل لأن قراراً من الحكومة أوقف إصدار الوثائق والشهادات، وها أنا اليوم أستقبل مكالمات من زملاء لي من كل مكان يخبروني عن معاناتهم، فهذا صاحب لنا يسألني على الهاتف "هل أنا حقاً بطبيب؟" فهو يعمل في إحدى الدول الأوربية بعملٍ لا يلقُ بأحد كان من أوائل العراق في امتحان البكالوريا في سنتنا!

وهذا صديق آخر لي يخبرني بنيتهِ ترك الطب والعمل في مجال آخر في استراليا لأنه لا يملك وثقة تثبت تخرجه من كلية الطب - ولا أزال أذكر اجتهاد هذا الصديق في الكلية الطبية، وعدد من الزملاء والزميلات لنا في المملكة المتحدة، وأمريكا الشمالية، والسويد، والأردن، وسوريا، والإمارات لا يستطيعون ممارسة الطب، فجلسوا البيوت واستأنسوا بالتلفاز وهؤلاء هم الشريحة الفضلى من المجتمع العراقي!

لا أذكر من العراق إسلاماً، ولا سنةً ولا شيعةً ولا كرداً ولا عرباً.

أذكر أستاذ الجراحةِ يدمع رغم شيبةِ شعرة حين يرى شاباً فقد عيناً.

أذكر طلاب تطلب علماً وحياةً أفضل!

أذكر نخلةً ونهراً!

فيا مالكي- إن كنت تقرأ - لا تقتلوا عراقيتنا!

يا مالكي- إن كنت تقرأ - اعلم أن أطباء العراق لاجئين، يعملون بمحطات الغاز بدول الغرب، معاونين طبيين في دول الخليج العربي، ويسكنون الأردن وسوريا ولبنان بلا مصدر رزق!

يا مالكي - إن كنت تقرأ - اعلم أن لو سمعت نحيب الرجل على الهاتف هو يقول "هل أنا حقا ً بطبيبٍ؟" لما نمت ليلاً!

"والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس" هذا ما علمني إياه أستاذ اللغة العربية - طيب الله ثراه - بكلية بغداد عندما علمنا أن نرفع القلم ونكتب!

"اللهم ألا هل بلغت اللهم فاشهد! "

بولتمور - شتاء 2008

[email protected]