حوار في مفاهيم

فائز البرازي

بداية أقف في الحوارات التي تدور، عند (نحن نؤمن)، وما يتلوها من قناعات وحسم، ومن الواقع: أنا، أنتم، نؤمن بهذا. وغيرنا – طالما أننا ندير حواراً مفتوحاً – لا يؤمن بما نؤمن به، وله "إيماناً آخر"، لذلك أعتقد بضرورة إيراد: مقدمات، تعاريف، وقائع مجردة، تجارب، وصولاً إلى طرح "نتيجة" نراها تتطابق مع ما سبق، ثم نحيل النتيجة إلى الاختبار والحوار "المقارن" حول ذلك، ثم الوصول إلى نتيجة أقرب للموضوعية سواءً تلاءمت معنا أو مع الآخر، طالما أن الهدف النهائي "سبل" تحقيق حرية وعدل وتقدم ونماء الوطن والمواطن، بدون أحكام مسبقة.

نحن نؤمن، والآخر يؤمن، فيصطدم الحوار بهذا الإيمان / الحكم المسبق، وباللانتيجة، وبعدم الوصول إلى مقاربات عقلانية بالعرض والتفكير والوعي والمحاكمة، فالحوار ليس طرح برنامج أيديولوجي أو سياسي أو فكري (محسوم) وإلا لم يكن من داع للحوار، وإنما هو اتكاء كل طرف على ما "يعتقده"، محاوراً الآخر بما "يعتقده".

الوحدة العربية

الوحدة العربية حلم معظم شعوب وجماهير الأمة العربية، ومن طبائع الأمور، أن الحلم الكبير، والفكرة العظيمة عندما يتجسدا واقعاً، تصبح مهاجمتهما ومحاربتهما ومحاولات طمسهما وإفشالهما والقضاء عليهما، أكثر سهولة وشمولية لدى أعدائهما لشن الحرب والتآمر للقضاء عليهما، فمحاربة الملموسات أكثر فعالية من محاربة اللامحسوسات.

من هنا كانت الضرورة المصيرية لتوفير: بنية سليمة ذات أساس قوي – معطيات حياتية تفاعلية، حرية شعب، تحقيق الوعي، خلق الإرادة، إنجاز السير على طريق الفعل – حماية داخلية وخارجية بمفهوم (الأمن القومي الجيو-سياسي بجميع أبعاده).

واليوم، ومع تزايد الهجوم العدواني والعدائي على الأمة العربية وعلى أحلامها المشروعة، وعلى وجودها الحضاري، ومع الاختراقات الثقافية والفكرية والسياسية والعسكرية من قبل أعداء الأمة الداخليين والخارجيين، وأعداء وحدتها وتوجهاً للقضاء حتى على الحلم والفكرة، ومع "اعتقادنا" بضرورات الوحدة لتحقيق التحرر والعدالة والتقدم والتنمية للكتلة التاريخية المجتمعية العربية، بكونها أمة واحدة تفتقد الشكل لا المضمون، تفتقد الدولة / الأمة، فلا بد لنا من العودة لتأكيد وترسيخ وتثبيت وإضاءة، الحلم والفكرة، لينمواَ بعمق أكثر ويعاد انتشارهما الأوسع في ضمائرنا وقناعاتنا ووعينا، "كخطوة أولى" على طريق خلق إرادة الفعل الواعي لتجسيدهما.

وليس من المحتم ولا الضروري الآن، البحث في الشكل أو التمسك برؤية محددة لطبيعة الوحدة وأشكالها وأدوات تحقيقها، إذ أن لكل مرحلة من مراحل الزمان والمكان والمعطيات المحيطة، تصورات وأدوات وأشكال لابد أن تتكوّن ضمن متطلبات المرحلة وتفاعلاتها مع واقعية أشكال الحياة، وعلمية المنهج والأسلوب والمعالجة والأدوات.

الوحدة / حلم غير معاب

قد يدفع البعض بأنا نعيش ونركز على مجرد: حلم / فكرة، وأن الحلم ليس مؤهلاً لخلق واقع، وهو كمجمل الأفكار والأحلام الرومانسية.

إن هذا البعض وبطرحه، ينسى أو يتناسى عن قصد أن جميع ما تحقق ويتحقق على أرض الواقع، كانت بداياته: الحلم / الفكرة التي تم الإيمان بعمق بها، فدفع هذا الإيمان الواعي إلى بذل الجهد والدعوة والفعل لتحقيقها، من الاختراعات العملية وتطبيقاتها ومنتجاتها، إلى الاجتماع والسياسة بتأثير الحلم والتصور ترجمة على أرض الواقع، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن:

ممالك العرب قبل الإسلام – الأديان وانتشارها وهيمنة الفكرة الإيمانية والأخلاقية – الحروب والغزوات الصليبية – الوحدة الألمانية – الصهيونية – الدولة الصينية – الوحدة المصرية السورية – الإتحاد الأوروبي، ما هي إلا ثمرات مترجمة على أرض الواقع: للحلم / الفكرة.

 

من سيحقق الوحدة

الشعوب، أم الأنظمة الحاكمة ؟ وما دور النظم القطرية الجاذبة للخلف، أو الدافعة للأمام ؟

الشعوب الواعية بذاتها وبمشكلاتها، والفاعلة تراكمياً لدفع الأمور، دفع المجتمع والسلطة على طريق الوحدة باعتبارها: تحقيق واعي للذات، وطموح لبناء دولة / الأمة، وللتصدي لمشكلات التجزئة والتفكك والتخلف والفقر، هي ( المحرك ) الدافع على طريق الوحدة.

