عناصر الربح والخسارة في العراق
د. فيصل الفهد
من الأمور المثيرة للسخرية ما نراه ونسمعه يوميا من أخبار مصدرها أمريكا، صاحبة مشروع إنتاج وتصدير الديمقراطية للعالم، لاسيما العربي والإسلامي، ومن هذه الأخبار أن وزارة الزراعة الأمريكية اكتشفت عن طريق فيلم مسرب، أن إحدى أكبر منشآت صناعة اللحوم في شيكاغو، تعامل الحيوانات (الأبقار) بطريقة وحشية قبل ذبحها، والشك بأن قسم كبير من هذه الحيوانات مريض، نتيجة سوء المعاملة، وهذا ما جعل الوزارة تسحب كميات هائلة من اللحوم من الأسواق!!! ويبدو أن وزارة الزراعة لا تعمل وفق توجيهات السيد بوش، لأن رئيس الولايات المتحدة، لا يكترث بتسببه بقتل ملايين من البشر دون أن يرف له رمش، بينما وزير زراعته يهتم لكيفية معاملة الحيوانات قبل ذبحها، رغم أنها ستذبح بشكل ودي أو غير ودي، والباقي على البشر الذين يقتلون يوميا بسبب سياسة الإدارة الأمريكية في العراق وفلسطين ولبنان والسودان وأفغانستان والباكستان والصومال ووو.
والخبر الثاني هو مطالبة البنتاغون بإعدام خمسة أو ستة من معتقلي غوانتانامو بتهمة قيامهم بتفجيرات الحادي عشر من أيلول، ونحن مع العدالة والقصاص من أي مجرم يرتكب جريمة بحق الإنسانية، ويروح ضحيتها أبرياء!!!! وبالمقابل نتساءل لماذا لا تطالب العدالة الأمريكية - إذا كانت هناك ثمة عدالة في أمريكا - الاقتصاص من السيد بوش وإدارته على ارتكابهم أفظع الجرائم بحق شعوب الأرض لاسيما احتلالهم لدول مؤسسة في الأمم المتحدة، وقتلهم للملايين من الأبرياء، وتشريد ملايين أخرى، وتدمير بلدان فوق رؤوس أهلها تحت حجج وذرائع كاذبة!! فإذا كان هؤلاء الذين يطالبون بإعدامهم تسببوا بقتل بضعة آلاف، وتدمير عدة بنايات، فماذا يقولون عن من دمر دول بالكامل، وقتل ملايين من سكانها، وسرق ثرواتها، وشرد أعزة أهلها، ولا تزال جرائمهم مستمرة أمام أنظار كل العالم، وليس من شريف في ما يسمى بالمجتمع الدولي يحرك ساكناً! ومشاهد الدم والقتل لم تعد مشهد يومي بل بالساعات، ولا ندري متى سيتحرك أحد من هؤلاء الذين (دوشو) الدنيا بحقوق الحيوان قبل الإنسان؟
إن الأوضاع المزرية في العراق، تفرز جملة حقائق لم يعد بالإمكان إخفاؤها أو تزويرها، ومنها الفشل الذريع لكل أبعاد المخطط الإمبريالي الصهيوني في العراق، وانعكاس ذلك بشكل واضح على حلقاته الأخرى.
كما تبرز الحقيقة الثانية التي ربما هي الأكثر وضوحاً وتأثيراً على الوضع المتردي لقوات الاحتلال في العراق، وعجزها الواضح عن حماية نفسها من هجمات المقاومة العراقية البطلة، حيث أسندت هذه المهمة للمليشيات و(الصحوة)، وهنا لا نريد أن نقلل من شأن القدرات التكنولوجية العسكرية الأمريكية وتأثيراتها في الميدان، ولكن هذه القدرات يمكن أن تفعل فعلها في حالة وجود حروب نظامية بين جيوش مقاتلة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في العراق، بسبب فطنة وإدراك وذكاء القيادات الميدانية للمقاومة العراقية، هذه القيادات التي تمتلك من الخبرات والممارسة العملية، والمعرفة التفصيلة، بما تستوجبه مثل هكذا معارك، مع عدو يمتلك تفوق واضح في الأسلحة كمّاً ونوعاً، وغطاء جوي، وصاروخي، هو الأقوى في العالم، ومن هنا فإن قيادات المقاومة الذكية جداً، سحبت البساط من تحت أقدام قوات الاحتلال في أهم حلقات تفوقها، إلى الحد الذي أصبح فيه سير المعارك يحدد سلفاً من قبل المقاومة، وبات المحتلين في حالة دفاع، والمقاومة في حالة هجوم دائم، في الزمان والمكان، والأسلوب، ومن هنا لم يعد المحتلين يعرفون شكل ومضمون الهجوم القادم وكيف سينفذ، إذن المبادأة أصبحت بيد المقاومة وهذه واحدة من أهم ملامح النصر في الحروب.
