آلام وآمال في ذكرى الوحدة
الدكتور غالب الفريجات - الأردن
قبل نصف قرن من الزمان كانت أول تجربة وحدوية في العصر الحديث، بين أهم قطرين عربيين في الجناح الإفريقي والجناح الآسيوي من الوطن العربي، وقد ولد معهما حلم الوحدة الذي أصبح حقيقة واقعة، وترجم الحلم على ارض الواقع، فكانت الآمال في أن يكبر مشروع الوحدة، ليأخذ معه أكثر من بلاد العرب، لتتمكن الأمة من أن تطابق الواقع مع الجوهر، فالأمة في واقعها وحدة جغرافية وسياسية واحدة، تملك من مقومات الوحدة أكثر من أي وحدة في هذا العالم، ولكن الواقع يتغاير مع الجوهر، في قطريات أشبه ما تكون كجمهوريات الموز، التي لا هي في العير ولا في النفير، وقد تحولت بفعل ما استبد منها من نظام سياسي، إلى مفهوم الأخوة الأعداء، كل واحد فيها يتآمر على الآخر، فضاعت فلسطين بفعل التشرذم والتآمر والخلافات، أكثر مما كان بفعل قوى الامبريالية والصهيونية، وجاءت العراق لتكون في قلب الضياع، بفعل الخسة والخيانة والتآمر للنظام السياسي القطري المأزوم.
لن نتحدث عن الانفصال وأسبابه ومبرراته ودواعيه، لأنها كلها أسباب واهية وغير منطقية ولا مقنعة أو مقبولة، لأن أخطاء الوحدة لا تعالج بالانفصال، كما أن أخطاء الديمقراطية لا تعالج بالديكتاتورية والأحكام العرفية، ولا أخطاء الاشتراكية بالرأسمالية والاستغلال، ولا أخطاء القطاع العام بالخصخصة وبيع ممتلكات الأمة، وليس الأمر يتعلق بهذا الطرف أو ذاك من أطراف صانعي الوحدة، فالكل يتوق إلى الوحدة، وقد جاءا إليها وقاما بصناعتها بإرادتهما الكاملة، ولا يحق لأي كان أن يشكك في نواياهما الوطنية وأهدافهما القومية، لأن الأمة ليست في طور التكوين، بل هي امة في طور التوحيد، وحقها المشروع أن تسعى لتحقيق الوحدة، وكان طرفا الوحدة هما فرسان التوحيد ولا جدال في ذلك وهما مازالا كذلك، ولكن كان عليهما أن يكونا على وعي بأن للوحدة أعداء في الداخل والخارج، وقد جاء الانفصال بحكم ما يمتلكه هؤلاء الأعداء من أسلحة ضد الوحدة، كانت أقوى من أسلحة رواد الوحدة.
مازال أعداء الوحدة يملكون أسلحتهم المشرعة في وجه الأمة وطموحاتها، وهم يسعون لتعميق حالة التشرذم والتفتيت، لا بل حالة العداء التناحري العملي بين أطراف الشعب العربي في جميع مواقعه، سواء كانت داخل القطر الواحد، أو فيما بين أبناء الأمة في أقطارها المتعددة، وليس من مصلحة لأبناء الأمة فيما يجري من سياسات قطرية عدائية، فيما بين أطراف النظام العربي الرسمي، ولا حتى بما يخدم أطراف هذا النظام المأزوم بحكامه وسياساتهم، بل انه يخدم أعداء الأمة حكاما ومحكومين، وإن بدا لبعض أطراف هذا النظام، انه يخدم طموحاتهم وأهدافهم، حتى وان كان ذلك على حساب الكرامة الوطنية، في الوقت الذي فقدوا فيه مثل هذه الكرامة منذ زمن صعودهم إلى سدة السلطة.
لن يكون طموح أبناء الأمة إلا بما تطمح به شعوب الأرض وأممها، في حقها المشروع في الوحدة، أياً كان شكل هذه الوحدة، اندماجية أو فدرالية أو كونفدرالية، فقط يريد أبناء هذه الأمة أن ينتسبوا إلى دولة الأمة من الماء إلى الماء، هي القادرة أن تعيد لهم كرامتهم وأمنهم وعزهم، وهي القادرة على تجميع صفوفهم المبعثرة، واستثمار ما في وطنهم من خيرات وقدرات لبناء مجد الأمة وحضارتها، واستعادة ما اغتصب من تراب وما أصاب القدس وبغداد من تشويه بأيادي الأعداء الامبرياليين والصهاينة،جرذان العمالة والخيانة لآمالي وطموحات الأمة، من أجل الجلوس على كرسي السلطة، الفارغ من أي نوع من أنواع السيادة التي يتنافخون بها.