ومن المبالغة وعدم الموضوعية القول: أن الشعوب هي التي "تصنع وتنجز" الوحدة، أي: بالشكل المباشر لمعنى "الفعل".

وأكاد أرى، وحتى في ظل السيادة القطرية، والحدود السياسية، والدولة القطرية، فإن السلطة القطرية / النظام، هي " الفاعل " بشكل مباشر في (صنع وإقامة) دولة الوحدة.

وقد يدفع البعض بالعكس، ويقول: أن الدولة القطرية هي عدوة للوحدة، وعملها باتجاه الوحدة هو "انتحار لها ولمصالحها"، بالشكل العام، والملموس، والمعاش، في ظل النظم القطرية الحالية، ذلك الدفع صحيح، وتماماً، لكن، عندما تكون "الدولة القطرية"، (دولة مؤسسات)، فالأمر يختلف تماماً، فالدولة القطرية المؤسساتية، الممثلة للشعب تمثيلاً صحيحاً وصحياً، سترى ومن خلال وظيفتها ومتطلباتها المجتمعية والتنموية والاقتصادية والسياسية والأمنية، ضرورة تحقيق تكتل أكبر وأكثر تأثيراً وأشد نفوذاً، مادياً وسياسياً، وهذا يكفي للعمل الجاد والصادق "لدولة المؤسسات القطرية" هذه، نحو تحقيق أشكال متراكمة ومتطورة للوحدة العربية، فالنحو هذا موضوعي يبتعد عن المصالح الشخصية والحزبية والسلطوية.

 

الهوية

وهي التي ستحدد الهموم والمشكلات والإشكاليات والقضايا، وإن كان سيتم التعامل معهم ضمن التوقع القطري، وما دون القطري أم ضمن الحل الأشمل وفق مفهوم (الأمن القومي العربي) بكل أبعاده: الاجتماعية، تماسك وحدة نسيج المجتمع، تعليم، نمو، قضاء على الأمية والفقر والتخلف، والاقتصادية، والسياسية، والأمنية والعسكرية: وكلها بأبعاد تتجاوز الحدود السياسية، وبأفعال دبلوماسية وسياسية أولاً.

وبالتأكيد على أن أمن الفرد العربي بكل أبعاده، هو الأساس الذي يبنى عليه "الأمن القومي العربي".

وفي حواراتنا حول مفهوم الهوية، أكاد ادّعي أن:

هويتنا هي "هوية مركبة" كأي هويات إنسانية أخرى، ولابد أن تكون كذلك في تعبيرها عن الانتماءات الجزئية المُرَكِبة للهوية العامة، الانتماء إلى: الأسرة، العائلة، الدين، الطائفة، الشريحة الاجتماعية، الأحزاب، الدولة، العروبة، العالم الإنساني، عدد من الانتماءات يمكن أن تتوسع أكثر أو تتقلص، لكن أسوأ ما فيها أن تتحول الهوية / الانتماء إلى صورة تعصبية لجزء من الهوية الأشمل، حيث تُزال وتُغيب كل الانتماءات الأوسع المؤدية إلى التعايش والترابط ووحدة النسيج، فتتقوقع وتنعزل تلك الانتماءات الاحتكارية وتصبح حتماً في مواجهة الآخر، رفضاً وصراعاً وتصادماً.

والمهم في الانتماء هو الصعود الفعال وعلاقته الجدلية البناءة وانفتاحه على الآخر، ليتواجد ضمن حلقات أساسية في الفعل والتعاون والعطاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ضمن "حس التوافق الاجتماعي" الذي سيفرز بعمومية انتماءه للجماعة، مواقف ورؤى هذه الجماعة في بيئتها الاجتماعية، دون توقف كبير للتفكير في تلك المواقف والرؤى بحد ذاتها.

إن هناك (تشابكاً وتكاملاً) بين هويات أساسية المرتكزات بما تشكله من هوية متناغمة ومنسجمة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وتاريخياً وجغرافياً، والتي هي: (الهوية الوطنية القومية الإسلامية)، بثباتها واستمراريتها وجوهرها.

فالهوية الوطنية: لا تصطدم مع الانتماء القومي والعقيدة الإسلامية الحضارية، بل هي أساس يبنى عليه وصولاً للمجال الأرحب القومي والإسلامي.

والهوية القومية: ما هي إلا الجسد الأكبر الذي يضم ضمناً الهويات الوطنية الأعضاء، فلا يستقيم وجود إحداها بدون الأخرى.

والهوية الإسلامية: كعقيدة وحضارة، هي روح ذاك الجسد، تعطيه المرجعية الروحية والمادية، وتكون جامعة منسقة في تعامله مع القومي والإنساني.

إن مفهوم الهوية الوطنية بركيزته الأساسية التي تبنى عليها الهوية، هي: (الثقافة)، على أن هذا المفهوم لا يبقى محصوراً ومقيداً بذلك الأساس، وإنما ينطلق منه إلى مفهوم أرحب يرتبط بالجوانب: الفلسفية، وعلوم الاجتماع، والموقف من الآخر الذي لولا وجوده لما كان هناك "هوية خاصة"، والهوية بكونها: (مفهوم ذهني) أولاً، و (وجوداً محسوساً) ثانياً، يتزايد الهاجس بها أكثر ويتعمم في أبعاده، في أوقات الأزمات التي تمر بجماعة ما، وأحياناً في أوقات التفوق الكاسح الذي تعيشه جماعة ما، بحيث يكون لهذا الانتماء / الهوية أساساً قوياً متمايزاً في ثقافته عن الآخر. (1)

والثقافة عموماً، عبارة عن: (تلك المعايير المشكلة لنظام العقل والسلوك في مجتمع ما، أو لدى جماعة ما، والتي تحدد نظرة الفرد والجماعة لنفسها وللآخرين، إنها ذلك الكل المركب الذي يتضمن: المعرفة، الإيمان، الفن، الأخلاق، القانون، الأعراف، وأية قدرات وعادات يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في جماعة) "2".