بل أن الأدهى من ذلك، هو بروز وثبات الحقيقة الأخرى، والتي تمثلت بالتفوق الاستخباري، ودقة المعلومات، وأسلوب حصرها، لاسيما في العمليات النوعية الأخيرة، التي حصد فيه المقاومون، كمّاً كبيراً من جنود الاحتلال، حيث سبق للمقاومة تنفيذ مئات وربما أكثر من هذا النوع من العمليات النوعية ذات الطابع الاستخباري الدقيق، ومنها محاولات استهداف اجتماعات معينة للقيادات العسكرية، أو السياسية للاحتلال، أو لعملائهم الخائنين في حالة تواجدهم القليل جداً في العراق، ( تخيلوا أي حكومة تلك التي لم تستطع منذ تعيينها من قبل السفاح بريمر أن تعقد اجتماعاً واحداً بكامل وزرائها، بل لم تستطع أن تعقده حتى بأغلبية الأعضاء، لأن أغلبهم يتنقلون بشكل مفتعل ومخجل في عواصم الدول الخائبة التي تتعاون معهم، وتستفيد منهم مادياً عن طريق بعض القروض).
إذن عملية الموصل لم تكن الوحيدة، إلا أنها اكتسبت هذا الاهتمام من قبل الدعاية الأمريكية، لأنها من النوع الذي لا يمكن إخفاءه أولاً، ولأنها تسببت بقتل أعداد كبيرة من كبار الضباط، ولأن الأمريكيين وهذا مهم جداً، تحولوا أو هكذا يبدو إلى مرحلة الصدمة الثانية، لتهيئة الشعوب الأمريكية لتقبل الخسائر الأكبر، ففي حين كان المسؤولون الأمريكيين يعتمدون طريقة تكميم الأفواه في ذكر الخسائر الكبيرة لقواتهم في العراق خلال المرحلة الماضية، فإن الوضع الحالي والقادم (في ظل التنافس الدعائي الانتخابي) لن يمكنهم ممارسة ذات الأسلوب، فالأمريكيين لم يعودوا يتقبلوا أسلوب التعتيم الدعائي في الخسائر البشرية والمادية، وبالذات عندما يتطلب من الأمريكيين تقبل مسألتين مهمتين جداً، وهما: زيادة معلنة في القتلى من أبنائهم، ودفع ضرائب أكثر، لأن تكلفة الاحتلال في العراق فاقت كل الأرقام والتوقعات.
وهذا ما جعل المجرم بوش يطالب بتخصصات إضافية لتغطية نفقات الاحتلال (وربما يتساءل القارئ الكريم عن ثروات العراق التي يسرقها المحتلين كالنفط والكبريت والفوسفات والزئبق وغيرها، فنذكر أنها تذهب إلى جيوب بوش وجلاوزته، وليس إلى الميزانية الفدرالية الأمريكية، أي أن إدارة بوش تحلب العراقيين والأمريكيين، وهذا ما لم يدركه الشعب الأمريكي ولا يركز عليه الإعلام الأمريكي للأسف الشديد.)
لقد كان المسؤولون الأمريكيين يتحدثون ويؤكدون، أن قواتهم ذهبت في مهمة سريعة، وستعود أكثريتها خلال زمن قياسي، وهذا الوهم الذي جعل بوش يطلق كذبته المشهورة، عندما ألقى خطابه الهوليودي من على ظهر إحدى حاملات الطائرات الأمريكية معلناً انتهاء المعارك بعد مسرحية إسقاط تمثال الرئيس المرحوم صدام حسين (إن هذه المسرحية التي أعدتها ونفذتها إحدى شركات العلاقات العامة الأمريكية، مقابل مبالغ كبيرة جداً، وعبر مجموعة من المرتزقة، واستخدام علم عراقي بدون عبارة الله أكبر، أثارت تساؤلات وعلامات استفهام، مثل ما هي علاقة التمثال باحتلال العراق أو بغداد؟ ولماذا هذا التمثال في حين أنه يوجد في بغداد وحدها تماثيل كثيرة للرئيس الراحل، وبأحجام كبيرة، وربما قسم منها أكثر أهمية في الشكل والمضمون والحجم)!!
