القدس وتعاظم مخاطر التهويد والتفريط العربي

عوني فرسخ

دعا وزير الأمن الداخلي "الاسرائيلي" إلى ترحيل مواطني القدس العرب إلى رام الله، فيما عرضت حكومته مخطط توسيع مستعمرة "جيفعات زئيف" في الشمال الغربي للقدس ببناء 750 وحدة سكنية.

وفي مؤتمر صحافي حضره المطران عطا الله حنا عرض الشيخ رائد صلاح صور الأنفاق الممتدة تحت الحرم القدسي، مشاهد ثلاثة توضح تعاظم مخاطر التهويد، وبالمقابل عبرت فرحة أحمد قريع بالعودة لملهاة المفاوضات العبثية، وفي القدس المحتلة، عن مستوى ما بلغه التفريط بأولى القبلتين وثالث الحرمين، حاضنة المقدسات الإسلامية والمسيحية والتراث العربي.

ومنذ البدايات الأولى احتلت السيطرة على القدس لتهويدها الأولوية في الاستراتيجية الاستعمارية لإقامة استيطان عنصري صهيوني في فلسطين، فنابليون عني بمعرفة عدد اليهود فيها وهو يعد لحملته على المشرق العربي، و"بالمرستون" كلف نائب القنصل البريطاني بالقدس سنة 1838 بحماية المستوطنين اليهود "باعتبار ذلك من مهام الدولة"، وبضغط بريطاني، مدعوم أوروبياً، أصدر السلطان عبد المجيد سنة 1849 فرماناً يجيز لليهود امتلاك الأراضي في فلسطين، فيما اعتبرت سلطة الانتداب القدس عاصمة "الوطن القومي اليهودي" التي كلفتها "عصبة الأمم" بإقامته، بحيث ضمت المؤسسات والإدارات الصهيونية كافة، وأقيمت فيها "الجامعة العبرية"  سنة 1925، وكثف فيها الاستيطان لدرجة انه عند نهاية الانتداب قارب مستوطنوها الصهاينة عدد مواطنيها العرب.

وبالمقابل لم يتجاوز الاهتمام العربي والإسلامي بالقدس التأييد اللفظي، فالمؤتمر الإسلامي الأول، الذي عقد بين 7- 17/12/1931 لم يتجاوز كونه تظاهره إعلامية تضامنية، إذ لم تنفذ توصيته بإقامة (جامعة المسجد الأقصى الإسلامية) فيها، ولا أسست (الشركة الزراعية لإنقاذ أراضي فلسطين)، فيما حالت بريطانيا دون تحويل التبرعات التي جمعت بسخاء، خاصة من الهند، عندما زارها وفد المؤتمر برئاسة الحاج أمين الحسيني وعضوية الوزير العروبي المصري محمد علي علوبة باشا، كما حالت دون انعقاد (المؤتمر العربي القومي) في بغداد لدعم نضال شعب فلسطين سنة 1933.

وفي حرب 1947 - 1948 قامت القوات البريطانية بحماية الحي اليهودي في البلدة القديمة، وقوافل الإمداد لمجمع "هداسا" و"الجامعة العبرية"، وبينما اعتبر "بن غوريون" معركة القدس فاصلة، وألقى بالثقل الصهيوني وراء عملية "نخشون" لفك الحصار عن القدس الغربية والمستوطنات في جوارها، امتنعت "اللجنة العسكرية" للجامعة العربية عن تزويد (الجهاد المقدس) بالسلاح لمواجهة الهجمة الصهيونية وتعزيز صمود أهالي القدس.

وكنتيجة لاتفاق الجنرال "غلوب" مع قادة "الهاغاناه" على تأخير وصول القوات الأردنية للقدس شهدت المدينة ما بين 14 و19/5/1948 ما اعتبرها شيخ المناضلين بهجت أبو غربية "أيام القدس الحمراء"، التي خاض خلالها (الجهاد المقدس) معارك ضارية، بدعم وحدة من (جيش الإنقاذ) والشرطة الفلسطينية، وسرية من الجيش العربي الأردني بقيادة محمود الموسى، بحيث نجحوا في الحفاظ على الشطر الشرقي من المدينة وحالوا دون سقوطه.