بحيث تمنح في مجموعها (المعنى) لتلك الهوية، وأضيف للمفهوم التعريفي السابق، "اللغة الفكرية المشتركة"، وليس اللسان / النطق فقط، وتكون الهوية انعكاساً لتلك الفلسفة المعاشة لهذه الجماعة أو تلك، فهي "وعي بالذات"، ومعيار "تعامل مع الآخر"، وبكل ما يدفع هذا الوعي بالذات من خلال تفاعلاته الذاتية أو تفاعلاته مع الآخر، أو تفاعلاته مع الزمان والمكان، نحو ما يمكن تسميته (بالمتغير التاريخي والمجتمعي)، تطوراً إلى الأمام، أو انكماشاً وتقوقعاً وردة نحو الوراء.

 

بين الوطني والقومي

يطرح عادة تساؤل محق ومشروع: ما علاقة الهوية الوطنية، بهوية الأمة؟

وهل يمكن للهوية الوطنية أن تبقى محافظة على ذاتها ومقوماتها الأساسية دون سند من مرجعيات الأمة اللغوية والعقيدية والتراكم التاريخي والحضاري؟

أكاد أعتقد بضرورة تجاوز الخلل الإشكالي القائم بين: البعد الوطني، والبعد القومي، فهو إشكال "مصطنع" – كما أدّعي – ليس له مستنداً ذهنياً أو حسياً، بل أن الحالة الذهنية، والحالة الحسية المصلحية، تنفي أن يكون هناك خلل موضوعي بين الهوية الوطنية والهوية القومية، وهذه الإشكالية " المصطنعة " كان سببها: الرومانسية القومية من جهة، والذاتية القطرية المنغلقة من جهة أخرى.

" فالرومانسية القومية انطلقت من رفض كل دولة وطنية، وأذابت الوطني في مفهوم العروبة التراثي والوجداني، ونسيت أن تلتفت إلى أن الوطني في "غياب" القومي، ضرورة ملحة، وأنه من الغباء انتظار ما هو قومي، حتى نبني أوطاننا بشكل قومي وجمعي، بالتالي فإن تحديث التوجه والفكر الآن، لابد أن يستوعب أن التعدديات الوطنية في التكوين الجغرافي والمجتمعي والسياسي، لها جذورها وبناها التقليدية والمعاصرة، وإنه لأكثر نجاعة عند التوجه القومي العربي الوحدوي، أن تقارب هذه التعدديات الوطنية: معرفياً وموضوعياً، من أجل تشخيصها ومعالجتها وتحديد السبل الفعالة لتطويرها إيجابياً والتقريب فيما بينها قومياً، وعندما نحتكم إلى الجغرافيا والتاريخ، نجد:

(أن التجزئة السياسية كانت تعبيراً عن تعددية البنى المجتمعية الداخلة في النسيج الاجتماعي البشري الاقتصادي العام للمنطقة العربية، والذي كون بطبيعته نسيجاً مركباً وتراكمياً على مدى عصور طويلة، وكان عرضة مستمرة للغزوات الرعوية من داخلية عربية، وخارجية أعجمية، الأمر الذي لم يتح "للجسم العربي الواحد"، وللنسيج العربي الواحد، تلك العزلة السعيدة لفترة من التاريخ، لينصهر في بوتقة عضوية واحدة، ويُذَوّب بناه المتعددة بصيغة مستقرة في بنيته الموحدة الشاملة).

وفي المقابل، اعتقد بعض العرب وخاصة من هم في مراكز القرار، أن العمل على إضعاف الهوية العربية ومحاولتهم التهرب من الانتماء للعروبة، سيعمل على دعم وتقوية الهوية الوطنية / الانتماء.

وهنا يجب أن نعي خطورة هذا الطرح، خاصة وأرضنا وشعبنا العربي يرزح تحت الإحتلالات والتدمير، ويعايش أخطر التحديات الوجودية التي تمس وحدة نسيج المجتمعات العربية، وسرقة ثرواتها، دون أي درع قومي محسوس على جميع صعد (الأمن القومي العربي): فكرياً وثقافياً وسياسياً وتنموياً واقتصادياً وعسكرياً، يحمي ويحصن ويدفع الواقع المزري إلى مستقبل أفضل، إن ضرورة استمرار البحث والتحليل، سيوضح لنا دائرة التخلف والضعف هذه، الناجمة عن بعض الرؤى والمحاور.

