بوش من الهجوم إلى الدفاع
د. عصام نعمان *
يوما بعد يوم، ينخفض صوت "جورج بوش" ويتسم بنعومة ودماثة، لم يعد يستخدم لغة الإملاء، استعاض عنها بلغة الإقناع، ثم أنه أصبح أكثر حركة من الماضي، خصوصاً في "منطقة الشرق الأوسط"، لم يعد يكتفي بإرسال مبعوثين من الصف الثاني للتعبير عن مواقفه المتشددة، أصبح يذهب هو بنفسه أو يرسل نائبه ديك تشيني أو وزيرة خارجيته "كوندوليزا رايس" أو وزير دفاعه "روبرت غايتس"، بل هو يرغب بالعودة إلى المنطقة مرة أخرى في شهر مايو/أيار المقبل، فيرسل تشيني مجدداً للبحث مع زعمائها في أمور عدة منها التحضير لزيارته القادمة التي ستكون، على ما يبدو، شديدة الأهمية.
كل هذه المظاهر والشواهد تدل بوضوح إلى أن إدارة "بوش" لم تعد قوية في المنطقة كما كانت في بدء ولاية رئيسها الحالي، لقد حدثت أمور كثيرة أوهنت عزيمتها وقللت فرص نجاحها وضيقت هوامش تحركاتها، كل ذلك أدى إلى إدخال تعديل كبير على خططها ومواقفها، انتقلت معها من الهجوم إلى الدفاع.
كانت طموحات بوش ومخططاته تتحدث في النصف الأول من ولايته عن "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، سياسياً وثقافياً، وفي ولايته الثانية أكدت "كوندوليزا رايس" ما كان يتغرغر به رئيسها مضيفةً إليه شعار "الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد".
كانت إدارة "بوش" تخوض حربين باقتدار، واحدة في أفغانستان وأخرى في العراق، وتباشر سياسة هجومية في سائر أرجاء "الشرق الأوسط" ولاسيما في فلسطين، اليوم يبدو "بوش" وزمرته متعثرين في كل مكان، فلا عجب إن هو انتقل في سياسته من الهجوم إلى الدفاع، مع الإصرار على عدم التخلي علناً عن خيار الحرب لإشعار الخصوم بقدرته على المناورة والفعل.
ثمة عوامل كثيرة تقف وراء تراجع إدارة "بوش"، أو بالأحرى تراجع الولايات المتحدة نفسها، لعل أهم العوامل المثبطة لها اثنان: أولها تصاعد المقاومة الشعبية، بكل ألوانها السياسية والميدانية، لمخططاتها الهجومية وتهديداتها العسكرية وهيمنتها السياسية والاقتصادية، وثانيها استفحال أزمتها الاقتصادية بسبب تصاعد أسعار النفط وانفجار أزمة القروض المنزلية العقارية وتدهور سعر صرف الدولار.
باختصار، الولايات المتحدة أصبحت ضعيفة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وهي عاجزة تالياً عن شن حرب جديدة أو التورط أكثر في حربيها القائمتين حالياً في أفغانستان والعراق، فوق ذلك، تدرك إدارة "بوش" أن أعداءها باتوا يدركون ضعفها ويبنون على الشيء مقتضاه، لذلك فهي تخشى أن يتجرأوا، أكثر مما يفعلون، على مضايقتها، بل هي تخشى، كما "إسرائيل"، أن يبالغ البعض في تفسير أزمتها الاقتصادية وضيق هوامش الحركة أمامها فينتقل في مواجهتها من الدفاع إلى الهجوم.
لعل أكبر معالم التراجع في سياسة الولايات المتحدة صدور التقرير الاستخباري الموحد عن 16 جهاز استخبارات عاملاً في شتى مرافق الدولة وأنشطتها، في ذلك التقرير، جرى الاعتراف بلا مواربة بأن "إيران تخلت عن برنامج التسلح النووي في العام 2003"، وكان ذلك التقرير، الذي أعدّ ونُشر من دون موافقة "بوش"، إشارةً واضحة من جناح نافذ في الإدارة الأمريكية بمعارضة شن الحرب على إيران، وتوّج أخيراً قائد القيادة الوسطى "الأميرال وليم فالون" هذه المعارضة المتزايدة باستقالته من منصبه، أما "إسرائيل" فقد سلكت أجهزة استخباراتها الأربعة مسلكاً مشابهاً لنظيرتها الأمريكية فكان أن قدمت لحكومة "ايهود اولمرت" في تقريرها الاستخباري السنوي وقائع وتوصيات تفيد بأن الأعداء، وهم (حماس) و"حزب الله" وسوريا وإيران، أصبحوا في وضع قوي، وان أي هجـوم على واحد منهم قد يؤدي إلى انخراطهم جميعاً في المعركة، أكثر من ذلك، نسبت صحيفة " يديعوت احرونوت" إلى مصدر أمني "إسرائيلي" إن "الاستعدادات التي يقوم بها "حزب الله " تعزز تقديرات الاستخبارات بأن المواجهة في الشمـال (على الحدود مع لبنان) أقرب من مواجهة واسعة في قطاع غزة في الجنوب، وربما كان ذلك احد الأسباب التي تجعل الجيش "الإسرائيلي" لا يسارع إلى فتح جبهة واسعة في قطاع غزة".