ومع أن منطقة القدس اعتبرت دولية بموجب قرار التقسيم إلا أن الصهاينة فرضوا سيطرتهم على شطرها الغربي والعديد من القرى العربية في محيطه، من دون أن تتخذ هيئة الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، إجراءات رادعة لتجاوزهم القرار الدولي، فيما لم يتعد الموقف الدولي الإدانة واعتبار الإجراءات الصهيونية غير مشروعة عندما جرى ضم القدس الشرقية في 20/7/،1967 وتوسيع نطاق "القدس الكبرى" ليضم 27% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، في استهانة واضحة مما يسمى "المجتمع الدولي" بقرارات الشرعية الدولية، وما يرقى لمستوى تواطئه مع الصهاينة.

ولأن القدس دولية بقرار الأمم المتحدة فوجود مؤسسات الحكم "الاسرائيلية" فيها غير مشروع، وعليه امتنعت الدول المعترفة بـ"إسرائيل"، بما فيها الولايات المتحدة، عن إقامة سفاراتها وقنصلياتها فيها، ويذكر أنه عندما زار وزير الخارجية الأمريكية "دالاس" القاهرة سنة 1953، وأراد التوجه منها إلى "إسرائيل"، حذره الرئيس عبد الناصر ووزير الخارجية محمود فوزي، من الاجتماع بالقادة الصهاينة بالقدس المحتلة باعتبار ذلك عدوانا على القرار الدولي، وفيما كان الرئيس السادات بـ"مبادرته" سنة 1977 أول عربي يخرج على ذلك منع البابا شنودة حج الأقباط للقدس ما دامت محتلة.

ومع أن القدس الشرقية مشمولة بقرار مجلس الأمن رقم (242) لسنة 1967، وتعتبر جزءا لا يتجزأ من الضفة الغربية، وبرغم كون المستوطنات جميعها غير مشروعة بحكم قرار مجلس الأمن رقم (452) في 2/7/1979، إلا أن مفاوضي أوسلو بقيادة احمد قريع ارتضوا أن تكون القدس وضواحيها خارج إطار سلطة حكم الذات التي نص عليها "اتفاق أوسلو"، وتم إرجاء موضوعها "لمفاوضات المرحلة النهائية"، من دون أن ينص الاتفاق الذي وقعه الرئيس محمود عباس في حديقة البيت الأبيض في 13/9/1993، على عدم المساس بوضع القدس كمدينة محتلة، أو التأثير سلباً بمقدساتها ومعالمها التراثية، وواقعها العمراني، وحقوق مواطنيها العرب، وتواصلهم الحر مع عمقهم الوطني وفضائهم القومي العربي.

وكنتيجة للتفريط الذي انطوى عليه "اتفاق أوسلو" وما تبعه من تجاوز الاستيطان في القدس ومحيطها خلال سنوات أوسلو العجاف الأربع عشرة الماضية أضعاف ما جرى استيطانه خلال السنوات السبع والعشرين السابقة لأوسلو، وبإخراج القدس الشرقية من صلاحيات حكم الذات الفلسطينية، وبإهمال السلطة شؤون مواطنيها العرب، وبالضغوط الصهيونية عليهم لحملهم على مغادرة مدينة آبائهم وأجدادهم، لكل ذلك متفاعلاً تضاعف نزوحهم للسكن في مدن الضفة أو الهجرة للخارج.

وكان المساس بالقدس دائماً مفجراً لصراعات دامية تكتوي بها شعوب المنطقة فضلا عن أنها ما انفكت موطن الحسم التاريخي في الصراع الذي فجرته إقامة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني العنصري على التراب العربي في فلسطين، وليست مقبولة في حال القدس خصوصا المقولة المضللة: "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، لاسيما وقد اتضح في أتون المحرقة على غزة مدى ارتهان قرار فريق أوسلو للتحالف الأمريكي-الصهيوني، كما أوضحت تداعيات المحرقة أن العرب ما زالوا شركاء مسيرة ومصير.

ولما بات جلياً استهانة الصهاينة بالشرعية الدولية، وتواطؤ المجتمع الدولي في ذلك، تغدو الكرة في ملعب القمة العربية.

والسؤال الأخير: هل ستوقف الصلح والتطبيع دفاعاً عن عروبة القدس أم ستقول لأهلها الصامدين: "عفواً، نحن بخيار السلام ملتزمون"؟