فن إدارة تدمير العراق..

كمال القيسي *

في دياجير هيمنة القوة والانقياد العالمي، تقود الولايات المتحدة الأمريكية في العراق مسلسلاً تدميرياً تقتسم أدواره الرئيسية: مؤسساتها العسكرية - الامبريالية المنظورة منها وغير المنظورة، مجلس الأمن ومنظوماته، الدول التابعة والمنسقة واللاعبة المشتركة في عمليات تنسيق وتنفيذ آليات التدمير والتفكيك والتركيع والهيكلة، تهدف أمريكا من وراء احتلالها العراق فرض نماذج "للتعاون الأمني والاقتصادي" تضمن لها وللدول الحليفة الكبرى مصالح استراتيجية مستدامة كل حسب قوتها وجبروتها وللدول النائمة العائمة المهمشة التابعة المستعبدة، العيش على الكفاف بشكل مرسوم كل حسب درجة تعاونها وصمتها وعبوديتها وفقرها وغبائها.

غزت أمريكا العراق بعد أن ضمنت ووزعت أدوار التعاون والصمت على المستوى الإقليمي والدولي، ورفعت أمريكا في غزوها شعار "الصدمة والترويع"، أي صدمة التدمير لكل منظومات الدولة العراقية وترويع الإنسان العراقي، كنتيجة للضغوط الأمريكية صدر قرار مجلس الأمن الرقم 1483/2003 الذي اعتبر الحرب على العراق احتلالاً وأغفل حق الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال سلمياً أو باستخدام القوة، ولم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار يدين الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان والقانون الدولي في العراق وإنما صدر عنه القرار "1511" الذي منح "الشرعية" للاحتلال والاعتراف بـ"مجلس الحكم" الذي شكله المحتلون، سوق "بريمر" الدستور العراقي الموضوع كخطوة أولى: لترسيخ فدرالية الأقاليم والتصرف بالثروة النفطية، العمل على تفكيك العراق إلى أقاليم والتعاون مع من توافقت مصالحهم الفئوية والطائفية والعرقية والإقليمية مع الخطة الأمريكية الموضوعة، ومن أجل ترسيخ التواجد الأمريكي في العراق لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى طلب العون الإقليمي والدولي بشأن:

* دعم العملية السياسية المرسومة.

* دعم الحكومات المنصبة المفلسة التابعة.

* العمل على اختراق المقاومة وتحفيز قياداتها في الانخراط بالعملية السياسية.

* تفعيل القوى الإقليمية في دعم التوجه أعلاه خاصة (تركيا، إيران، سورية، السعودية، مصر، قطر، الكويت..).

* تقديم المساعدات للحكومة العراقية المنصبة لبناء منظومات الدولة وتحقيق "القوة الذاتية" وتفعيلها في الإطار الإقليمي والدولي.

في 26 آب 2007، أوعزت الإدارة الأمريكية إلى "حكومة المالكي" إصدار إعلان بيان "مبادىء التعاون والصداقة طويل الأمد بين بغداد وواشنطن" الذي وصف بأنه معاهدة من دون سقف زمني ومن غير مراجعة دورية شملت آفاقا واسعة متعددة يأتي في مقدمتها:

* التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية من أجل "عراق حر ديمقراطي تعددي فدرالي موحد"!

* دعم الحكومة العراقية في حماية النظام الديمقراطي العراقي من الإخطار التي تواجهه داخلياً وخارجياً؟!

* دعم الحكومة في الانتقال إلى "اقتصاد السوق" والعمل على تسهيل وتشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى العراق خاصة الأمريكية منها؟!

* تقديم تأكيدات والتزامات أمنية للحكومة العراقية بردع أي عدوان خارجي يستهدف العراق وينتهك سيادته وحرمة أراضيه أو مياهه وأجواءه "أين ذلك من فتح الحدود أمام الاعتداءات الإيرانية والتركية"؟!

* مساعدة الحكومة العراقية في مكافحة جميع المجموعات "الإرهابية" كـ"القاعدة" و"الصدّاميين" وجميع المجموعات الخارجة على القانون "الأمريكي" بغض النظر عن انتماءاتها والقضاء على شبكاتها اللوجستية ومصادر تمويلها وإلحاق الهزيمة بها واجتثاثها من العراق، كان السبب الرئيسي من وراء إصدار هذا البيان، إن "حكومة المالكي" بنت فلسفة حكمها ومصيرها على وجود الاحتلال الأجنبي الأمريكي والإيراني.

ومن المعروف أن هذه المبادىء كانت ترجمة "للعقد الدولي مع العراق" الذي أعلن في 18/9/2006 الذي نص على "تطوير شراكة جديدة بين العراق والمجتمع الدولي على إيجاد إطار يسمح بإعادة إعمار العراق وتطوير اقتصاده وتكامله مع الاقتصادات الإقليمية والدولية".

ولكي تتحقق الأجندة غير المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية اعتمدت أمريكا نموذج التقسيم الإداري (فدرالية الثلاث أقاليم) لضمان بقاء العراق ضعيفا من دون تفكيك.

