مسودة "ويليامز".. وكشف حقيقة التورط البريطاني في حرب العراق
"مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية"
منذ خمس سنوات تقريبًا احتاج رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى دليل حتى يقنع البرلمان والرأي العام البريطاني باشتراك بلاده مع الولايات المتحدة في شن الحرب على العراق، وحتى يوفر هذا الدليل استخدم بعض التقارير التي تزعم امتلاك بغداد قدرات كيماوية وبيولوجية إضافة إلى تطوير قدراتها الصاروخية، وحصولها بالفعل على خام اليورانيوم من أفريقيا، والأهم من ذلك أن أحد هذه التقارير زعم أن بإمكانها استخدام ما بحوزتها من أسلحة دمار شامل في غضون 45 دقيقة من صدور قرار بذلك.
واللافت للانتباه أن بلير استطاع استخدام أحد هذه التقارير بما يحويه من أدلة في إقناع البرلمان بدخول الحرب على الرغم من الشكوك التي حامت حولها من جانب الإعلام والمعارضة وقطاع عريض من الرأي العام البريطاني، حتى إن كثيرين كانت لديهم قناعة بأن هذه الأدلة ملفقة ولا علاقة لها بالواقع، وأن رئيس الحكومة خدع الجميع وجر بلاده إلى حرب غير مبررة وغير شرعية، مما أدى إلى تدهور شعبيته واضطراره في النهاية إلى التخلي عن منصبه.
والملاحظ أن السنوات الخمس السابقة لم تخل من محاولات داخل البرلمان لفتح تحقيق في تلك الحرب، وتحديدًا في قضية امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ولكن هذه المحاولات كانت تواجه بمعارضة من جانب الحكومة، كما حدثت محاولات للإفراج عن الوثائق الخاصة بالحرب، ولكنها لم تسفر عن شيء.
بيد أنه بعد إقرار قانون حرية الوصول إلى المعلومات ودخوله حيز التنفيذ في 1/1/2005، أصبح من الممكن الحصول على وثائق الحرب، وهو ما حدث فعلياً عندما تمكن الباحث "كريستوفر إيمز" من الحصول على حكم من محكمة المعلومات بالاطلاع على الوثائق الخاصة بالحرب، رغم معارضة الخارجية البريطانية، ولكنها اضطرت في النهاية إلى نشر التقرير الأولي أو المسودة التي أعدها "جون ويليامز" رئيس القسم الإعلامي السابق بالوزارة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية والمعروف بـ"ملف سبتمبر"، والتي كان قد أعدها في يوليه/تموز 2002 أي قبل شهرين من صدور التقرير النهائي في شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام، الذي أعدته لجنة الاستخبارات المشتركة.
ولقد أثارت مسودة ويليامز علامات استفهام عديدة أكثر مما قدمت من إجابات، ولكنها أوضحت الدور الحيوي والمهم لخبراء التضليل الإعلامي والمسؤولين الإعلاميين بالحكومة في عملية صياغة ملف أسلحة الدمار العراقية المزعومة، وأوضحت كذلك أن النسخة النهائية من الملف "التقرير" لم تكن نتيجة تقييم نزيه للمعلومات الاستخباراتية المتاحة.
والمثير أن بعض المحللين لاحظوا وجود تشابه لافت للنظر بين المسودة التي أعدها ويليامز والتي تم نشرها، وبين ملف لجنة الاستخبارات المشتركة اللاحق له، وهذا التشابه قوض بشكل تام مزاعم الحكومة البريطانية التي أفادت أن التقييم الخاص بأسلحة الدمار الشامل العراقية قد بني بشكل منفصل على تقييم لجنة الاستخبارات المشتركة فقط، مما أثار تساؤلات كثيرة حول كيفية وصول ويليامز إلى نفس المصادر التي أدلت بمعلومات سرية شكلت الأساس الذي بني عليه التقييم النهائي للاستخبارات، وكذلك كيفية جعل الملف يبدو أكثر إثارة بالحديث عن أدلة تؤكد خطورة ما لدى النظام العراقي من أسلحة دمار وكذا المسؤول عن تضمين مثل هذه المعلومات داخل الملف.