المحور الأول:

- فشل الدولة القطرية مهما بلغت ثروتها الوطنية، وأياً كان مذهبها الاقتصادي، ومهما كانت تجاربها التنموية، واختياراتها لإستراتيجيات تخطيط أو تصنيع أو تنمية، قد فشلت ليس في تجاوز تخلفها القطري وتحقيق انطلاق قوي باتجاه التقدم فحسب، بل فشل هذا النموذج القطري حتى في إحداث إصلاح اقتصادي يصحح الهياكل الإنتاجية، ويقلل درجة الاعتماد على الخارج، ومن ثم يحقق التوازن في المعادلة الصعبة الشهيرة: كيفية تحقيق الزيادة في الإنتاج، وفي الاستهلاك، وفي الادخار، في آن معاً؟

المحور الثاني:

- أثبتت التجربة وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية، أن إغفال الخيارات القومية، وتراجع وارتباك النظرة إلى مفهوم (الأمن القومي العربي) بأبعاده الشاملة، تحت وطأة سيادة مفهوم (الأمن القطري)، والتفريط في هدف التنمية الشاملة والمستقلة، كل ذلك أدى إلى تهميش دور الاقتصاديات العربية من جهة، ثم اندماجها في السوق الرأسمالي العالمي من مواقع التبعية، وليس من مواقع الاستقلال والإبداع والإضافة، من جهة ثانية، فانحصر دور الاقتصاديات العربية، وانحصر دور الدولة القطرية، في إنتاج المواد الخام، وتوفير العمالة الرخيصة، ثم التحول إلى مستهلك نشط لإنتاج النظام الرأسمالي العالمي.

المحور الثالث:

- وقوع أغلب الدول العربية بما فيها الدول المنتجة للبترول، في مصيدة الديون للخارج، والتي ما لبثت تلتهم أية فوائض أو زيادات في معدلات الناتج المحلي لتلك الدول، وأصبحت تلك الديون تمثل أكبر عائق في طريق تحقيق التنمية المستقلة أو الاستقلال التنموي، فضلاً عما تفرضه من قيود على الإرادة السياسية في صنع القرار الوطني للدول المدينة.

المحور الرابع:

إضافة إلى ما تقدم، نجد مفارقة كبيرة، ففي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا لخلق منظومة اقتصادية أوروبية واحدة وصولاً إلى منظومة سياسية واحدة، فإن ذلك يقابله على الصعيد العربي فرقة وتمزقاً وصل حد الانهيار.

 

الوطني والقومي والدين

أكاد اجزم أن هذه الهوية المتساوقة والمدمجة بتركيبتها الثلاثية: الوطنية، القومية، الإسلام، هي من الهويات البنائية ذات نسيج مجتمعي متناغم التركيب في الأخذ والعطاء.

وأدّعي أن هذه الصورة الذهنية والحياتية المعاشة، هي التي دفعت إلى إفراز فكر ووعي منذ قرن من الزمان، ساد وانتشر مواجهاً لواقع سياسي واجتماعي وثقافي، فرضته اصطناعاً وقسراً قوى الاستعمار والتقسيم والتغريب الثقافي.

هذا الإفراز الفكري والواعي داخل المجتمع، شكل هويته الجامعة ولكل فئاته ومكوناته بحيث أضحت هذه الثلاثية: الوطنية، القومية، الإسلامية، مستقرة إلى حد كبير على أسس حديثة تتجاوز واقع سبق فرضه بكون:

* الوطنية: هي المرتكز في إعادة بناء القوة البنائية والدفاعية في المجتمع والدولة، وهي الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم، وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه، وهي التي ستؤدي إلى تماسك الدولة الوطنية وخلق قوتها.

* القومية: وهي السياج والدرع الشامل الحامي للوطنيات في مسارها نحو تحقيق اندماجها: المجتمعي والاقتصادي والسياسي والعسكري، وهي العاكسة لأفكار وتصورات تجعل من الوطن الكبير بشعبه (قيمة اجتماعية) أساسية، تعمل على زيادة ولاء الفرد لهذا الوطن، الولاء المستند على الشعور بالمصير والأهداف والمسؤوليات المشتركة والمصالح الجمعية لجميع مواطني هذا الوطن الكبير.

* الإسلام: هو روح هذه الأمة والمشكل الحضاري لجميع فئاتها ومكوناتها وأفرادها.

إن هذه الأسس التي تجسد هوية أمة معروفة بتدينها الفطري، تطرح حركة تغيير شامل في المجتمعات العربية، بعيداً عن الجهل والخرافة والتحريف، ولتقود هذه الحركة ذات الهويات البنائية، الأمة في معارك توحيد أشلاء الأمة، وفي بناء المجتمع الذي تسوده قيم الحرية والعدالة والحداثة، وترى في الدين الإسلامي (إرث حضاري وثقافي) وعنصر تكوين أساسي في هويتها، وهو ملك لكل أفرادها وقواها المسلمة والغير مسلمة، ولا يحق لأية فئة أن تدّعي امتلاكه أو استخدامه ستاراً لتحقيق أياً من أهدافها الخاصة.

إن الهوية التي تستبعد الدين من المجتمع، أو تغيّب الفهم الصحيح للدين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أياً كان، تتحول – تلك الهوية – إلى هوية قاتلة، في خلقها المناخ المناسب لأي صراع طائفي أو مذهبي، يُحَول ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتعدد، إلى عنف دموي يناقض جوهر الرسالات السماوية.

إن علينا جميعاً مسؤولية إعادة مراجعات كثيرة أصبحت مطلوباً عربياً في هذا الوقت بالذات، والأمة تتعرض لمحن كثيرة تمس وجودها وحريتها وأمنها وثرواتها ومستقبلها، وأن أهم هذه المراجعات وما ارتبط منها في طرحنا هنا، هو إعادة الوعي لما تشكله هويتنا الوطنية الجامعة من أهمية حياتية.

إن ضبابية الهوية الوطنية أو ضعفها، سيشكل مخاطر متزايدة تمس مجتمعاتنا. منها: (3)

1 - فتح الأبواب لصالح هيمنة انتماءات ضيقة منغلقة تخترق النسيج الاجتماعي الواحد، وتؤدي إلى ضعف البناء السياسي والدستوري الداخلي، فيصبح " الوطن " ساحة صراع على مغانم ومكاسب سياسية أو شخصية، بعيداً عن مصلحة الانتماء الوطني الواحد.