كل هذه التطورات أقنعت بوش بضرورة التحرك على عجل من أجل أمرين: احتواء "الهجوم" العربي المحتمل، وشدّ أزر الحلفاء الخائفين. صحيح أن ليس في الأفق ما يشير إلى احتمال شن العرب، أي قوى المقاومة في لبنان وفلسطين بالتعاون مع سوريا، هجوما على "إسرائيل"، غير أن ما يلمسه القادة العسكريون الأمريكيون في العراق و"الإسرائيليون" في فلسطين المحتلة هو أن ثمة ظواهر وعمليات ميدانية لافتة تجري مؤخراً في بلاد الرافدين، كما في فلسطين ولبنان، تشير إلى استقواء قوى المقاومة والممانعة وتصلبها في مواجهة السياسة الأمريكية و"الإسرائيلية".
"تشيني" قادم، إذاً، لشد أزر الحلفاء الخائفين، ولعله لن يتورع عن قول كلام كبير لتشجيع أولئك الذين ما عادوا يثقون بقدرة الولايات المتحدة عموما و"بوش" خصوصاً على حمايتهم وسط أزمتها الاقتصادية المتفاقمة من جهة وتعثرها المتزايد في أفغانستان والعراق ناهيك عن باكستان ولبنان من جهةٍ أخرى، وسوف يقتنع الحلفاء الخائفون ويتعزز اقتناعهم بعدم الرهان على إدارة بوش عندما سيسمعون من "تشيني" مناشدةً، وربما ضغوطاً، لزيادة إنتاج النفط في دول منظمة (أوبيك) من أجل وقف تدهور سعر صرف الدولار وبالتالي دعم الولايات المتحدة للخروج من أزمتها الاقتصادية المتمادية،
إذ تبدو الولايات المتحدة ضعيفة ومتراجعة وبحاجة إلى دعم حلفائها النفطيين أكثر مما هي قادرة على دعمهم وحمايتهم، فإن هؤلاء جميعا مدعوون إلى إدراك دقائق المرحلة، فلا يسيئون تقدير الموقف ويعطونها أكثر مما يأخذون منها، إن أحداً لا يطلب من هؤلاء الحلفاء أن يديروا الظهر لأمريكا أو أن يسيروا في مخططات خصومها أو أن يقللوا من أهميتها ونفوذها، ما يطلبه العقلاء المتبصرون بأحوال المنطقة والحريصون على حقوق العرب، كل العرب، ومصالحهم هو ألاّ ينخدع الحلفاء بقدرة أمريكا في هذه الآونة، فلا ينجرّوا إلى دعم سياسات لها فاشلة ومؤذية، المطلوب هو اغتنام فرصة ضعف أمريكا النسبي لمقايضة دعمها اقتصاديا أو نفطيا بتنازلات منها وازنة على صُعُد قضايا فلسطين والعراق ولبنان.
في فلسطين يقتضي الحصول من إدارة "بوش" على موقف واضح قاطع من "إسرائيل" يقضي بوقف كل أشكال الاستيطان في المناطق الواقعة شرقي خط وقف النار للعام 1967، وموقف واضح قاطع منها بوقف سياسة تقسيم الفلسطينيين بدعوى الحرب على الإرهاب وبالتالي وقف معارضة العودة إلى حكومة الوحدة الوطنية التي أنتجها اتفاق مكة المكرمة، بذلك يمكن أن يصدّق العرب، كما الفلسطينيون، بأن الولايات المتحدة جادة فعلا في تنفيذ "خريطة الطريق".
في العراق يقتضي الحصول من إدارة "بوش" على موقف واضح قاطع بالانسحاب التام خلال العام القادم مع المحافظة على وحدة العراق السياسية وعدم تقييده بأي معاهدة كشرط للانسحاب، وتعويضه الخسائر المادية والاقتصادية التي سببتها الحرب دونما مسوّغ.
في لبنان يقتضي الإقلاع عن سياسة مساندة فريق سياسي ضد فريق آخر بدعوى "محاربة الإرهاب القادم من سوريا وإيران"، وترك اللبنانيين يتوصلون، دونما تدخلات خارجية من أي طرف كان، إلى تسوية تاريخية تكفل عدم انفجار التناقضات الطائفية واستدعاء القوى الخارجية كل خمس أو عشر سنوات.
أجل، يجب أن يقدم "تشيني" تطمينات وتعهدات بكل هذه الأمور والاستحقاقات، ولا يكفي أن يوحي بأن الهجوم السياسي الأمريكي على المنطقة قد توقف.
حتى من دون هذه التعهدات فإن الهجوم الأمريكي محكوم عليه بالتوقف، والهجوم العربي محكوم عليه بالانطلاق، عاجلاً أو آجلا.
* كاتب ومعلق سياسي من لبنان - دكتور في القانون العام - محام بالاستئناف - وزير سابق للاتصالات