وقد راهنت على أن نشوء الأقاليم هذا سوف يمنع الحرب الأهلية والاقتتال وأن تلك الأقاليم ستتجه عبر الزمن نحو نظام فدرالي متناغم مع المصالح الأمريكية (من خلال توزيع المناصب والمشاريع الاقتصادية والتجارية على القيادات المناطقية)، في إطار هذا النموذج يمنح السُنَّة السيطرة الكاملة على الأقاليم الأوسط مع ضمان حقوقهم دستورياً في الإيرادات النفطية من خلال قيام الحكومة المركزية بذلك وفق النسب السكانية للمناطق!.

تتضمن الأجندة الأمريكية تنظيم انسحابات جزئية متدرجة يجري تنفيذها قبل نهاية عام 2008 على أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولة عن تنظيم الشرطة والجيش في العراق وإبقاء بعض القواعد العسكرية المنتخبة؟!، وظفت الإدارة الأمريكية ضغطها ومداهنتها من خلال التنسيق مع القنوات الدبلوماسية الواسعة (الأمم المتحدة، المجموعة الأوروبية، مجلس التعاون وجامعة الدول العربية) والجماعات والقيادات العراقية المتنوعة.

وفي إطار الضغط والمداهنة يجري الإعداد لمؤتمر إقليمي أمني بهدف تحقيق اتفاق سياسي حول ضمان وحدة الأقاليم العراقية وأن يترك لمجلس الأمن تنظيم آليات توصياته.

من الأسباب الرئيسية لعقد هذا المؤتمر: احتواء فوضى احتلال العراق ومنع انتشارها إقليمياً، الخوف من تداخل الملفات الاستراتيجية في المنطقة وتضرر "اسرائيل" من انتشار الفوضى وعدم السيطرة عليها، إضعاف هيبة "الدول المعتدلة" في المنطقة والسيطرة على سوق النفط العالمية.

لقد تحقق الانتصار الأمريكي على أرض العراق بعد أن جعلها أنقاضاً وخرائب ومقابر ضمت أشلاء وقتلى قدرت نفوسها (وكالة اكسفورد للأبحاث) بحدود 1.3 مليون مدني عراقي.

كما أنتجت خطة أمريكا في "الصدمة والترويع"، نازحين ولاجئين ومهاجرين بحدود 2.4 مليون تتقاسم نفوسهم البائسة وبؤسهم دول عديدة في مقدمتها سورية والأردن.

لقد اغتال العرب العراق قبل أن تقتل أمريكا أهله وتوجد فيه النزاعات الطائفية والدينية والعرقية على أرضه، إن الولايات المتحدة الأمريكية مصرة بأن تكون لها قواعد عسكرية في العراق وأن يكون لقواتها حرية التحرك والسيطرة على حقوق نفط العراق.

إن أمريكا مصرة كل الإصرار أن يحتل جيشها العراق حفاظاً على "أمنها القومي الأمريكي" بالرغم من معارضة وازدراء شعوب العالم.

إن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف جيدا بأنها غير قادرة على أن تربح الحرب القائمة الآن في العراق..

إن بقاء قواتها سيزيد من حدة الصراعات الداخلية وتأليف العراقيين عليها وتوسيع أطراف النزاع وإشعال حروب داخلية اثنية وعرقية وطائفية تخرج على سيطرة الجميع.

لقد فشلت الولايات المتحدة الأمريكية ومنظوماتها ومنها الحكومة العراقية الحالية ذات الولاءات المزدوجة، من تحقيق الأمن القومي للعراق وعزله عن الأخطار والتهديدات الخارجية وأشكال التدخل أو الاجتياح أو التدمير أو الاحتلال أو أية عمليات مؤذية تقوم بها القوى الأجنبية المعادية.

إن الإدارة الأمريكية قد أوعزت لمنظوماتها السياسية والعسكرية والاستخباراتية وشركائها في المنطقة على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف (وكذلك رجالها في الحكومة العراقية والكتل والأحزاب والتجمعات السياسية العراقية) بتسريع "عملية المصالحة الوطنية" وترميم الدولة والبرلمان بالنخب المنكوبة الضائعة وبصورة شكلية مرسومة من أجل لملمة "الملف العراقي" قبل نهاية 2008 والانتقال به إلى مرحلة جديدة تحتل فيها إيران موقع الصدارة في المعادلة الأمريكية الاستراتيجية "للشرق الوسط"، وما زيارة الرئيس الإيراني نجادي "للمنطقة الخضراء" إلا إيذاناً في الشروع بتفعيل ذلك.

إن تحقيق سيادة ووحدة العراق وعروبته واحترام كرامته الوطنية وحرية مواطنيه تعتبر الشروط الأساسية لضمان مصالح الولايات المتحدة الأمريكية على أرض العراق وفي "منطقة الشرق الأوسط الجديد"، ولا واقع ولا شروط غير ذلك..؟؟.

* عن العرب اليوم) الأردنية 20/3/2008