الجدير بالذكر أن التقرير النهائي للاستخبارات الذي حمل عنوان "أسلحة الدمار الشامل العراقية: تقييم الحكومة البريطانية" والصادر في 24/9/2002 تمت مناقشته داخل البرلمان، الذي دعي للانعقاد خصيصاً لمناقشته، وكان الهدف - كما سبقت الإشارة - هو توفير سبب يبرر المشاركة في الحرب، وقد وفر التقرير المبرر حين أفاد "أن هناك تهديداً يمثله نظام سيئ الذكر صدام حسين، وأن القوات المسلحة في العراق قادرة على استخدام أسلحة كيميائية وبيولوجية بقيادة وتحكم وترتيبات لوجستية ذات كفاءة عالية، كما أن الجيش قادر على نشر هذه الأسلحة خلال 45 دقيقة من صدور قرار بذلك".
ذلك المبرر كان أحد مبررين مثيرين للجدل ساقهما التقرير، وكان الآخر يقوم على زعم أن العراق سعى للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا، وهو زعم اتضح أنه لا أساس له من الصحة.
الواضح أن المسودة التي صاغها "ويليامز" لم تتضمن أي إشارة للزعم الخاص بقدرة الجيش العراقي على استخدام أسلحة بيولوجية وكيميائية في غضون 45 دقيقة من اتخاذ قرار بذلك، ومن ثم بدا أن هذا الزعم قد أدرج في الملف اللاحق الذي وضعته لجنة الاستخبارات المشتركة، وظلت - كما سبقت الإشارة - هوية المسؤول عن إدراج هذه المعلومة غير معروفة، بل باتت واحدة من أكبر الأسرار في هذا الشأن.
ومع ذلك.. قد يبدو ما سلف ذكره متعارضًا مع شهادة "ألستير كامبل" مدير الاتصالات الاستراتيجية في مكتب رئيس الوزراء السابق بلير أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم في 25/6/2003، حيث أصر "كامبل" على أن الزعم الخاص بالـ 45 دقيقة، كان موجودا في النسخة الأولى من الملف (مسودة ويليامز) وهو ما تنفيه القراءة الدقيقة للمسودة، التي تثبت عدم مصداقية تلك الشهادة، وأن النسخة الأولى من الملف لم تتضمن مثل هذا الزعم الذي أدرج في وقت لاحق في تقرير الاستخبارات المشتركة، وهو ما يوقع المسؤولية على عاتق "كامبل"، الذي أصبح - بعد تكشف الحقائق أمام العامة - متهماً بالكذب والتضليل في شهادته بعد أن حلف اليمين أمام البرلمان.
واللافت للأنظار أن "مسودة ويليامز" تتضمن أول إشارة بدعوى أن العراق سعى للحصول على يورانيوم من أفريقيا، ولكن هناك تناقضاً بين ما قاله "ويليامز)" وأفاد أنه "بني على دليل استخباراتي" استرعى الانتباه وبين النسخة النهائية من التقييم الاستخباراتي، التي تفيد أن ثمة معلومات أن العراق سعى للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا، ومثل هذا التناقض يكشف أن النسخة النهائية من الملف كانت بالفعل مبالغاً فيها، وأنها لم تكن حقيقية كلية.
ولم يكن أمراً عارضاً أن تظهر المقارنة بين "مسودة ويليامز" و("التقرير النهائي مزاعم أخرى تم تعمد المبالغة فيها خلال عملية إعادة صياغة الملف، فعلى سبيل المثال، زعم (ويليامز) "أن العراق يختبر صاروخاً يعتمد على وقود صلب من طراز (أبابيل)، وأنه بدأ إنتاج هذا الصاروخ"، بينما تم تحويل الزعم بأنه "على وشك نشر صاروخ يعتمد على وقود سائل من طراز (الصمود)، إلى "أنه بدأ نشر صاروخ يعتمد على وقود سائل من طراز (الصمود)" وذلك في "التقرير النهائي".
ولعل مثل هذا التناقض يدعم ما جاء في بيان "هانز بليكس" رئيس جهاز المراقبة السابقة بالأمم المتحدة ورئيس لجنة التفتيش على أسلحة الدمار العراقية عام 2003، الذي ذكر فيه أن "توني بلير" ومستشاريه قد طمسوا جميع الأدلة المضادة في الملف النهائي، كما استبدلوا بعلامات الاستفهام علامات تعجب، وذلك في محاولة منهم لتوفير مبرر قوي من أجل شن الحرب على العراق، كما أضافوا أيضاً أدلة ملفقة لتبرير توقيت وقرار الذهاب إلى الحرب.
