هل مات الشعب العربي فعلا أم أنه هدوء يسبق العاصفة؟؟؟
عوني القلمجي
لو أن الانتقادات والشتائم ضد الجماهير العربية/ ووصفها بالتخاذل والاستكانة، وقلة النخوة، تجاه ما يجري في العراق وفلسطين على وجه التحديد قد أتت من أعداء الأمة، لهان الأمر كثيرا، فعلى مر التاريخ كان الغزاة والطغاة ومرتزقتهم ومأجوروهم من ممتهني الإعلام يعتمدون على هذه الأساليب بهدف إشاعة روح اليأس والاستلام للأمر الواقع، ومنع الجماهير من ممارسة دورها المشروع ضد الغزاة والمعتدين أو ضد حكوماتهم العميلة، لكن أن تأتي هذه الشتائم من أبناء جلدتنا فهذا يدل، من جهة، على قصور وعدم دراية للظروف الذاتية والموضوعية التي تعيشها جماهير الأمة، أو لنقل بالمصطلح الدارج الشارع العربي، ومن جهة أخرى فأنها تقدم خدمة جليلة للعدو بصرف النظر عن حسن النوايا أو شدة الألم وحجمه الذي نعاني منه جراء العدوان والغزو.
نعم هناك غياب ملحوظ لدور لشارع العربي كونه لم يرتق إلى المستوى المطلوب وينسجم مع المخاطر الجسيمة التي تحيق بالأمة العربية، كما كان الحال في الستينات من القرن الماضي، واختفت الشعارات والصرخات التي كانت تملأ الساحات والشوارع، وتلاشى الغضب المكبوت في الصدور، وتعايش الناس مع أنظمة فاقدة التمثيل وتخدم أعداء الوطن بكل ما أوتيت من قوة، كما يحق للبعض الاستياء من هذا السكون ضد الاحتلال الأمريكي الصهيوني في العراق وفلسطين، والتحسر على حالته والتساؤل عن غيابه ونعيه في بعض الأحيان. إلا أن هؤلاء لم ينتبهوا بالقدر الكافي، بأن ما يحدث في الشارع العربي له أسبابه ودواعيه، وكان من المفترض البحث والقراءة والتفكير في هذه الأسباب والدواعي التي حالت بين الشارع العربي وبين التعبير عن مواقفه وآرائه ومنعته من الفعالية والتأثير في القضايا الحيوية التي تخصه إلى درجة الكرامة والخبز! والتأمل في العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تحويل الطاقة المختزنة فيه من الإيمان والغضب إلى طاقة متحركة حرارية مؤثرة.
دعونا إذن ندقق في هذا الأمر، فمرد هذا السكون، وإن كان يخترق في بعض الأحيان في هبات جماهيرية، يعود إلى أسباب عديدة، أولها أن حركة التحرر الوطني العربية خصوصا وفي "العالم الثالث" عموما، كانت على الدوام هدفا لأميركا وحليفتها الصهيونية العالمية كونها شكلت حينها خطرا على "النظام العالمي الأمريكي الجديد " خاصة وأنه تصادف مع هذا النظام العالمي الأمريكي المرتقب، ظهور فعال لتلك الحركة التحررية وفورانها على خط يعبر القارات والمحيطات من اندونيسيا إلى الجزائر، وقد نجحت أمريكا فعلا في أواخر الستينات والسبعينات في ضرب وتصفية عدد من المراكز الهامة لحركة التحرر الوطني لتنتهي هذه الحركة في معظم البلدان إلى التراجع والانكفاء. يضاف إلى ذلك الإحباط الذي أصاب الشارع العربي بعد هزيمة حزيران 1967 وما أعقبها من خروج مصر نهائيا من ساحة الصراع العربي الصهيوني وذلك باعتراف السادات المقبور بالكيان الصهيوني، الأمر الذي أدى إلى تراجع الحركة القومية لتعقبه فشلا آخر لجهة جميع الحركات اليسارية التي حاولت أن تكون البديل المناسب.
