هل تدفع أمريكا ثمناً سياسياً لانحدارها اقتصادياً؟
د. عصام نعمان *
كان اقتصاد أمريكا الأكبر في العالم. اليوم أضحى اقتصاد أوروبا هو الأكبر، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يحتل اقتصاد الصين المرتبة الأولى، غني عن البيان إن الانحدار الاقتصادي يفضي، غالباً، إلى انحدار عسكري وبالتالي إلى اندحار سياسي. لماذا ينحدر اقتصاد أمريكا ويتراجع بوتيرة سريعة؟
ثمة أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة، الأسباب المباشرة أبرزها أزمة الرهونات العقارية الكاسحة التي أنتجت أزمة ركود في قطاع السكن ، وهو عصب الاقتصاد الأمريكي.
هاتان الأزمتان أفرزتا بدورهما أزمتين حادتين: تراجع الإنفاق الاستهلاكي وبالتالي انحسار السيولة النقدية لدى المصارف ما أدى إلى انكماش التسليف وتراجع الاستثمار، رافق هذه الأزمات أو نتج عنها تقلّص كبير في فرص العمل، وارتفاع مقلق في نسبة البطالة، بالإضافة إلى تطور "خارجي" هو ارتفاع سعر النفط المستورد، ذلك أن 50 في المئة مما تستهلكه الولايات المتحدة من النفط ومشتقاته مستورد من الخارج.
إذ تراجع سعر صرف الدولار الأمريكي، ارتفع في المقابل سعر صرف اليورو الأوروبي وكذلك سعر الذهب والفضة وسائر المعادن والسلع الرئيسية، وحاول مصرف الاحتياط الفدرالي الأمريكي معالجة الأزمة المتفاقمة بخفوضات متتابعة لمعدلات الفائدة وضخ بلايين / مليارات الدولارات إلى المصارف الكبرى من أجل توسيع دائرة التسليف وبالتالي تشجيع الاستثمار، لكن كل هذه الجهود لم تفلح في وقف تفاقم الأزمة إذ استمر سعر صرف الدولار إزاء العملات الأخرى، لاسيما اليورو، بالهبوط الأمر الذي ولّد ، حسب صحيفة "نيويورك تايمز" ، أزمة ثقة بالنظام المصرفي العالمي.
لا يمكن الاقتصار في تفسير انحدار الاقتصاد الأمريكي بالأسباب المباشرة المار ذكرها، ثمة أسباب وعوامل غير مباشرة سابقة لها وذات طابع بنيوي كانت ومازالت تفعل فعلها على مر الزمن وتدفع باقتصاد أمريكا إلى الانحدار.
أبرز هذه العوامل خمسة: توسّع التزامات أمريكا العسكرية والأمنية وبالتالي تكاليفها ونفقاتها المالية في مختلف أنحاء العالم، وتراجع طاقتها الصناعية، وارتفاع أسعار النفط، وتنامي الإقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، وانخفاض المداخيل لدى سكانها بوتيرة مستمرة منذ نحو عشر سنوات.
إلى ذلك، يتحمل الرئيس بوش مسؤولية إضافية عن مفاقمة الأزمة كونه المسؤول عن توريط الولايات المتحدة في حربين خلال ولايتيه بلغت تكالفيهما حتى الآن أكثر من 3 ترليون دولار، والحبل على الجرار، ومع ذلك فإنه وإدارته مازالا موغلين في سياسة غير مسؤولة ومكلفة عنوانها "الحرب على الإرهاب، فقد صرح بوش أخيـراً أن بلاده ستتعافى من الأزمة الراهنة بمجرد انتصارها في الحرب على الإرهاب، والحال أن هذه الحرب متمادية ولا يبدو أن ثمة نهاية لها، ألم يصرح نائبه ديك تشيني أخيراً "أن أمريكا لن تنسحب من العراق حتى لو تعب الآخرون"؟!
لعل أخطر من البقاء في العراق أن يحاول بوش وأركان إدارته تدفيع العالم، لاسيما الدول العربية المنتجة للنفط، ثمن أزمة أمريكا الاقتصادية، كيف؟ بالضغط عليها لحملها على اتخاذ ثلاث خطوات:
* زيادة إنتاج النفط لخفض سعره ما يؤدي، في ظنهم، إلى تحسين سعر صرف الدولار الأمريكي.