من يستطيع أن يدعي أن عربيا واحدا يرفض أن تفتح أمامه بوابات الحدود، ويتجول في طول الوطن العربي وعرضه، بدون أكشاك رجال الأمن القطري، ومن يأبى أن تنساب البضائع وكل أنواع التجارة البينية، فيما بين أجزاء الوطن الواحد، بدون نماذج جمركية أو أختام استيراد وتصدير، ومن يمانع في أن يملك الحق في التملك والعمل وحق الاقتراع والانتخاب، في أي مكان من أجزاء الوطن العربي الواحد، من طنجة حتى البحرين.
من حق كل مواطن عربي شريف أن يحلم بدولة الوحدة، وأن يتجاوز الحلم إلى الفعل لقيام الوحدة، وليس من حق أحد أن يقف في طريق الأمة في حقها المشروع، فما بين الأمة من عوامل وعناصر وحدة، اكبر بكثير فيما بين دول الاتحاد الأوروبي، وفيما بين الولايات المتحدة الأمريكية، فلماذا لهم الحق في الوحدة ونحن يكتب علينا أن نعيش التشرذم والتفتيت والتجزئة، ثم بالذل والهوان المصاحب للهيمنة ونهب الثروات وضياع الأوطان.
في ذكرى الوحدة يجب أن تتجدد الدعوة إلى الوحدة، ويجب أن نلقي جانبا كل محاولات العرقلة والتبريرات الواهية، لإحباط المواطن في عدم إمكانية تحقيق أمله وأمل أمته المنشود، فما يجري على أرض أوروبا كفيل بأن يصفع كل أعداء الوحدة، فليس هناك من دولة الوحدة ولا من مقوماتها، التي يعملون على صناعتها، ومع ذلك فهم يلهثون وراء كل ما يصنع لهم وحدة، في الوقت الذي يلهث فيه بعض من ناسنا، على تدمير كل مقومات الحياة فيما بين أبناء الوطن الواحد، لا في الحدود فحسب، بل في الجيوش المعادية، لتدمير هذا الجزء أو ذاك من أقطار الوطن العربي، كما جرى للعراق منذ حفر الباطن وحتى غزوه واحتلاله.
الوحدة شعار كل الشرفاء من أبناء الأمة، وإن كان يلازمه حرية وديمقراطية وحقوق إنسان واحترام الرأي والرأي الآخر وتعددية سياسية، فلا خوف على الوحدة من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والوحدة يلازمها تضامن اجتماعي وتقاسم للثروة، فالكل شركاء في الثروة والتنمية، كما هم شركاء في الأمن والدفاع عن الأمة وحقوقها.
الوحدة وجود الأمة بالفعل على أرض الواقع، فهي تملك كل مقومات هذا الوجود، وبامتلاكها دولة الوحدة، تملك إرادة القوة وإرادة النهوض والتقدم والازدهار، وهي تملك إرادة الخير لأبنائها وللإنسانية جمعاء، فأمة لها لغتها ودينها وعاداتها وتاريخها وقيمها ووحدة إرادتها، تستطيع أن تسهم في بناء الصرح الحضاري العالمي بدون عدوان، وتحقيق السلم العالمي بدون حروب، وهي بالطبع بحكم وعيها وثقافتها وقيمها ليست عدوانية، فقد سادت العالم، فكانت عونا له، وفي خدمة الإنسانية بدون تمييز، لا في العرق أو الجنس أو الدين.
نعم نحن طلاب وحدة لأن الأمة في طور التوحيد، ولابد لها من أن تحقق أهدافها في قيام دولتها، حتى يتطابق واقعها مع جوهرها، فليس هناك من امة يتناقض وجودها مع جوهرها إلا الأمة العربية، وعلى جميع أبنائها أن يناضلوا لتحقيق الوحدة القومية، ولا بأس أن يكون على هذا الطريق محطات، يتم فيها الانجاز على صعيد تحقيق الهدف المنشود.