قمة الضغط على سوريا.. ماذا بعدها؟
د. عصام نعمان *
لو أراد الكتّاب والمعلّقون أن يطلقوا على القمة العربية في دمشق لقباً أو كنية لوصفوها بأنها قمة الضغط على سوريا، باستثناء إيران، فإن كبار اللاعبين الدوليين والإقليميين، أو معظمهم، يمارسون حالياً الضغط على دمشق، حتى الأمين العام للأمم المتحدة وكبار مستشاريه ومساعديه دخلوا "بازار" الضغط.
عنوان الضغط واحد: وجوب تدخّل سوريا مع حلفائها في لبنان لتسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انعقاد القمة، بصرف النظر عن مدى نفوذ دمشق لدى قوى المعارضة اللبنانية، فإن مطالبتها بالضغط على "حلفائها" ينطوي على مفارقات لافتة، فـ"التيار الوطني الحر"، مثلاً، لا يتأثر بسياسة دمشق ولا ينسّق معها في الشأن الداخلي بل يحرص دائماً على إبراز استقلاليته عنها وإن كان يلتقي معها في الشأن القومي ضد "إسرائيل"، من المشكوك فيه أيضاً أن يتقبّل "حزب الله" تدخلها إذا كان موضوعها مرفوضاً من حليفه المسيحي الرئيسي العماد ميشال عون، الأمر نفسه ينطبق على بعض القوى الوطنية والديمقراطية والإسلامية التي لها مواقف سياسية سلبية من حكومة فؤاد السنيورة و"قوى 14 آذار" الموالية.
حتى بعض "قوى 14 آذار" لا يتصرف على نحوٍ يمكّن اللاعبين الإقليميين من إقناع سوريا بتسهيل انتخاب رئيس جديد، ذلك أن ثلاثة من أقطاب الموالاة على الأقل – وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع – يدعون إلى أن يقاطع لبنان القمة العربية، فكيف يمكن إقناع سوريا بالضغط على الحلفاء لمصالحة هؤلاء إذا كانوا مصرّين على أن يبقوا أعداء؟
فوق ذلك، يبدو أن إدارة بوش غير راغبة في انتخاب رئيس جديد للبنان قبل انعقاد القمة، ذلك أنها تدعو الدول العربية كلها أو جلها،وليس فقط حلفاءها اللبنانيين، إلى مقاطعة القمة الأمر الذي ينسف مساعي الزعماء الإقليميين الداعين لانتخاب الرئيس اللبناني قبل انعقادها.
غير أن الضغط على سوريا لا يقتصر على مسألة انتخاب الرئيس اللبناني، فالقائمون به يتذرعون بهذه المسألة لتبرير الضغط ليس إلاّ، ذلك ان غرضهم الأساس هو فك تحالف دمشق مع طهران، بذلك يأملون بإضعاف "حزب الله" و"حماس"، بل إضعاف إيران نفسها بطريق تجريدها من حلفاء فاعلين.
سوريا تبدو صامدة في وجه كل الضغوط التي تمارس عليها، صمودها مرده إلى سببين: الأول هزال المكافأة الموعودة بها من إدارة بوش، والثاني رضاها عن الدعم الذي تحصل عليه من إيران، فالرئيس الأمريكي وإدارته يعدونها بفك العزلة عنها مقابل تطليق إيران، في حين لا تشكو هي من مفاعيل العزلة بل تشعر، على العكس،بأن خصومها الدوليين والإقليميين هم المعزولون عن شعوب الأمة ويعانون من وطأة ذلك ٍسياسياً وأمنياً.
هذا الوضع البائس ينعكس بالتأكيد على قمة دمشق، فلا يمكّن المشاركين فيها من الارتقاء بالعمل العربي المشترك والخروج بقرارات نوعية في مواجهة الأزمات والتحديات الراهنة، ولعل هذا بالضبط ما تبتغيه إدارة بوش في هذه الآونة: تكريس عجز حكومـات النظام الرسمي العربي ما يدفع الأوضاع العربية إلى الانهيار والفوضى، أوليست "الفوضى الخلاقة" ما تسعى إليه إدارة بوش في مخططها الداعي إلى إعادة تشكيل المنطقة سياسياً وثقافياً؟
حتى قبل الوصول إلى هذه الغاية التي تتوخاها إدارة بوش، فإن حال الأمة يدعو إلى الرثاء والقلق، ففي فلسطين المحتلة، لاسيما في قطاع غزة، ترتكب "إسرائيل" من المجازر اليومية ما يهدد الشعب بنزف دموي هادر بلا نهاية منظورة، وفي لبنان، تتكرس قطيعة متعاظمة بين الموالاة والمعارضة، تنعكس بدورها على الوضعين الأمني والاقتصادي وتنذر بعواقب وخيمة، وفي العراق، يواصل الوضع الأمني انهياره المطرد، قبل زيارة نائب الرئيس الأمريكي "ديك تشيني" وأثناءها وبعدها، وسط إدعاءات مضحكة مبكية حول استتباب الأمن والاستقرار، وفي مصر، بوادر مجاعة مقلقة تُفصح عنها طوابير الخبز المفقود وعجز السلطة عن مواجهة الكارثة الزاحفة، وفي الكويت، نُذُر أزمة سياسية ذات أبعاد مذهبية لا يمكن فصلها عن موجة عصبيات مماثلة في الجوار، وفي السودان، تتعقد أزمة دارفور وتفيض تداعياتها عن شمال غرب البلاد لتنكأ جرحاً في الجنوب ما زال، على ما يبدو، مفتوحاً وآخر في الوسط النفطي يراد له ان ينفتح، وفي اليمن، يتجدد الصراع بين الحكومة والحوثيين فيما تتزايد تعبيرات السخط في محافظات الجنوب التي يشكو أهلها من إهمال السلطة، وفي الجزائر، تتواصل صدامات الحكومة والإسلاميين المتطرفين وليس في الأفق بارقة تهدئة.
