(الغي والغي الآخر): مدخل شيطان أم قبس الرحمن؟!

أيمن اللبدي / نائب رئيس تحرير صحيفة (الحقائق) والمشرف العام على (الحقائق الثقافية)

ذه الأيام أصبحنا نرى العُجاب وهو على وزن فُعال، وظني أنه لم يعد هناك من شغل لأفعل التفضيل العربية، وانتهى مفعول الصيغة (أفعل)، وتوقفت القدرة البلاغية عند ما قدمته فضائية "الجزيرة" القطرية قبل ليلتين ونيّف، في برنامجها الذي كان رافعة لها لما اختارته من منهج ونهج منذ بدأت وهو برنامج "الاتجاه المعاكس"، وهكذا أدرك شهرزاد الصبّاح، فسكتت عند الكلام غير المباح.

لا لزوم اليوم للقول عن هذه الواقعة بأنها كانت مصيبة ومأساة، وأترك لسماحة العلامة يوسف القرضاوي، المساحة الكبرى لينير لنا بين الظلال خطى فقه الموازنة، بين أخفّ الضررين، وأوقع الشرّين، فالمسألة اليوم تبدو أنها بحاجة لحملة لا تلاحق الدنمارك وأبقارها السّمان، فهناك ما هو في داخل "الحظيرة" من أثبت أنه يحتاج قليلاً من المراقبة، وأذكر دليلي هنا من واقع النص لا من واقع اللصق والقص.

لا يوجد في هذا العالم الإسلامي الكبير، من لم يقرأ حديث المصطفى عليه السلام مؤدباً، لا يسبُّ الرجل أباه، وفي الحديث (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه)، ولكنَّ بعضاً ممن هم تحت السمع والبصر، طال على الناس الدهرُ في الطرب لفعلهم، فأورث شبهة في حسن السمع وجودة النظر، فغضّوا الطرف، حتى جاءنا من قبل فعلهم في نبينا وديننا القذف.

إنَّ الدعوة أمرها عظيم، في مطلق الأحوال أكانت دعوة دينية أم دعوة دنيوية، ولأي غرض من الأغراض النبيلة كانت، وفي أيِّ معرض من الأغراض الجليلة قامت، ومثل هذه الغايات لا تكون دون رفعة وسموٍّ ورقيٍّ في الأدوات، وهذا معلّم البشرية محمد بن عبد الله النبيِّ الأميِّ، كم أخذ أعرابيُّ بتلابيب ثوبه وصاح فيه مشككاً، (أعطني مما أعطاك الله يا محمد)، فماذا كان فعله؟ هل استأجر نائحة أو نادبة! وهل قام عليه بالسوط والكرباج؟! لا وحاشاه أن يفعل.

في فهم طبيعة الأخطاء وعلاجاتها، كان الإنسان المعلّم للبشرية جمعاء، يفهم ويقدّر فيتصرّف، هل من شهد له ربه بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) يحتاج أن نزيد فيه؟ لا والله، لكنها الأسوة بالأسوة، يقوم الرجل في مسجده صلى عليه وسلم ربه بائلاً، فيمنع أصحابه أن يهبوا له قاطعين عليه عوز الحاجة البيولوجية القاهرة، ويعلم في أمر (صاحب الحاجة أرعن)، فلا يسمح للرعونة أن تأتي تحت سمعه وبصره، فأين ما نراه اليوم من أدوات الدعوة المدعاة؟

سلام عليك يا أبا القاسم، وأنت تقول لحسان بن ثابت (ارم عنا)، فما قصدت أن يلوك أعراض الناس ولا مواطن حرمتهم، وكنت إلى الحفاظ عليها أقرب وأكثر حرصاً عليها منهم، بل حرصت أن يكون الدفع بتبيان الزلل في الرأي والاعتقاد، من غير اهتزاز في مستوى الخلق ونقاء اللسان، صدّقت الجوارح القلب، فما خرج عنها ما يتهم في أي زمان وأي حدب، قدوة في التعليم وقدوة في البلاغ وقدوة في الذود عن البيضة والحرمات.

هل تحتاج الدعوة لشتّامين وسبّابين، فضلاً عن أن تستقدم بين يديها من هو بالمصلحة والقصد من فئة الرعناء؟ فإن حدث وجرى الخطأ والسهو في التقدير والإعداد، أفلا يكون هناك من متسعٍ لتدارك هذه الفجيعة طيلة فترة العواء والنباح التي استمرت بما أمكن للقاذفين أن يقذفوا!، كيف ذلك وفي شأن عروض أقلّ خطراً ووزرا يقوم المذيع باقتلاع حناجر القافزين لو خطوة واحدة في غير المرغوب؟ هل مثل ذلك إقرار بسوء التقدير أم خبث التدبير؟

لعمري إن ما طال الدين والدنيا الإسلامية، وما أصاب عرض رسولنا وكتابنا وأمرنا، من خلال هذا الذي ظهر جلياً من خلال هذه الواقعة الجلل، عذر أقبح من ذنب وتبرير أشنع من فعل، باب مسلك اعتاد بدلاً من اليقين في وصول الأمر إلى (الرأي والرأي الآخر)، استبدالاً إلى أقبح ما كشف عنه (الغيّ والغيّ الآخر)، تهافت في المنهجية كشفها ضعف المهنية، ولم ينهض النصح لها بها عن فسطاط اللاعبين بمشاعر ووجدان الأمة، فكيف تبرأ الوسيلة بعد أن سمحت بالخوض في عرض رسول الله وكتابه!

ليس الاعتذار بكافٍ، فالاعتذار يلزمه التوبة عن أصل الفعل الذي أدى الانزلاق فيه إلى هذه المصيبة، فإن حملناها على سوء التقدير ووجدنا على قاعدة (جد لأخيك عذراً) لها الأعذار، ألزمها اليوم التوبة والاستغفار، وتعديل السلوك في استضافة السباب ومسالك الذباب، والبحث في طريق آمن لتوصيل متعلق الصواب وجوهر المفيد من الخطاب.

إنها علامة رسوب ضخمة بحق بعض المنهجية والمسلكية، هذا إن أحسنا الظنَّ بالدافع والطوية، أفلا يكون هذا داعياً نحو تغيير وتصويب، يعقب الاعتذار والنحيب؟ سؤال في ذمة القائمين عليها، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، كما إن السمع والأبصار والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا.

[email protected]