2 - إن ضعف الهوية الوطنية يشكل تعبيراً عن الفهم الخاطئ للانتماءات الأخرى التي تتراوح في انتماءات ما قبل الدولة، من انتماءات: دينية مختلفة، أو إثنية، أو قبلية، فتتحول إلى خلافات عنيفة وصراعات دموية تتناقض تماماً مع " حكمة الاختلاف والتعدد".

3 - كما أن ضعف الهوية الوطنية الجامعة، قد يكون مدخلاً للتدخل الخارجي، بل وللاحتلال الاستعماري، حيث تنساق كل طائفة أو مذهبية أو فئوية على ضعفها، للإستقواء والتعامل مع أي قوة أو جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد."

من تلك المخاطر المحيقة بالمجتمع والوطن، يصبح ( تعزيز الهوية الوطنية الجامعة )ضرورة أصيلة وهامة، بما يجب أن يرافقها من إعادة الاعتبار وتقوية ودعم " مفهوم العروبة " على المستوى العربي الشامل، لتصبح ( العروبة الثقافية ) الجامعة لكل العرب هي حجر الزاوية المنشود لمستقبل أفضل، داخل البلدان العربية، وبين بعضها البعض، فالعودة إلى العروبة الآن، هي حاجة قصوى لحماية المجتمعات من الداخل، وتحصينها من هيمنة الخارج، ولمواجهة ندية مع " مشروع العولمة "، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربي مشترك وفعال،

إنها دعوة للعودة إلى أصالة هذه الأمة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصب وللعنصرية. "3".

 

مفهوم الوطنية

نشأ مفهوم الوطنية باعتبارها قضية أساسية في حياة الشعوب، من سياق الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال وإخراج المستعمر ومقاومته، أي الكفاح ضد العدو الخارجي، وتكون مفهوم " الوطنية " من خلال هذا الموقف.

وفي معظم دول العالم ظهرت حقبة جديدة ومفهوم جديد بعد نيلها لاستقلالها، بدأت تعيد إخضاع (الدولة للمجتمع)، وإخضاع الجماعة للقانون والندية والمساواة.

بينما لم تتحول الوطنية إلى هذا إضافة هذا المفهوم في المجتمعات والدول العربية لمفهوم القومية بالشكل القديم، ويمكن عزو ذلك لعدة أسباب منها: تفتت الوطن العربي وضعف دوله، وقوة المصالح الإستراتيجية والنفطية والسياسية للدول الاستعمارية الكبرى، وقيام "دولة إسرائيل" والحروب المستمرة معها، وضعف الوعي المجتمعي والسياسي، والحكومات الاستبدادية التي ماهت وجودها مع وجود الأوطان.

ومع بروز الحركة القومية في معاركها ضد التدخلات الأجنبية، والتطابق بين الحركة القومية، والحركة الوطنية الخاصة بكل قطر، ظهرت (الوطنية القومية الجديدة)، والتي لم تنجح في الاستمرار بعد وفاة الرئيس عبد الناصر بسبب عدم بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية، حيث إرتبطت هذه الحركة بشخصه، وبعد وفاته انهار التحالف الاجتماعي، وفقدت الأجندة الوطنية القومية حاملها التاريخي، وتعززت قوى "بيروقراطية الدولة" ورفدت بقوى الرأسمال الفاسد وقوى الفساد والاحتكار والاستبداد، وأصبحت هذه "القوة" واقع إجتماعي وسياسي يدعم النظم، وتدعمها النظم للترابط المصلحي والوجودي بينهما.

وإن طرحنا مفهوم "الوطنية" بالشكل العام، لوجدنا الوطنية هي في إحساس الفرد وقناعته الحرة وبإرادته، بأن هذه الرقعة الجغرافية / السياسية التي يطلق عليها (الوطن)، هي مبدئية وفوق جميع المصالح الخاصة، وفوق جميع التكتلات الاجتماعية والسياسية التي تشكل مفهوم الوطن وتكون جزءا منه، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال اتخاذ الخارج والتحالف معه على حساب الوطن، كما لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتماهى الوطن مع أي قوة خارجية أو داخلية، ولا يجوز أن يتماهى الوطن مع أي نظام أو سلطة أو حكم بحيث يصبحان شيئاً واحداً.

ومقابل هذه النظرة من " الفرد " والتي لا يجب أن تضعف أو تموت أو يكفر بها، هناك الوجه الآخر لهذا الإحساس لدى الفرد: بأنه (مواطن) كامل ومتساوي الحقوق والواجبات في هذا الوطن ضمن الدستور والقانون.

ومع إقرار الجميع بهذا المفهوم، تبقى فكرة (المواطنة والوطن) محلاً للجدل: في الوظيفة، والمفهوم المتغير، والتحقيق على الأرض النابع من قبول الآخر المواطن وعدم استبعاده.

وفيما يخصنا كسوريين، فإن اختفاء وعدم وجود (مرجعية وطنية) تحدد الغاية من الوطنية في الاجتماع السياسي، مع الاتفاق على خيارات مقبولة نسبياً من المجتمع، وتحقيق التسويات الضرورية بين مجموعات المصالح والتيارات والأفكار السياسية المتنافسة، حيث يطرح الأخذ بمبدأ (المصلحة ونفي الحرج) ضمن هذا الاجتماع السياسي، وضمن هذا السياق يقول د. / برهان غليون/:

(أنه بغياب مفهوم واضح للمصلحة الوطنية عند الرأي العام، سواء ما تعلق منها بالأمن الوطني أو بالوحدة الداخلية أو بالتنمية أو بأي ميدان من ميادين النشاط العمومي، لا يبقى هناك مجال لتكوين "إرادة أخرى" غير تلك "الإرادة الحاكمة"، ومن الواضح أنه لا توجد اليوم وفي معظم البلدان العربية، أجندة وطنية، ولا من باب أولى أجندة قومية عربية، لكن هناك أجندة نظاموية).

