حكومة الهالكي والعملية المستحيلة في العراق
د. فيصل الفهد
رغم أن حكومة الهالكي تلقى كل الدعم من إدارة بوش، إلا أن أغلب المسؤولين الأمريكيين أصبحوا على قناعة من أن حكومة الهالكي تعيق كثير مما تأمله الإدارة الأمريكية في العراق المحتل، ففي عام 2004 وضعت الولايات المتحدة والأمم المتحدة، ثقلهما لإتمام مسرحية الانتخابات التي أسفرت عن تصويت لقوائم مغلقة لا أحد يعرف أسماء مرشحيها وهو ما أدى إلى إطلاق يد أشخاص وأحزاب طائفية عنصرية ومنحوا صلاحيات وقاموا بأدوار خبيثة وجرائم نكراء، ومع ذلك كانوا بعيدين عن التعرض لأية مسائلة قانونية على فشلهم، وما ارتكبوه من فظائع بحق الشعب العراقي، عدا عجزهم وتقاعسهم عن تقديم الخدمات الأساسية، حيث أصبحت المياه والكهرباء وجمع المخلفات، وإيجاد فرص للعمل في أسوأ صورها لاسيما في المناطق المناهضة للاحتلال.
إن عدم كفاءة الحكومة وفشلها المستمر واستمرار الاحتلال هما المشكلة الأكبر في العراق، فالهالكي قد أثار عداء الآخرين حتى الذين يشتركون معه في خدمة المحتل انطلاقا من تصور مفاده أنه سيحصل على دعم مؤكد من الرئيس بوش.
وبدوره يحيد بوش عن الطريق، بدعمه رئيس الوزراء المحصن، ويعبر عن ذلك باستمرار في المؤتمرات الصحفية أو اللقاءات عبر دوائر الفيديو، ولاعتقاده أن البيت الأبيض لا يمكنه أن يمارس ضده ضغوطا مؤثرة دون أن يلحق الضرر بالتأييد الداخلي لسياسته في العراق، فقد راح الهالكي يستخف بالحكم ويعمل على تعزيز الهيمنة الطائفية من خلال عصبة متآمرة وتقوية نفوذ المليشيات المدعومة من إيران، وللمراوغة على الواقع، مع العلم أن الهالكي يعرف جيدا أنه لا يستطيع أن يبقى في منصبه يوما واحدا بدون دعم قوات الاحتلال.
إن استمرار إدارة بوش بدعم حكومة الهالكي، ورفضها التخلي عنه، ليس حبا فيه بل بسبب عدم وجود مرشح بديل يحظى بتوافق جميع العملاء يمكن أن يحل بدلا عنه. فإذا ما أطيح بحكومة الهالكي الساقطة أصلا فأن وقتا طويلا سيمضي لاختيار خليفة عنه (كما حدث في 2006 عندما جاء الهالكي بدلا من ابراهيم الأشيقر) ذلك وضع الإدارة الأمريكية وظروف العراق أضعف من يتحملان مثل هكذا شلل.
إن التنافس المحموم بين المرشحين "الجمهوريين والديمقراطيين" لخوض معركة الانتخابات الرئاسية القادمة لا تزال في تصاعد ولا يزال مرشحي "الحزب الجمهوري" يسيرون على خطى بوش العرجاء، فهذا "جون ماكين" المرشح الجمهورى الأوفر حظاً للانتخابات الرئاسية الأميركية، يعلن تأييده لبقاء الولايات المتحدة على المدى الطويل في العراق، متهماً خصومه "الديمقراطيين" بالخضوع لقوى "الشر"، بعكس المرشحين "الديمقراطيين" الذين يعولون على المناورة بقضية سحب القوات الأمريكية من العراق. في حين لا يزال الجدول الزمني لخفض حجم القوات الأميركية في العراق محط اهتمام ويتصدر جدول أعمال "المفاوضات الأميركية – العراقية" بشأن وضع ما سيتبقى من القوات الأميركية هناك بعد عام 2008، وفي ذات الوقت يستمر السجال في واشنطن حول صياغة مستقبل الدور الأميركي في العراق، ويبدو أن هذا التخطيط العسكري لا يستقيم والمزاج السياسي العام في كل من أميركا والعراق، حيث لا يزال الرأي العام متشككا تجاه الاحتلال العسكري الأميركي، ولذلك يعتقد أن الجدل الدائر حاليا في واشنطن سيصل نقطة حاسمة عندما يتقدم كل من "الجنرال بترايوس" والسفير الأميركي لدى العراق، "ريان كروكر"، بتقريرهما حول الوضع في العراق إلى الكونغرس في (نيسان) القادم.
