المحاسبة الحكيمة

حياة الحويك عطية - كاتبة وباحثة من الأردن

لم تكن كل دماء الفلسطينيين سبباً لمجيء "رايس" إلى المنطقة، وإنما ما جاء بها هو مسألتان:

تدارك الإحراج الذي سببته الوحشية "الإسرائيلية" للسياسات الأمريكية في المنطقة وفي العالم، وإعلان محمود عباس وقف المفاوضات.

فالدم الفلسطيني انزرع في أرض غزة والضفة، وكان لا بد له أن ينبت سنابل مثقلة من قمح على البيدر الفلسطيني ومن زؤان على البيدر الأمريكي، لذا هبّت "رايس" مسرعة إلى الحقل لتحصد السنابل قبل نضوج قمحها وزؤانها، ولتقلب توزيع الغلة قبل وصولها إلى أصحابها، ولتعيد عجلات القطار إلى سكة الخريطة المرسومة أمريكياً و"إسرائيلياً".

لكن اللوم الأساسي ليس على "رايس"، فهي وزيرة خارجية دولة كارهة لشعوبنا مهما تبادلت القبلات مع مسؤولينا، وهي وزيرة في إدارة متصهينة أكثر من الصهاينة، إدارة لا تدين فقط بسلطتها للوبي الهودي بل وتشاركه القناعات، وتتماهى معه عبر العديد من شخصياتها واستراتيجييها، بل إن اللوم على من قبل أن يقف إلى جانبها شاهد زور على سم كلامها.

لقد كان بإمكان الرئيس، بعد مجزرة غزة، أن يقف وقفة تاريخية وكبيرة، بحجم قضية شعبه، وقفة يجعل فيها من دم الفلسطينيين زيتاً يعيد إضاءة قنديل الوحدة الوطنية (وهذا ما كدنا نتفاءل به خلال أيام العدوان رغم كل تصريحاته السابقة، وظهور بعض التناقض بين الرئيس وبين رئيس الوزارة ووزير الخارجية اللذين بديا وكأن ما في شرايينهما ماء من حقد وصقيع)، ومتسلحا بهذه الوحدة، كان بإمكان الرئيس أن يرفض العودة إلى المفاوضات، أو يضع قائمة شروطه السياسية الأساسية ثمناً لهذه العودة، شروط من مثل وقف الاستيطان، وقف بناء الجدار، التراجع عن إعلان "يهودية الدولة" من قبل الرئيس بوش أو وزيرته.

الرخويات قد تقول إن الرئيس الفلسطيني ليس بموقع قوة يسمح له بذلك، ولا نرد على هؤلاء بمنطق الأبطال الذين يقولون إن القوة هي الإرادة، وإن الصمود والدم الفلسطيني هما قوة بخارية هائلة لقطار التاريخ الفلسطيني، بل سنرد بمنطق الواقعية السياسية التي تقول إن أول مدخل لقوة الرئيس هي العودة إلى الوحدة الوطنية، وإن ثمة عناصر قوة مهمة بيده الآن تتأتى من ساحتين:

الفلسطينية أولاً: حيث نجد أن حملة الإبادة الجماعية "غير الحكيمة" وفق تعبير "رايس" نفسها، قد أحرجت الولايات المتحدة نفسها وأحرجت حلفاءها وحلفاء "إسرائيل" من الأوروبيين ومن العرب، لذا كانت تلك فرصة ذهبية أمام محمود عباس، لكنه وللأسف لم يحسن استغلالها، ولنا أن نتصور كيف كان سيتصرف ياسر عرفات (على كل ما كان لنا عليه من مآخذ) في ظرف كهذا! والساحة العربية.

والدولية ثانياً، حيث أن هذه الوحشية "الإسرائيلية" في غزة وفي بعض مواقع الضفة، قدمت للعالم صورة رهيبة عن الطبيعة "الإسرائيلية"، صورة من الممكن استغلالها سياسياً وإعلامياً وتعبوياً وعلى كل الصعد (خاصة في إعادة كرة تهمة الإرهاب من الساحة الفلسطينية إلى الساحة "الإسرائيلية" وبقوة حاسمة) غير أن ذلك لا يتحقق إلا بإجماع الفلسطينيين على تحميل "إسرائيل" و"إسرائيل" وحدها مسؤولية ما حدث، مما يعني شرطاً أساسياً: ألا يقف فلسطيني واحد شاهد زور على اتهام حماس أو غيرها بالمسؤولية، وبالتالي تبرئة "إسرائيل".