ومما نعيشه في هذا الوضع والواقع، نرى إلى أي حد تجردت الوطنية من "برامجها" التاريخية الخارجية المتعلقة بالأمن والسيادة والاستقلال، والداخلية المتعلقة بحقوق الأفراد السياسية والمدنية، فالوطنية يجب أن تكون مرتبطة بالحماية ضد الخارج، ومرتبطة بحقوق وواجبات ومصالح والتزامات تخص الجميع وكل فرد، ويجب أن تتقبل "النقاش والتطوير والتجديد والتحسين".

 

المواطنة والدولة:

يمكن أن ندّعي أن المواطنة هي: عقد اجتماعي ينحو إلى التعاقد بين مجموعة من الأفراد تربط بينهم إرادة العيش المشترك، من خلال تفاعلات بنائية بينهم كأفراد وجماعات، ويتفقون بموجب هذا العقد على "نظام عام" يضمن حقوق جميع المتعاقدين ومصالحهم ويصون حريتهم وكرامتهم ويحقق مساواتهم جميعاً أمام القانون. ويترابطون في توفير الحماية والأمن على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويتفقون بموجب هذا العقد على الحؤول دون نشوء أي نوع من التمايزات والامتيازات التي تضر وتُفشل مبدأ المساواة بين المتعاقدين.

ويوضح المفكر / جاد الكريم الجباعي /، غاية هذا (العقد) بأنها: حفظ بقاء الجميع، وتحقيق المصلحة المشتركة أو المصلحة العامة، التي تعيد تعريف المصالح الخاصة وتحددها، من دون أن تضر بها، وتصبح مقولات النظام العام والمصلحة العامة والنفع المشترك والإدارة العامة، مطابقة لمعنى المجتمع المدني والدولة السياسية، وتتجلى هذه كلها في المؤسسة التشريعية بوجه خاص، لذلك وجب أن يكون أعضاء هذه المؤسسة منتخبين من الشعب كممثلين عنه أفراداً وجماعات، ومسؤولين أمامه فقط، وهو ما يجعل منه مصدراً وحيداً للسيادة.

 

الدولة السياسية

الدولة السياسية هي شخصية اعتبارية عامة يفترض أساساً أن تكون حرة ومستقلة ذات سيادة، مُستمدة من الشعب ذاته وجودها وشخصيتها وإرادتها، بكونها ممثلة عنه ومُمارسة لوظائفها الإشتراعية منه، بكون الشعب قد أنجز عقده الاجتماعي الذاتي، وشَرّع الدولة بدخوله بعقد طرفه الآخر هذه الدولة / السلطة، بحيث لا يمكنها أن تلتزم إزاء غيرها ما من شأنه أن يخالف هذا العقد، وتكون ملتزمة تماماً كوظيفة من وظائف وجودها: بالإشراف والتنفيذ وصيانة العقد الاجتماعي بين كل أطرافه من جهة، وبينها وبين مُشَرِعها من جهة أخرى، بحيث يكون هذا الميثاق الذي يُعبر عنه (بالدستور) ميثاقاً أساسياً حاكماً لكل الشخصيات الفردية والاعتبارية في هذا الكيان / الدولة، التي هي "الحُكم"، و "أداة الحُكم" في ذات الوقت.

على أن (فكرة الدولة) وكيانها غير واضحة المعالم، ولا معبرة عن شرعية تكونها، وليست ناجزة أبعد عن كونها " شبه دولة "، في الوعي الجمعي الاجتماعي العربي، وفي هشاشة العلاقة بين المجتمع وبين الدولة / السلطة لأسباب كثيرة أهمها: الموروث الاجتماعي التقليدي العشائري والقبلي والآبائي، مع ملاحظة عدم انحصار ذلك في الدولة / السلطة، بعيداً عن كونها ( نتاج ) النخب الفكرية والسياسية المجتمعية، التي بدورها (نتاج طبيعي) للمجتمع العربي العشائري العصبوي، الكابح للتقدم والتطور والنماء. (4).

ومما سبق التطرق إليه حول مفاهيم ثلاثية ( الوطنية، المواطنة، الدولة )، أستطيع القول: بالارتباط الجدلي سواء بتأثيرات الشد إلى الخلف، أو بالدفع إلى الأمام، بينهم.

وأكاد لا أرى خلاصاً من هذا الشد إلى الخلف الحاصل حتى الآن، إلا بإعادة نقد "أنماط التفكير السائدة" في كل مناحي حياتنا، وضرورة إعادة إنتاج " أنماط تفكير جديدة " تقطع مع القديم بكونه مجرد لا أكثر من مجرد عبرة ودروس وتجارب يجب الاستفادة من أسباب سلبياتها، لخلق وعي يتأصل ويتراكم، مقروناً بالفعل الإيجابي على طريق دخول العصر وما يتلوه من حداثة دائمة مستمرة.

 

التغيير الوطني الديمقراطي، والمخاطر الخارجية

الثروة، والجغرافيا

عاملان جاذبان للاستعمار ومحاولات الهيمنة وجميع أنواع المخاطر الخارجية.

