طارق عزيز والأربعين تاجر

بقلم: الدكتور عبد الواحد الجصاني

لم يتعرض بلد ولم يتعرض قائد عبر التاريخ إلى مثل ما تعرض له العراق وصدام حسين من حملات التشويه والشيطنة، لقد تكثفت هذه الحملة منذ عام 1990 وسخّرت لها الماكنة الإعلامية الغربية والأموال الصهيونية والبترو-دولار وإيران وعرب حفر الباطن، بل وأيضا شارك فيها كل من يسعى للتملّق لأمريكا من بالاو إلى غينيا بيساو، اعتمدت هذه الحملة على الكذب والتلفيق والتزوير وإلصاق كل ما هو شرير بالعراق وقائده ونفي كل ما هو خيّر عن العراق وقائده، يكفينا التذكير برواية المراهقة (نيّره) ابنة السفير الكويتي في واشنطن التي ادعت أنها شاهدت الجنود العراقيين يسرقون حاضنات الأطفال ويرمون الأطفال الخدّج على الأرض، ورواية الطيور البحرية النافقة بتلوث نفطي في آلاسكا وقدمت على أنها من جرائم (النظام العراقي)، مرورا بأسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى القادرة على تدمير لندن، والعلاقة مع "القاعدة"، وتلذذ صدام حسين يقتل مواطنيه لكسر الملل، وماكنات ثرم البشر في مديريات الأمن في العراق، وحلبجة، والقائمة تطول.

وبعد الاحتلال فتش المحتل في جميع ملفات الدولة العراقية بحثاً عمّا يدين قيادة العراق الشرعية بأي من هذه الاتهامات أو أي اتهام آخر بسوء الذمة المالية أو سرقة المال العام أو الإضرار بمصالح الدولة أو الخيانة العظمى أو التخابر مع جهة أجنبية ضد مصلحة الوطن، فلم يجدوا شيئاً من ذلك، فتحولوا إلى ترهيب وترغيب أسرى الحرب من قيادة العراق الشرعية لكسر عزيمتهم وإسقاط هيبتهم أمام شعب العراق والعالم وطلبوا منهم تحت التعذيب أن يعلنوا ندمهم وتوبتهم وأن يشهد بعضهم على البعض الآخر لكن ولا أحد من قادة العراق خضع لمطالبهم، ورأى العالم أسرانا أسوداً في أقفاص الأسر وعلى منصة الإعدام، لم يهنوا ولم يساوموا على المبادئ ولم يبيعوا الوطن، وبان للعالم كله أن هؤلاء ليسوا عصابة من المارقين بل قادة شعب أصيل وأصحاب عقيدة راسخة وإرادة لا تلين.

ثم لجأ المحتل وعملاء المحتل إلى الانتقام من قادة العراق الشرعيين باتهامهم بقضايا الدجيل والأنفال وصفحة الغدر والخيانة وكلها تتعلق بتمرد مسلح ضد الحكومة المركزية قامت به أحزاب وتنظيمات تابعة لإيران، معتبرين أن قضاء الحكومة العراقية على التمرد المسلح المدعوم من دولة أجنبية هو جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب وجريمة إبادة جماعية!! ضاربين عرض الحائط المبدأ القانوني الذي يعتبر التخابر مع دولة أجنبية ورفع السلاح ضد الحكومة الشرعية هو خيانة عظمى، وضاربين عرض الحائط مبادئ القانون الدولي التي تعتبر قادة حكومة العراق الشرعية أسرى حرب تنطبق عليهم اتفاقيات جنيف لعام 1949 ولا يحق للقوة القائمة بالاحتلال أو الحكومة التي أنشأتها قوة الاحتلال محاكمتهم على ما أدعي أنها جرائم ارتكبت قبل الاحتلال، منتهكين كذلك القاعدة القانونية التي تقول (لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بقانون ساري المفعول عند ارتكاب الجريمة) وأن أداء المسؤولين العراقيين لمهماتهم وفق القانون لا يعتبر جريمة، إضافة إلى أن الهياكل القضائية المقامة في ظل الاحتلال هي أصلا غير شرعية كالاحتلال نفسه.

ومن جديد، اتضح للعالم كله أن هذه المحاكمات الصوريّة هي مجرد غطاء مهلهل للانتقام من حكومة العراق الشرعية، وأنها تفتقر إلى الحد الأدنى لشروط المحاكمة العادلة، وهذا ما أكدته المؤسسات القضائية والقانونية ومنظمات حقوق الإنسان في العالم، ومنها مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أكّد بأن المحكمة الجنائية العراقية العليا تنتهك المبادئ الأساسية للقضاء العادل.

ولأن المحتل وعملاء المحتل لا بصر ولا بصيرة لهم، فقد واصلوا احتقار القانون الدولي ومبادئ العدالة ومطالب الرأي العام العلمي، وقرروا إحالة طارق عزيز وسبعة من مسؤولي حكومة العراق الشرعية إلى المحكمة بتهمة إعدام أربعين تاجر أدينوا بتخريب الاقتصاد الوطني عام 1992 معتبرين أن تنفيذ الإعدام بهؤلاء التجار هو جريمة ضد الإنسانية!!