تجدر الإشارة إلى أن هناك مذكرة كشفت في 23/7/2002 أن "ريتشارد ديرلف" - الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لجهاز الاستخبارات الخارجية - قد عاد من زيارة لواشنطن ليحذر رئيس الوزراء "بلير" من أن العمل العسكري أصبح ينظر إليه على أنه أمر محتوم، وأن جميع المعلومات الاستخباراتية والحقائق قد تم إعدادها من أجل شن الحرب، ورغم أن ما ذكره "ديرلف" يتعلق بعملية صنع القرار في الولايات المتحدة، فإن الاختلافات بين "مسودة ويليامز" وملف الاستخبارات تظهر أن نفس عمليات التحريف قد حدثت داخل حكومة "بلير" وأن عملية خلط الأدلة كانت مستمرة وليست واقعة حدثت مرة واحدة. والمثير أن رد الفعل السياسي على نشر "مسودة ويليامز" جاء سريعاً، حيث دعا "ويليام هيغ" وزير الخارجية في حكومة الظل بحزب المحافظين، إلى البدء بتدشين تحقيق عام بشأن المشاركة البريطانية في الحرب ضد العراق، وذكر أن "مسودة ويليامز" بمثابة دليل على أن خبراء التضليل الإعلامي - وليس محللو الاستخبارات - كانوا أصحاب اليد العليا منذ البداية في تقرير ما يجب أن يقال للشعب البريطاني بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وقال "إد دافي" - وزير خارجية حكومة الظل بحزب الديمقراطيين الأحرار - إن الحكومة لا يمكنها الاستمرار في إنكار الدور الرئيسي الذي لعبه خبراء التضليل الإعلامي فيما يتعلق بصياغة الملف، كما طالب "جون بارون" عضو البرلمان عن حزب المحافظين الحكومة بتفسير أسباب التشابه والتطابق بين بعض الفقرات المهمة في الوثيقتين، وذلك التشابه الذي يتحدث عنه "بارون" يحتاج بالفعل إلى توضيح، وخصوصاً أن حكومة "بلير" ظلت تزعم أن "التقرير النهائي" قائم على التقييمات الاستخباراتية للجنة الاستخبارات المشتركة، وأن "ويليامز أصدر "المسودة الخاصة" به كمبادرة شخصية من جانبه، ولم تلعب دوراً في تشكيل التقرير النهائي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بهذا الشأن هو كيف تمكن "ويليامز" من الاطلاع على المعلومات الاستخباراتية السرية واستخدام نفس المصادر التي شكلت أسس التقرير النهائي الذي أصدره "جون سكارليت" رئيس لجنة الاستخبارات المشتركة والرئيس الحالي للمخابرات الخارجية.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن المرحلة التي أدرج فيها ادعاء الـ 45 دقيقة لا تزال غامضة، وهذا الجانب الحيوي من القضية لا يقل أهمية عن هوية الشخص الذي أدرج هذه المعلومة، التي جعلت صياغة التقرير تبدو أكثر إثارة، وكما لو كانت تتضمن أحكاماً قاطعة توفر المبرر لـتوني بلير لغزو العراق، وهو ما حدث فعلياً في خطابه أمام "مجلس العموم" في 17/3/2003.
والمؤكد أن نشر "مسودة ويليامز" يجعل رئيس الوزراء السابق "بلير" وحكومة "حزب العمال" في حرج شديد، وخصوصاً أنها تدحض الكثير من آرائهم ومبرراتهم حول غزو العراق، كما كشف نشرها أن ادعاء الـ 45 دقيقة لم يكن إحدى المعلومات الواردة في المسودة منذ البداية مثلما ادعى "أليستر كامبل" - السابق الإشارة إليه - كما تبين تباعاً أن المزاعم الأخرى قد تمت المبالغة فيها حتى تبدو أكثر جذباً للاهتمام، كما تكشف المسودة أيضاً عن طبيعة التفاعل والصلة المعقدين بين عملية تلفيق القصص والدليل الذي بني التقرير النهائي عليه، كذلك قوض تماماً زعم الحكومة، بأن هذا الملف نشأ على أساس تقييم نزيه للاستخبارات.
ومن هذا المنطلق، فإن كثيرين داخل بريطانيا يطالبون بإعادة التحقيق في قضية اشتراك الحكومة البريطانية في الحرب على العراق، فضلاً عن كشف جميع التناقضات التي ظهرت في المسودات المختلفة لتقرير سبتمبر بالإضافة إلى الدليل الذي قدمه "كامبل" عند شهادته أمام البرلمان في يونيه/حزيران 2003، والمؤكد أن الأيام القادمة سيتكشف معها العديد من الحقائق حول الدور البريطاني في حرب العراق، وستكشف أيضاً كيف خدع رئيس الوزراء السابق "بلير" البريطانيين، وقادهم إلى حرب لإرضاء الرئيس الأمريكي بوش كما تقول صحيفة "الغارديان".