وثانيها فأن ما بقى من عناصر القوة لهذه الأمة سواء في تجربة العراق وليبيا والجزائر قد تحطمت إلى درجة كبيرة، فالعراق تعرض إلى هزيمة أمام العدوان الأمريكي عام 1991 وانكفأ إلى الداخل يضمد دون جدوى جراحاته وليبيا تم تدجينها وأصبحت تستجدي رضا أمريكا بعد أن كانت سندا لكل مقاومة عربية او عالمية والجزائر دخلت نفق الخلافات الداخلية، مما سمح للحكام العرب الذهاب إلى "مؤتمر مدريد" لتختتم هذه الهزائم بقبول المقاومة الفلسطينية باتفاقات أوسلو لينتهي الأمر بعدها بقادة الأحزاب العربية لان يتحولوا من مدافعين عن قضايا شعوبهم إلى منظرين للهزائم، أو في أحسن الأحوال أسرى القوة الأمريكية وسياسة الأمر الواقع، مما أدى إلى إفلاس هذه القيادات وافتضاح أمر فسادها وعجزها وتخلفها عن طموحات واحتياجات العمل العام والجماهيري، ولم تعد الجماهير ترى أي حركة أو قيادة سياسية جديرة بثقتها وتكون مستعدة للعمل وراءها.
وتمثل ثالثها في احتلال العراق وما رافقه من حملة إعلامية حول القوة الأمريكية الأمر الذي ادخل الرعب في النفوس حتى خيل للبعض بأن أمريكا باتت أمراً واقعا وأن على الجميع الاستسلام لهذا الواقع. أما إذا حاولت أي جهة سياسية ان تتصدى لامريكا او للعدو الصهيوني حتى في البيانات او الخطابات فانها كانت تجابه بكل انواع القوة والقمع.
هل يعني ذلك بأن الشارع العربي قد انتهى دوره جراء هذه الأسباب؟ أم أن هناك أسباب بالمقابل تدعوه إلى كسر هذا السكون والتحرك الفعال وبلورة نضال حقيقي قد يقود في المستقبل القريب إلى الانتفاضة الشعبية ضد الحكام الخونة والمحتلين معا؟
من جهتنا فأن الشارع العربي لا زال بخير وإن كانت حركته لم ترتق إلى المستوى المطلوب. فالإمكانات المختزنة داخله والغضب المكبوت ضد الغزاة والمعتدين، ستفلت من عقالها وتتحول إلى ثورة عارمة قد تشمل الوطن العربي بأكمله، خاصة وان الأمة العربية تمر بإرهاصات ما قبل الوحدة والتحرير، فالاحتلال الأمريكي يغوص في وحل العراق حتى أخمص قدميه والمقاومة في فلسطين لازالت قائمة رغم كل الظروف الصعبة التي تعيشها وفي الصومال تعاني القوات الإثيوبية من مأزق حرج للغاية جراء المقاومة الوطنية، في حين تزداد الفجوة بين الحكومات وشعوبها ويزداد السخط عليها جراء ظلمها وتعسفها وجراء سياساتها الخيانية ومشاركتها وتنفيذها للمخطط الامريكي الصهيوني الغادر وخاصة ضد العراق وفلسطين. ناهيك عن ظهور بوادر لتشيكل احزاب وقيادات سياسية مؤثرة ومستعدة لتقديم كل انواع التضحية والفداء في سبيل أمتها، وهذا سيؤدي حتما وعلى المدى المنظور الى تحول تلك الامكانات المختزنة الى واقع فعلي.
والأهم من ذلك كله، فان الشارع العربي ذاته أصبح أكثر وعيا، مما يؤهله لأن يكون تحركه في المستقبل مجديا وفعالا وليس عفويا أو كرد فعل تجاه حدث ما، كما كان يتحرك ويخرج إلى الشوارع بمجرد خطاب من هذا الزعيم أو ذاك، الزعيم الراحل جمال عبد الناصر نموذجا. وهذا الوعي ليس جديدا فقد بدأت ملامحه منذ حرب تشرين عام 1973، فعلى الرغم من الانتصارات التي حققتها في أيامها الأولى على الجبهتين المصرية والسورية، فان الشارع العربي قد تردد في تأييد هذه الحرب وشكك في أهدافها ودخل في نقاشات جدية حولها وفيما إذا كانت حرب تحرير أو حرب تحريك من اجل الوصول إلى تسوية سياسية مع العدو الصهيوني. بمعنى أدق فقد انتقل الشارع العربي من حالته العفوية لجهة التحرك الفعال إلى حالة من الوعي استدعت التريث في كل خطوة يخطوها بهذا الاتجاه
ترى هل تكفي هذه العوامل لتحول الشارع العربي إلى حركة واعية ومنظمة تلقائيا نتيجة التراكم فحسب؟ ام ان المطلوب عمل جاد وملموس ومجدي وعدم ترك هذا الأمر الى التوقعات الافتراضية التي لا تستند الى الواقع وحركته ؟
لا بد إذن من القيام بدورنا فيما يحدث من حولنا وما سيحدث في المستقبل القريب وندرك بان هذا الدور مرهون بالعمل الجاد والبحث عن شروط هذا التحول وهي في جوهرها رؤية تقوم على اسس الاستشراف على قاعدة المنهج العلمي الذي لا يترك الباب مفتوحا للاحتمالات التي تخيب في معظم الاحيان ويوفر في نفس الوقت القدرة على تفسير الوضع الراهن استنادا الى اسبابه الواقعية الملموسة والمحددة بعيدا عن اي حسابات لا علاقة لها بالواقع او ترتبط معه باية صلة، وكل هذا يمكننا من امتلاك مقومات تطور هذه الشروط كما يمنح دورنا المطلوب وضوح في رؤية اهدافنا وكيفية التعامل مع ظروف هذه المرحلة ويرسخ بالمقابل وعينا والتزامنا بالحقوق المشروعة وسبل تحقيقها. ولكي لا يطول بنا الحديث ولا يتشعب، فان هناك ثلاث مهام اساسية لابد من انجازها.