عندما تكون حال الأمة على هذا القدر من الاضطراب المشحون بالأخطار، هل ترانا ننتظر بعدُ، مسؤولين ومواطنين، خيراً من قمة دمشق؟ هل نتجمد يائسين أمامها أم نتجاوزها بالتحليل والرؤية الثاقبة إلى مرحلة ما بعدها، ونشخّص بالتفكير السديد التداعيات والتحديات، ونجترح بالعقل المستنير سيناريوهات المواجهة وتصاميم البناء والإنماء؟ بل ألا يقتضي أن نبدأ، عشية القمة المحاصرة بالنيات السيئة والمخططات المشبوهة، بطرح الأسئلة المفضية إلى نبش الحقائق المخفية والمخيفة؟
ماذا يُراد لفلسطين والفلسطينيين من وراء "خريطة الطريق" المزعومة وتعلاّتها ومفاوضاتها الماراتونية وسط مشاريع الاستيطان والتهويد المفتوحة؟ ماذا يراد لقطاع غزة وسط المجازر اليومية والحصار الوحشي واحتمالات تشريد السكان ودفعهم إلى صحراء التيه في سيناء؟
ماذا يراد للبنان الجريح وسط المناحرات المذهبية وكمائن الفتنة الطائفية وتردي الأحوال المعيشية؟ هل يراد للمقاومة أن تنجذب الى اضطرابات الداخل حتى إذا انغمست فيها انقضَّ عليها العدو الصهيوني من مكامن الخارج؟ هل المطلوب، في نهاية المطاف، "تعريق" لبنان، على غرار ما جرى في العراق، فيتحول كانتونات مذهبية قميئة ترتجي السلامة من "إسرائيل" القوية؟
ماذا يراد للعراق وسط هذه الحرب التي طالب وجارت، فأضحت بلاد الرافدين عملياً ثلاث دويلات، وتشرد شعبها ملايينَ خمسةَ في مختلف محافظاتها وعلى نواصي الأقطار المجاورة؟
ماذا يراد لسوريا وسط هذا الحصار السياسي والعقوبات المتدحرجة؟ هل يراد لها مصيراً مشابهاً للعراق ولبنان فتتكامل حدود "إسرائيل" الآمنة؟
ماذا يراد لبلدان الخليج وسط تأزم الصراع بين الولايات المتحدة وإيران؟ هل تريد إدارة بوش، في سياق محاولة تدمير إيران وإعادتها عشر سنين إلى الوراء، تعريض بلدان الخليج لمضاعفات الحرب وشرورها لتقوم الشركات الأمريكية، بعد أن يحطّ الغبار، لإعادة بناء ما تهدم بعقود وعطاءات خيالية؟
ماذا يراد لليمن؟ ماذا يراد للسودان؟ ماذا يراد للجزائر؟ بل ماذا يراد لدنيا العرب؟ هل يراد لها في الحاضر وفي قابل الأيام أن تتحول لوحةً فسيفسائية من أديان ومذاهب وأعراق وأجناس وقبائل وعشائر وإثنيات وثقافات متنافرة متناحرة لا حول لها ولا قوة؟
مثل هذه الأسئلة المصيرية يجب أن تبدأ القوى الحية بطرحها على نفسها اليوم لتجيب عنها غداً، فتأخذ قضاياها بأيديها وتنتدب نفسها لمواجهتها وإيجاد حلول لها دونما انتظار عقيم لعون هزيل من شبكات حاكمة مرتهنة، هانت وشاخت وماتت أو كادت.
* كاتب ومعلق سياسي من لبنان - دكتور في القانون العام - محام بالاستئناف - وزير سابق للاتصالات