* تأجيل التخلي عن الدولار الأمريكي كواسطة تسديد لمبيعات النفط وعوائده المستحقة.
* تحويل مبالغ ضخمة ببلايين/ مليارات الدولارات من مصارفها المركزية إلى المصارف الأمريكية لدعم الدولار ووقف تدهور سعر صرفه.
إن الدول العربية المنتجة للنفط مدعوة إلى رفض ضغوط إدارة بوش الآيلة إلى تدفيعها ثمن سياساته الفاشلة التي أنهكت العرب والمسلمين وألحقت أفدح الأضرار بحقوقهم ومصالحهم. أليس بوش وإدارته هم المسؤولين عن الكوارث والمآسي التي ترزح تحتها شعوب فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال وأفغانستان وباكستان؟
ثمة مواقف وسياسات للمدى القصير وأخرى للمدى الطويل تستطيع الدول المنتجة للنفط اعتمادها لتفادي تدفيعها ثمن فشل مغامرات بوش الحمقاء وثمن أزمة بلاده المالية والاقتصادية. ففي المدى القصير يقتضي رفض الخطوات الثلاث المار ذكرها، لاسيما زيادة إنتاج النفط، التي تسعى واشنطن بالتواطؤ مع بعض الدول الصناعية الكبرى لحمل الدول المنتجة للنفط على اتخاذها. لكنها برفض الانصياع لرغبات بوش، تحمي الدول العربية المنتجة للنفط حقوقها ومصالحها بالدرجة الأولى، وتحول دون استمرار الهيمنة الأمريكية على العرب والمسلمين، وليس من قبيل المغالاة القول إن الدول العربية المنتجة للنفط قادرة على تحقيق ما هو أفعل من مجرد منع أمريكا من إهدار حقوق العرب والمسلمين والإضرار بمصالحهم، إنها قادرة على اعتماد خطط وسياسات للمدى البعيد تؤدي إلى منع الولايات المتحدة من تدفيع غيرها ثمناً سياسياً لانحدار اقتصادها، والى تعويض العرب والمسلمين ما ألحقته بحقوقهم ومصالحهم من إهدار وإضرار على النحو الآتي:
* الخروج من "نظام" التعامل بالدولار الأمريكي كواسطة نقدية لتسديد ثمن النفط وعائداته، والاستعاضة عنه بسلة عملات متطورة أبرزها اليورو.
* إقامة أسواق قومية وقارية واسعة على غرار السوق الأوروبية المشتركة لمضاعفة التبادل التجاري، وتأمين الرساميل الضخمة اللازمة للتصنيع الثقيل، وتوفير الكفايات التقنية والفنية والإدارية اللازمة لتعزيز مشروعات التنمية.
في هذا المجال، يجب التنويه بإعلان دول "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" في قمة الدوحة (قطر) خلال الفترة 4-3 كانون الأول/ديسمبر 2007 قيام السوق الخليجية المشتركة اعتباراً من مطلع السنة الجارية. إن من شأن هذه السوق الواسعة تحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني دول المجلس في ممارسة الأنشطة الاقتصادية وانتقال رؤوس الأموال والاستثمار بجميع أنواعه والعمل والاستفادة من خدمات التعليم والصحة في جميع دول المجلس، ولا شك في أن السوق الخليجية المشتركة ستتقوى كثيراً وتتزايد منافعها إذا ما جرى قبول اليمن في عضويتها.
* التركيز على التنمية الداخلية المستقلة كسبيل للتقدم والارتقاء من جهة وكطريقة لتفادي الانزلاق إلى دوامة إعادة تدوير عائدات النفط التي يُراد لها أن تصبّ في خزائن أمريكا وأوروبا من جهة أخرى.
الاقتصاد هو مصدر القدرة السياسية والعسكرية. ولا شك في أن تعاظم القدرة الاقتصادية والمالية للدول العربية المنتجة للنفط سيمكّنها من الاستغناء عن الأمن المستعار، كما سيمكّنها من بناء قدرات دفاعية ذاتية، بذلك يصبح عرب الخليج أكثر حريةً واقتداراً ونفوذاً وبالتالي إسهاما في دعم سائر العرب وتمكينهم من تحرير أراضيهم المحتلة واستعادة حقوقهم المغتصبة وتنمية بلادهم المنهكة.
* كاتب ومعلق سياسي من لبنان - دكتور في القانون العام - محام بالاستئناف - وزير سابق للاتصالات