وخلاصة هذه القضية هي أن تجار المواد الغذائية استغلوا حالة الحصار الشامل المفروض على العراق ورفعوا أسعارها بشكل حاد ومفاجيء لتحقيق ربح فاحش غير مشروع على حساب المواطن، واعتبرت الحكومة العراقية عملهم هذا تخريبا للاقتصاد الوطني بموجب القانون النافذ (قرار مجلس قيادة الثورة رقم 15 في 15/1/1991)، واعتقلت مائتا تاجر للتحقيق معهم، وأطلقت سراح 160 منهم لعدم ثبوت الأدلة وحاكمت الأربعين الباقين وصدر عليهم الحكم بالإعدام ونفّذ بشكل سريع لقطع دابر من يتلاعب بقوت الشعب المحاصر.

إن قرار إحالة طارق عزيز ورفاقه للمحكمة بهذه القضية يعكس درجة الانحطاط والتردي والتخبط وشهوة الانتقام الجامحة التي تحكم سلوك المحتل وعملاء المحتل. لقد كان طارق عزيز نائبا لرئيس الوزراء مسؤولا عن العلاقات الخارجية للعراق ولا علاقة له بأي قضية تتعلق بتطبيق القانون الجنائي الوطني في العراق.

ويبدو أن المحتل وعملائه يرمون من هذا القرار تحقيق الآتي:

1 - قطع الطريق على الحملة الدولية المتصاعدة لإطلاق سراح طارق عزيز وبقية أسرى الحرب العراقيين.

2 - تسعير الفتنة الطائفية والعرقية والاحتراب الداخلي وهي أسلحة الاحتلال وعملاء الاحتلال المفضلة إزاء تزايد التفاف العراقيين حول هدف التحرير.

3 - إرضاء شهوة الانتقام والقتل لدى هذه الحكومة وسيدتها إيران، ولنتذكر أن المالكي جعل حفل زفاف ولده يوم ذبح الرئيس الشهيد صدام حسين لكي تكون فرحته مضاعفة، ولنتذكر أيضا أن طارق عزيز كان، عبر تاريخه، شوكة في حلق إيران وعملاء إيران، واستطاع بدبلوماسيته البارعة أن يهزم الدبلوماسية الإيرانية خلال الحرب الإيرانية - العراقية ويحشد أكبر دعم دولي لمطالب العراق بوقف الحرب ولجم المطامع الإيرانية، وكان لطارق عزيز والدبلوماسية العراقية دور حاسم في جعل الخميني يتجرع كأس السم بقبوله وقف الحرب في 8/8/1988.

4 - صرف الأنظار عما يجري في العراق من مجازر وقتل جماعي للمدنيين على يد قوات الاحتلال وقوات الحكومة المنشأة في ظل الاحتلال وميليشياتها الطائفية وعصابات الجريمة المنظمة وجهات استخبارية إقليمية ودولية عديدة. إنها لسخرية ما بعدها سخرية أن يساق مسؤولو حكومة العراق الشرعية إلى المحكمة بتهمة تنفيذ عقوبة الإعدام بأربعين تاجر احتكروا قوت الشعب عام 1992، بينما يقتل في العراق كل يوم المئات من المدنيين الأبرياء ويتحولون إلى (جثث مجهولة الهوية) ولا أحد يسأل من قتلهم ولا أحد يعمل لوقف المجزرة المستمرة منذ الاحتلال والتي راح ضحيتها لحد الآن مليون ومائتا ألف مدني عراقي.

إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار، وإن المقاومة العراقية هزمت مشروع الاحتلال، وإن شعب العراق أذكى من أن تنطلي عليه هذه الأكاذيب، وقد بدأ المجتمع الدولي يستعيد وعيه الذي غيّبته أباطيل أمريكا وإيران وعملائهما، وانتفاضة الرأي العام الدولي بمناسبة الذكرى الخامسة للعدوان على العراق هي خير دليل على هزيمة الاحتلال وعملائه عسكريا وسياسيا وأخلاقيا وهي خير رد اعتبار لحكومة العراق الشرعية.

إن هذه التطورات تضع على عاتق كل عراقي وكل عربي وكل إنسان شريف في العالم أن يكثفوا جهودهم لدحر الاحتلال والاعتراف بشرعية المقاومة العراقية وإنقاذ أسرى العراق من الاحتلال وعملائه.

لقد وصل غدر الغادرين وخسة العملاء حدا أصبح السكوت عليه، أو حتى مواجهته بـ(أضعف الإيمان) غير مقبول شرعياً ووطنياً.

المطلوب هو الوقوف بوجه هذا الطغيان الأعمى الذي إن ترك يدمر العراق اليوم فلن ينجو منه أحد.

إن المقاومة العراقية، الظاهرة الشرعية الوحيدة في العراق، هي النموذج الذي يجب أن يقود فعل الجميع لتحرير العراق من البرابرة.

وأخيرا أستذكر مقابلة صحفية للروسي متروخين رئيس فريق التفتيش عن أسلحة العراق الكيمياوية عام 2000 قال فيها "أنه عندما يبدأ العلماء العراقيون يشرحون له تفاصيل إنهاء برنامج العراق التسليحي، لا يتحقق من المعلومات الواردة في شرحهم، بل يحاول أن يعرف من أي ليلة من رواية ألف ليلة وليلة ينقلون روايتهم".!!

ومرت الأيام وعرف العالم أن علماء العراق ومثقفيه وسياسييه كانوا يقولون الحقيقة وأن كل إدعاءات أمريكا وعملاء أمريكا هي من روايات ألف ليلة وليلة.

والله المستعان

بغداد 24/3/2008