إن جوهر اهتمام الإدارة الأمريكية هذه الأيام ينصب حول فرض القواعد القانونية على عملائهم وتحديد الكيفية التي ستعمل بموجبها القوات الأميركية خلال العام المقبل وما بعده، في ضوء ما تم تثبيته في ما يسمى "اتفاق الإطار الأمني" الذي يراد تمريره بديلا عن تفويض الأمم المتحدة، الذي من المقرر أن ينتهي بنهاية العام الجاري، ومن ضمن القضايا الشائكة في هذا الجانب تلك التي تتعلق بالسلطات القانونية اللازمة للقوات الأميركية للقيام بعمليات ضد "القاعدة" والميليشيات التي تدعمها إيران، فضلا عن السماح لأميركا بالاستمرار في احتجاز المعتقلين العراقيين الذين يقدر عددهم حاليا بمئات الآلاف، بالإضافة إلى رغبة أميركا في البقاء طويلا في قواعد عسكرية بالعراق، وهذا ما يتعارض مع رغبة الشعب العراقي الذي يناضل بمختلف السبل لإخراج الاحتلال الأمريكي من العراق، ومن هنا فأن أي اتفاق أمريكي مع حكومة الهالكي التابعة للمحتل ستنتهي إلى ما يمكن تسميته بالعملية المستحيلة في العراق.
إن المؤسسات التي جاء بها الاحتلال في العراق، هي مؤسسات بنيت على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ليكرس عبرها احتلاله، وقادت تلك المؤسسات بالضرورة إلى سيطرة المليشيات الطائفية على كل مؤسسات الدولة، إضافة إلى تفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري والتخلف والعنف والقتل العشوائي والتهجير والتشريد والانفلات الأمني بكل ما تعنيه هذه المفردات، كما أن استمرار الاحتلال الأمريكي وما خلفه من انهيارات في كل نواحي الحياة، لم يجلب للعراق اليوم غير الويلات والمآسي، التي انعكست آثارها الكارثية على كل مكونات الشعب العراقي ليس على من بقى داخل العراق بل حتى على من غادره مرغما، ففي آخر مسح ميداني أجري على اللاجئين العراقيين في سوريا، من قبل "منظمة الأمم المتحدة للاجئين"، تبين أن كل من شارك في هذا المسح واجه، على الأقل، حالة واحدة من الأذى قبل تركه للعراق، كما أن واحداً من كل خمسة لاجئين ممن تمت مقابلتهم، ذكروا أنهم كانوا ضحايا التعذيب أو العنف، كما ظهر أيضا تفشي حالات مرضية نفسية على نحو واسع، بين هؤلاء اللاجئين: القلق، الكآبة، الإجهاد والاضطراب النفسي، وتؤثر بشكل حاد في كل جوانب حياة اللاجئين: الحياة الزوجية دُمِّرتْ، العنف المنزلي، الإرهاق، سوء التغذية، الانقطاع عن المدرسة، هي أجزاء من مشاكل مركبة تولدت نتيجة التحمل الثقيل نفسياً.
ويأتي الطفل العراقي في صدارة من لحقت بهم الكوارث التي ترتبت على الاحتلال فقد أظهرت دراسة لـ World Vision، شملت لاجئين عراقيين في الأردن، نتائج متماثلة وتم تشخيص ضغوط نفسية عالية كحالة مشتركة بين اللاجئين، بخاصة الأطفال حيث ينتشر بينهم الخوف والرعب، فأطفال اللاجئين العراقيين يفتقدون بشكل يائس أية وسيلة لإعادة تأهيلهم وإعادة بناء وعيهم وسلوكهم باتجاه الحياة الاعتيادية.
وأما عن النساء العراقيات فتشير إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، الخاصة بحماية المرأة، في دراسة عن واقع المرأة العراقية بعد الاحتلال (2003)، إلى "أن النساء العراقيات يسود بينهن شعور بعدم الأمان، علماً أن كل العراقيين يشعرون بأن أمنهم مفقود، وأن المرأة والطفل أقل قدرة على مواجهة هكذا نوع من التحديات".