الجغرافيا السياسية قدر سوريا في وجودها، وما يترتب على ذلك من دور ووظيفة ذاتيان وإقليميان لابد أن تؤديهما، ومع ما يترتب عليهما أيضاً من مواجهات مع المحيط الإقليمي والدولي، وهذا الأمر ليس بطارئ أو مؤقت، بل هو حامل للاستمرارية.

وبكون هذه المخاطر الخارجية ليست آنية، فإن ذلك يستتبع ضرورة وجود دولة: - أرض وشعب وسلطة – قوية مانعة متطورة ومتقدمة بنائياً ضمن منظومتها في الأمن القومي العربي.

ومع طرح شعار: التغيير الوطني الديمقراطي، فإن الأمر يتجاوز أن يكون هذا الشعار هدفاً بحد ذاته، ولا يعدو عن أن يكون أداة ووسيلة لتحقيق دولة القوة والممانعة والمقاومة والبناء.

التغيير: وهو (فعل إرادة واعية)، ويختلف عن "التغير" المحكوم بقوانين عامة، ليس للإرادة الإنسانية دور في إحداث هذا التغير، إلا "بانعكاسات ممارساتها" السلبية أو الإيجابية على التغير.

والتغير هو ذلك الفعل الإرادي الواعي الهادف إلى إحداث وخلق وضع جديد وبوعي تام بالمطلوب الوصول إليه، ووعي بنجاعة هذا الوضع الجديد.

وكونه: (وطني)، أي أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً وشرطياً لإحداثه، بالأدوات الداخلية، قاطعاً تماماً ورافضاً لأي دور أو اتكاء أو مساندة من القوى الخارجية.

وكونه: ( ديمقراطي )، أي أنه سيستخدم الأدوات السلمية المبنية على: الحوار، التحالفات، الثقل الشعبي المجتمعي، المشاركة والتشارك، وهو بحد ذاته – الديمقراطي – يشكل إفرازاً تراكمياً في المجتمع، لا يحدث بشكل آني وفوري وبقرار، وإن كان " الطريق " إليه والمسار عليه يبدأ كذلك، متدرجاً ومتفاعلاً من أعلى إلى أدنى، ومن أدنى إلى أعلى.

إن: التغيير الوطني الديمقراطي هو أساساً ضرورة ملحة لإعادة إنتاج أوضاعنا وصياغتها سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً وفكرياً وثقافياً، وصولاً إلى الدولة الوطنية الحديثة، الدولة المنتجة والتنموية لتحقيق التقدم والتطور لجميع مواطنيها، وخاصة لتحقيق مصلحة الأغلبية الساحقة فيها، وباعتبار أن: الديمقراطية الاجتماعية / الاشتراكية القائمة على حرية رغيف الخبز، وعلى تحرير الإنسان من كل ما يمس أمنه الغذائي ومتطلبات حياته المعيشية، وتحرير وعي الإنسان من كل ما يكبل وعيه ويسرقه ويهيمن عليه، فيجب أن تتكامل مع الديمقراطية السياسية القائمة على حرية التعبير وإبداء الرأي والمحاسبة، للمواطنين أصحاب المصلحة الحقيقية في الوطن وخيراته وموارده وأمنه، وبالتالي هناك تكامل وعلاقة وثيقة بين الديمقراطية الاجتماعية / الاشتراكية، وبين الديمقراطية السياسية، وذلك بعكس ما يدّعي البعض بدفعه لإقامة الفصل بينهما، وتسييد الديمقراطية السياسية المفرغة من مضمونها على طريق الليبرالية المتوحشة المستَغِلة والناهبة والفاسدة.

إن: إحداث التغيير الوطني الديمقراطي عدا عن كونه ضرورة ملحة ومطلوبة على المستوى البنائي التطوري والتنموي والعدالي، لهو مطلوب أيضاً "للتصدي للمخاطر الخارجية".

وإن كانت هذه " الثنائية " ليست موجودة في كل بلدان العالم بشكل ضاغط، إلا أنها تشكل ضرورة وجود في حالتنا الوطنية والقومية، ويصبح من الضروري أن نعمل ونصيغ حياتنا ووعينا وإرادة فعلنا وفق هذه الثنائية وتكاملها، وخاصة للتصدي ولمواجهة المشروع الصهيو-أمريكي المقتحم أكثر والهادف إلى تصفية وجودنا كأمة فاعلة لها وجودها الكياني والسيادي، ودورها بالمساهمة في قيادة هذه المنطقة الإقليمية من العالم.

وقد طرح الأستاذ / د. محمد السعيد إدريس / في (مشروع تأسيس حركة التحرر العربية الديمقراطية) ما يلي:

(إن التحديات الهائلة التي تواجه الأمة العربية الآن، والمهام الوطنية والقومية المطلوب إنجازها، تفرض قيام حركة تحرر شعبية في تكوينها، أي مرتكزة على قوى شعبية ومؤسساتها الجماهيرية المختلفة، من: نقابات ومؤسسات مجتمع مدني وحركات شعبية متنوعة، تكون مؤمنة بهدف بهدف قيام حركة تحرر عربية شاملة، وأن تكون هذه الحركة ديمقراطية في تأسيسها ومؤسساتها وأدائها، دون سيطرة أو هيمنة من أي طرف مشارك، وأن تتمتع بالقدر الأعلى من الشفافية والمحاسبة في الأداء، وأن تمتلك من أدوات الرقابة والمحاسبة ما يجعلها دائماً بمنأى عن أي شطط أو تعسف أو انحراف)، وأكاد أعتقد، أنه من هنا: تنطلق الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية.