الأولى هي العمل على خلق حركات سياسية تقدمية قوية وتحت قيادة مؤهلة وقادرة على الفعل وتتمتع بخبرة حقيقية بالعمل النضالي والكفاحي والتضامن الجماعي والتحركات الجماهيرية ولديها الاستعداد للتضحية والفداء ولا تخشى في الحق لومة لائم، فاذا كانت الجماهير العربية في كل قطر غير قادرة على إسقاط أنظمتها المتعاونة مع العدو، فأنها بكل تأكيد قادرة على إسقاط القيادات السياسية المترهلة من حياتها خاصة وأن هذه القيادات لم يعد من هم لها سوى خدمة مصالحها الفئوية الضيقة.
الثانية هي العمل على تأسيس مشروع وطني وقومي ينسجم مع طبيعة المرحلة ويرتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهها امتنا العربية، مشروع مشترك لجميع الأحزاب والمؤسسات الوطنية من حركات شعبية أو يسارية أو ناصرية أو اشتراكية أو شيوعية، مشروع يدعم المقاومة العراقية باعتبارها رأس الحربة في مجابهة مخطط الغزو والاحتلال الأمريكي الصهيوني، مشروع للتحرر يسند المقاومة الفلسطينية، ويسند قضيتها الوطنية وبمكنها من تحرير كامل التراب الفلسطيني، مشروع للتحرر من ربقة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية، مشروع يحاول أن يبني دولة الاستقلال ويؤسس لبرنامج تنموي يُخرج مجتمعاتنا العربية من دائرة الفقر والجهل والمرض.
وتتجسد الثالثة في تحديد وسائل النضال بكافة اشكاله ضد الحكومات العربية المتواطئة مع العدو بما فيه الكفاح المسلح وأيضا ضد الغزاة والمحتلين، فالحكام العرب لن يتنازلوا عن السلطة طواعية او يقبلوا بمشاركة شعبية في السلطة والقرار، والتحالف الأمريكي الصهيوني سادر في تنفيذ مخططه الغادر ولن يتراجع عنه طواعية او من خلال تسويات سياسية خائبة، بمعنى أدق فأنه ليس هناك من حقوق وطنية وقومية يمكن تحقيقها مجانا دون الكفاح والنضال المضني والتضحيات الجسام.
لم يعد هناك عذر أو مبرر يمنع هذا التوجه مهما كانت آلة القمع للأنظمة العربية قاسية وشديدة، فهي مهما بلغت من القسوة فأنها لن تصل إلى حجم آلة المحتل القمعية في العراق حيث هناك 160 ألف جندي أمريكي و200 ألف مرتزق إضافة إلى قوات إيرانية بلباس مدني ناهيك عن المليشيات المسلحة من عرب وكرد يتجاوز عددها مئات الألوف، ومع ذلك فالمقاومة العراقية تحقق الانتصار تلو الآخر ووضعت هذه الجيوش الجرارة في مأزق حرج لن تخرج منه إلا بالانسحاب الكامل غير المشروط أو تواجه هزيمة منكرة.
ترى هل نحن على موعد مع شارع عربي مقاتل؟
10/3/2008