أما الإحصاءات الرسمية وتقارير المنظمات الدولية (اليونيسيف) عن مخرجات عام 2007 فتشير إلى وجود نحو 5 ملايين يتيم في العراق اليوم، لم تتعد أعمارهم سن 17 سنة، يعيش معظمهم ظروفاً اجتماعية صعبة ومعقدة، إضافة إلى أن عدد الأطفال النازحين في سن الدراسة الابتدائية 220000 طفل، لم يستطع ثلثاهم مواصلة تعليمهم عام 2007، ولم تتجاوز نسبة الناجحين في الامتحانات الرسمية 40 في المئة من مجموع الطلبة الممتحنين داخل البلاد، فضلاً عن أن 760000 طفل لم يلتحقوا أصلاً بالمدارس الابتـدائية، كما أن 30 في المئة من الذين لم تتعد أعمارهم سن 17 سنة في العراق لم يتمكنوا من أداء امتحاناتهم المدرسية النهائية، وهناك 11000 طفل مدمن على المخدرات في بغداد، كما أن أطفال لعراق باتوا فريسة للاغتصاب، إذ تعرض عشرات من الفتيات في سن (12 سنة) إلى التحرش الجنسي، وأن هناك أماكن بعينها تستخدم لممارسة الجنس مع الأطفال في بغداد والمحافظات الأخرى، تم رصدها من قبل المجموعة، وعلى رغم من أن انعدام الأمن مشكلة العراقيين جميعا إلا أن تأثيره المباشر يكون في الأطفال والنساء أكثر من سواهم، فحياة ملايين الأطفال ما زالت مهددة بسبب العنف وسوء التغذية وقلة المياه الصالحة للشرب وعدم توفر أبسط مقومات الحياة الإنسانية.
إن أطفال العراق بعد الاحتلال الأميركي يعانون أشرس ما يمكن أن يمر به طفل في عالم اليوم، حيث مشاهد القتل اليومي التي طالت الأطفال، ودوي القنابل من قبل الطائرات المقاتلة الأميركية التي تدوي فوق سماء المدن العراقية والانفجارات وصوت إطلاق الرصاص والجثث المتناثرة، حيث ينتشر الأطفال في شوارع بغداد وفي كل المدن العراقية الأخرى، للتسول أو العمل في المهن الرثة التي تمثل انتهاكاً لطفولتهم، في حين لا تكترث الجهات الحكومية المعنية صنيعة المحتل لا بالأطفال ولا بغيرهم ناهيك عن غياب دور المنظمات الإنسانية والعالمية ومنظمات الأمم المتحدة، عن مئات الانتهاكات ضد الطفل العراقي.
بسبب الاحتلال وعملائه حيث يتحملون كامل المسؤولية عن هذه الأوضاع الكارثية التي لحقت بالشعب العراقي، ويشاركها بالطبع تلك المسؤولية كل المجتمع الدولي والعرب والمسلمين لسكوتهم على هذه الأوضاع.
وأمام هذه الصور المعتمة تستمر سلطات الاحتلال وحكومة الهالكي بعمليات القتل والسلب والنهب، حيث كشفت "لجنة النزاهة العراقية" في تقريرها عن تصاعد مستنقع الفساد الحكومي، علاوة على ما تقوم به كل من إيران والولايات المتحدة في نهب ثروات العراق. وأكد التقرير على أن سرقة وتهريب النفط ممارسة يومية مستمرة من خلال استخدام الصهاريج العائمة علماً أن إيران تُهيمن على أكثر من 15 بئر نفطي عراقي في منطقة الطيب في جنوب العراق، ولا تزال الجهات الإيرانية مستمرة بعملياتها لاستخراج النفط من الآبار النفطية العراقية، هذا عدا أن مهربي النفط الإيرانيين انتشلوا السفن الغارقة التي خلفتها حربا (1980و1991) في شط العرب.
أما عن جوانب الفساد الأخرى لحكومة الهالكي التي لا تعد ولا تحصى، فتشير التقارير المسربة إلى أن ما يسمى بوزارة الدفاع العراقية وقعت اتفاقية مع حكومة الولايات المتحدة لشراء أسلحة للجيش العراقي، وأثناء فحص لجنة المشتريات العراقية لهذه الأسلحة، وجدتْ أنها مصنوعة منذ 35 سنة، وهي منتهية الصلاحية، وغير صالحة للاستخدام.!
وتشير التسريبات أيضا إلى أن اللجنة العراقية رفضت تسلم هذه الأسلحة، لكن الاتفاقية تمت وأُنجزت بطريقة ما!.
ولكي يتم تدليس هذه الجرائم بحق الشعب العراقي، أصدرت وزارة الدفاع العراقية قانوناً جديداً بشأن إجراءات الجرائم العسكرية وحصرها كافة في المحاكم العسكرية، وهذا يعني إمكانية الوزارة الامتناع عن تقديم معلومات أو وثائق عند طلبها من قبل لجنة النزاهة؟؟!!.
هذا جانب بسيط مما يتحقق في العراق المحتل ببركات السيد بوش ومن جاء بهم خلف دباباته الديمقراطية ليعيثوا في ارض العراق فسادا وينفذوا نبوءتهم التي وعدوا العراقيين بها (إعادة العراق إلى عصور ما قبل الصناعة).