 

العمل العربي المشترك

منذ بدايات تحرر الأقطار العربية من الاحتلال، ومنذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن، يعاني العمل العربي المشترك من تفككات ومن تشرذمات ومن نزاعات سلطوية، ويتأرجح بين درجات الحد الأدنى، ومتراجعاً حتى الحدود الغير مقبولة والسلبية التي تؤثر بشكل كبير على الأمن القومي العربي.

وإن كنت هنا لست بصدد التمييز وإظهار التناقضات والصراعات السلطوية العربية – العربية، انطلاقاً من: تقدمية ورجعية، جمهورية وملكية، وإنما أرى تاريخياً وحتى الآن على وجه الخصوص، أن العمل العربي المشترك يعيش ضمن انتساب لإحدى قاعدتين / مشروعين متناقضين:

قاعدة / مشروع: إنجاز استقلال وطني بكل معانيه وأبعاده، تصدياً ومقاومة للمشروع الاستعماري الخارجي وقاعدته ومركزيته "الصهيونية".

وقاعدة / مشروع: مترنح ومتذبذب بين قناعات ومصالح الالتصاق بالقوى الاستعمارية الخارجية درءً "مخيالياً" لمخاطرها، بالرضوخ لها والاستسلام والتبعية لها، وصولاً إلى حسم الموضوع لديه بالتنازل المباشر عن:

الصراع العربي – الصهيوني.

وإن اعترفنا بوجود هذين المشروعين، فإن من طبائع الأمور وتحصيل حاصل، أن ينقسم ويفترق العمل العربي المشترك، التحاقاً بهذا المشروع أو ذاك، مع بعض المواقف الهيولية لهذا النظام القطري أو ذاك من اللاملتحقين بأحد المشروعين.

ومن مسلمات أي عمل مشترك، أن تكون هناك أرضية أساسية متفق عليها، ثم ليس من مانع حدوث اختلاف أو اتفاق على ما يلي من أمور ضمن ثلاثية "الزمان والمكان والظروف المتغيرة"، وبالطبيعي أن يكون هذا، ضمن سلم الأولويات والتبدلات التي تطرأ عليها، فتتغير الأولويات وتتغير الإستراتيجيات بعيداً عن الأرضية الأساس القائم عليها الاتفاق.

أمّا وأنه ليس هناك اتفاق على (الأرضية المشتركة الأساسية)، يبقى المسكوت عنه والمحاولات الترقيعية للوصول إلى عمل عربي مشترك، هو الحاكم والمفجر للخلافات مهما قامت محاولات لا يمكن أن يكتب لها النجاح لإيجاد إستراتيجية عمل عربي جدي مشترك، على أنه يبقى الحد الأدنى من التلاطف والتنسيق السطحي وبوس اللحى هو الحاكم الفعلي لهذا العمل المشترك.

ويبقى مفهوم: (الأمن القومي العربي) بكل أبعاده، هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه العمل العربي المشترك، وبمن آمن بهذا المفهوم، وليس من الضروري أن يكون شاملاً لجميع الأنظمة القطرية إلا من خلال حسم موقفها من هذا المشروع.

 

التحضير لمناخات الوحدة، والتقاط الفرص التاريخية:

ليس التاريخ لوحده كحتمية تاريخية وبفرصه، هو الذي يوفر ويحقق وحدة الأمة، إن وجوب وجود:

تأهيل، وعي، إرادة، أداة، للأمة العربية بأفرادها ومؤسساتها، هو الذي يؤهلها لتكون "متمكنة مستطيعة" من التقاط الفرص التاريخية الموضوعية.

إن التحضير لذلك، والتحضير لمناخات الوحدة، يستدعي الاستمرار والعمل المشترك الدائم والمتصاعد والمتراكم من جميع القوى الوحدوية العربية للسير على طريق:

1 - إعادة الحراك السياسي والاجتماعي للمجتمع، ورفع الوصاية بكل أنواعها عنه، لإعادة إنتاج وعيه الإرادي بضرورة ممارسة أدواره ووظائفه ضمن التعدديات الاجتماعية والسياسية الوطنية والحقيقية.

2 - تلاحم النخب بكل أشكالها وأطوارها ومرجعياتها الوطنية، مع الجماهير وشرائح المجتمع السياسية، نضالاً وتلبية لحقوقها مهما صغرت، من فردية وخاصة، وتصاعداً لحقها في العيش الجماعي الكريم والعادل، وممارسة دورها في الإختيار الواعي، وصيانة مواردها وأمنها.

3 - ضرورة الاستيعاب والعمل على مفهوم: أن "الفعل السلمي المنتج" الإخائي البعيد عن التعصب أو العداوة أو الإقصاء، يتطلب حركة جامعة وشاملة للكتلة المجتمعية بأكبر قدر من الوساعة والشمول الذي سيحقق تضامناً وتقارباً وتلاحماً أكثر إنتاجية في جميع المناحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية.

4 - التوجه والدفع نحو خلق (دولة المؤسسات القطرية) التي وبطبيعتها ووظيفتها وخلفيتها، ستكون الممثلة والدافعة والمتلاحمة مع رغبات شعبها وطوحاته ومصالحه.

 

هوامش

1 - مقالي عن / قراءة في الانتماء والعولمة.

2 - تعريف اليونيسكو.

3 - جاد الكريم الجباعي.

4 - عبد الإله بلقزيز.

5 - مقالي عن / أهو العقل أم المنهج أم الممارسة.

 

5/3/2008

[email protected]