إن واقع الحال يثبت تقازم قوات الاحتلال رغم كل محاولات الترقيع الوهمي، ويقابل ذلك ازدياد هائل في فعالية المقاومة العراقية من حيث دقة التنظيم، وقوة التأثير، وازدياد في حجم إمكانياتها، وبالذات البشرية، وتنويع تكتيكاتها القتالية، وبشكل يصعب على الأمريكيين استيعابه، عدا الروح المعنوية المتصاعدة للمقاومين، ومعرفتهم بالأرض التي يقاتلون دفاعاً عنها، وبالشعب الذي يحتضن هذه المقاومة ويلتف حولها، ويرى فيها عن قناعة تامة إنها الوحيدة التي تمثله، في حين يحدث العكس بالنسبة للمحتلين، فالعراقيين يزدادون في عملية رفضهم للاحتلال وذيوله، والروح المعنوية للقوات الأمريكية في هبوط مستمر، كيف لا وأنهم بدأوا يتساءلون عن مبررات وجودهم في أرض وبين شعب يرفضونهم، ليس بالإحساس فقط، بل بالمقاومة المسلحة، عدا اكتشافهم كذب ادعاءات إدارتهم المجرمة بوجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، وعلاقته بتنظيم "القاعدة"، فالموت أصبح الهاجس الذي يحبس أنفاس العلوج في وجودهم في العراق، لأنهم يتعاملون مع عدو يراهم ويتربص بهم ويقتلهم ولا يرونه أو يعرفوه، إنهم يواجهون أشباح تضربهم وتختفي في لحظات.
إن الأنكى من كل ما حصل ويحصل من وقائع، يومية غريبة في بلدنا، أن الأمريكيين وهم المعتدين الغزاة، يتباكون على قتلاهم، ويتألمون على مصير عوائل هؤلاء القتلى، وكثيرا ما تتناول الصحف الأمريكية الرئيسية الحديث عن الأطفال الأمريكيين الذين فقدوا آباؤهم، أو جنود ماتوا قبل أن يروا أطفالهم الرضع.. وينسى الأمريكيون ووسائل إعلامهم، أن عدوانهم على العراق واحتلاله، وقبلها حصارهم علينا، قد أدى إلى وفاة أكثر من مليوني ونصف المليون عراقي أغلبهم من الأطفال، والنساء، والشيوخ، عدا مئات الألوف من العراقيين المحتجزين في معتقلات الاحتلال، وفيهم أعداد كبيرة من الأطفال والنساء، الذين يتعرضون لأبشع جرائم التعذيب، والقتل، والاغتصاب، وسرقة الأعضاء من أجسادهم، وغير ذلك من الجرائم التي لم يعرفها التاريخ البشري، إضافة لآلاف حالات التشوه الخلقي في الولادات، وانتشار أمراض السرطان بين الأطفال في العراق، بسبب الاستخدام المستمر لقوات الاحتلال للأسلحة المحرمة التي تحوي على اليورانيوم المنضب، كما أن أحداً لا يشير إلى ما تركته المواد الجرثومية، والحاويات، التي تلقيها الطائرات الأمريكية على الحقول والمزارع، حيث أصيبت الأشجار المختلفة بأمراض لم يعرفها الفلاح والمزارع العراقي، والتي أدت إلى موت ملايين من الأشجار المثمرة، عدا قيام المحتلين بتجريف آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة المثمرة، وما يتسبب كل ذلك وغيره من أضرار مادية وتدمير للاقتصاد الزراعي العراقي، وهذا ما فعل وزاد من كرة العراقيين للمحتلين وأضاف لهم مبررات كثيرة لمقاومته ودحره والانتصار عليه، ربما كسب بوش وعلوجه المعركة......!!
ولكن الانتصار في الحرب من حصة الشعب العراقي ومقاومته الوطنية الباسلة، ومن ورائهم الأمة العربية والإسلامية، والعالم الحر، فالنصر العراقي هو نصر للإنسانية، وللحق وسيكون بذلك الوسيلة التي تعيد التوازن الكوني، الذي افتقدته البشرية نتيجة سياسة القطب الواحد للإدارات الأمريكية الطائشة، والأشهر القريبة القادمة، ستشهد تغيرات، ربما ستغير جوانب مهمة من المعادلة في العراق.