وإذ نقول فلسطيني واحد من ملايين الفلسطينيين، فذاك لا يعني ما في الفلسطينيين، كما في كل شعب، من متخاذلين ومن خونة ومن مرتهنين، ومن مضللين، بل يعني الأصوات المسموعة من مسؤولين وقادة (سواء قادة الرأي العام أم القادة السياسيون)، فكيف الحال إذا ما كان هذا الواحد يمثل شرعياً كل الشعب الفلسطيني، وهو المؤتمن دستورياً وديمقراطياً وتاريخياً على قضيته؟

لم يكن كافياً على الإطلاق أن يستهل الرئيس الفلسطيني المؤتمر الصحافي بكلمة متوازنة، بل كان المطلوب منه أن يرد خلال الأسئلة على وقاحة الوزيرة الأمريكية التي وقفت إلى جانبه مبتسمة مبتهجة. ولكم تمنى المشاهد أن يسألها أحد الصحافيين عن هذه الابتسامة التي لم تفارق وجهها طوال مؤتمرها، في حين مازال عويل الأمهات يصم الآذان في مآتم ممتدة من غزة إلى الضفة من حولها، أتراها لا تعرف أبسط أصول المجاملة في حضرة الموت والمآسي؟ أم تراها مثل رئيسها لا تقرأ الصحف ولا تنظر إلى التلفزيون ولا تشم رائحة الدم؟ أم أنها تفرح لكل هذا ويشغلها فقط أن المبالغة قد تشكل لسياساتها حرجاً عليها تداركه؟ وهذا ما قصدته بـ"غير الحكيمة".

أجل هذا وحده ما يشغلها، وبكل وقاحة عبرت عنه، فلا دماء الأطفال جعلتها تتحرج، ولا حجم المذبحة جعلها تداري ولو بمجرد صياغة الكلام، فبكل مباشرة قالت: "يجب محاسبة حماس ولكن على "إسرائيل" أن تكون أكثر حكمة، وأن تفكر بأن هناك غداً وبعد غد... رغم أنه لها الحق بالدفاع عن النفس".

إذاً كل الموت الذي حصل في غزة هو مسؤولية حماس و"أبلة" كوندي لم تأت إلى المنطقة إلا لتبرئ ساحة "إسرائيل" ولتعد بإرسال ضمادات وربما أكفان لضحايا غزة، لأن الحس الإنساني الأمريكي لا يتحمل ألا يهب للإغاثة، فقلبه رقيق ورئيسه سيقيم الدولة الفلسطينية قبل نهاية 2008، أي في الوقت الذي لن يكون بإمكانه فيه إقالة موظف صغير من البيت الأبيض، لأنه قد يذهب قبل تنفيذ الأمر، ولأن مقتضيات الحملة الانتخابية الرئاسية تتطلب منه ألا يغضب صوتاً واحداً من الناخبين الأمريكيين، هو الذي لم يصل إلى الرئاسة إلا بفارق أشبه بفارقة انتخابات بلدية في أي بلد عربي.

فكيف بالأحرى إذا كان الإغضاب يمس اللوبي الهودي الذي يصنع الرئيس، والذي كان وراء تزوير النتائج الانتخابية التي أوصلته إلى رئاسته الأولى.!!

إذاً وهنا بيت القصيد، المطلوب منه الآن هو إرضاء اللوبي، بفرض استئناف المفاوضات التي لا غاية لها في حقيقة الأمر إلا وجودها، سواء لتوظيفها في الحملة الانتخابية لمصلحة الجمهوريين، أو للتغطية بها على فشل العراق وعلى التورط الحقير في لبنان، أو لدعم الحليف الضعيف "إيهود أولمرت"، أو أخيراً لإبقاء الشرخ القائم بين الفلسطينيين أنفسهم، وهذا أخطر المخاطر!

فكم من رائحة لحم الأطفال المحروق، ودم الشباب، وملح دموع الأمهات، وغبار الركام يحتاج المسؤولون الفلسطينيون ليصحوا من تأثير رائحة الضبع التي تجرهم وراءها ومعهم قضية بلادهم نحو الهاوية؟