الأريحية ُالعربية ودورة فصول الأحزان...!!!
بقلم: د. محمد علي الحايك (أبو تمّام)
خلال رحلة داخلية في أعماق الروح تزامنت مع زيارة بوش إلى المنطقة العربية، وقعتُ في براثن إحساسٍ عارمٍ بالقنوت، لأن أياماً طويلة من الخيبات بدأت تسيطر على ذاكرتي المعطّلة، لقد استبد بي الخوف بعدما تناولت خبزاً بلا طعم وقهوةً بلا رائحة وزهوراً دون عبير، انتابني القلق والأرق الملازمان لهواجس الزمان والمكان، لكن سرعان ما رجعت إلى الطمأنينة والهدوء، لأجد نفسي في أحضان زمنٍ صار فيه العيشُ بذلٍّ هو الأسلم.
مرة أخرى تحركت الأرضُ من حولي معلنةً ما تيسر لها من الغضب، وأرسلت الأشجار والجمادات إيماءاتٍ مبهمة، فهمت منها شيئاً وجهلت أشياء..!!
ووجهاً لوجه وقفتُ أمام المرآة وفي الحلق ألف غصةٍ وغصة متسائلا: هل نحن مخبولون أم مسطولون أم أن الشرف العربي الرفيع قد سلم من الأذى تماماً دون إراقة دماء؟!
عندما اتخذ العرب "السلام خياراً استراتيجياً" وسلّموا مفاتيحه لمبعوث العناية الاستعمارية الإمبراطور جورج بوش الثاني في "أنابوليس"..!!
وعلى موائد الإذعان في "أنابوليس" تحشرجت الأوراق بين يدي الوفود، بعد أن تشربت بإعلان "الدولة اليهودية" وتصفية القضية الفلسطينية، لكن الأمور عادت إلى طبيعتها في غرف التطبيع العامرة بكل صنوف الإغراءات والإملاءات والتنازلات، وحتى لا تضيع الصورة أو تختنق ألوانها، فقد قرر الإمبراطور أن يشرب نخب نجاح المؤتمر من نبيذ الشتاء المعتق في البلاد العربية، وقتها صفق المؤتمرون وعلت أصواتهم: "يا هلا بالضيف"..!! على الفور تذكروا كرم جدهم حاتم الطائي، متناسين بأنهم وحاتم ليسوا ذريةً بعضها من بعض..!!
ولأننا نضاجع آمالاً لا تنجب إلا الوهم، فقد فعلها ذلك البوش المجبول بماء التشفي والانتقام حين بدأ زيارته "الميمونة" إلى "المنطقة" العربية بعدو الأمس وصديق اليوم "أولمرت" في القدس المحتلة، ومن هناك حوّل كل الأماني وأحلام اليقظة إلى سراب يحسبه الظمآن ماء، بإلغاء القرارات الدولية و"الشرعية الدولية"، فعادت دورة فصول الأحزان من جديد إلى الحدود والقدس والدولة وحق العودة، وصمت الجميع صمت أهل القبور..!! ثم عرّج على "رئيس سلطة أوسلو" الذي اعتز أيّما اعتزاز بهذه "اللفتة الكريمة"، ورغم انشغاله برسم خرائط مفاوضات الأوهام فقد أشاد بحكمة بوش وعبقريته وشجاعته الفائقة عندما حرّضه على عدم التصالح مع (حماس) وعدم الحوار مع "الإرهابيين" وتركهم وحدهم يلاقون مصيرهم تحت الحصار، وساد الصمت والذهول وتوضأ المجاهدون بماء الخوف في الأراضي المحتلة لأن "أبا مازن" غيرُ خجلٍ من غفلته أمام بوش، و(حماس) غيرُ نادمة على انفرادها بغزة..!!
ومن هناك شد الضيف الكبير الرحال إلى مناطق النفط في الخليج، حيث أطلق عرب الخليج العنان للأفراح و الليالي الملاح، وبلغت الاحتفالات الكرنفالية ذروتها بالاستقبالات الخيالية لـ"الحامي" و"الحليف" و"المحرر"، تقرع الطبول، وتنحر الذبائح ويلعب الضيف مع مضيفيه السيف والترس، ويمارس الدبكة في جو من الأحضان الدافئة والقبلات المتبادلة.
وهكذا عشنا مع الضيف أروع الساعات وأحلاها فرحنا: نفتش عن قصائدنا، وعن ألوان فرحتنا وعن شوق يحررنا من الأعباء والشمس، نؤجل حلمنا الآتي على أنفاس موجاتي، على نبضات أغنيتي، على أنات آهاتي..
لطلعته ندبُّ الصوت:
لا أرضاً ولا قدساً ولا عودةْ
ولا قلباً ولا دمعاً ولا أحزان َمتقدّةْ
ولا صمتاً ولا غيماً ولا أمطارَ متحدةْ
ولا درباً يقربنا ليومٍ اسمه الوحدةْ
وللتاريخ فإن الضيف الهمام لم يقصر برد الجميل على كرم الضيافة العربية التي بلغت حداً من الأريحية لا يجارى، فراح يمطرنا بما فتحه الله علينا من وعود نزلت برداً وسلاماً على قلوبنا، من مثل: إن القوات الأمريكية ستبقى في العراق حتى آخر برميل نفط، و حتى آخر عراقي يبقى على قيد الحياة، سوف يطلق المفاوضات المفتوحة إلى آخر مدى بين "أولمرت" و"عباس"، حتى يعود عباس بن فرناس من رحلته ويطير فوق فلسطين، سيدعم "باراك" إن قام بحرق الأخضر واليابس في غزة ورمي رمادها في البحر، سيواظب على إشعال فتيل "لفوضى الخلاقّة" في السودان، والفوضى الفلاقّة في الصومال، والحرب الأهلية العملاقة في لبنان، طال الزمن أم قصر، سيحارب إيران لأنها صارت العدو الأوحد بعد الشيوعية وإسلام طالبان...!!
وفي ختام الزيارة لم يفته واجب السلام، فمر على مصر مرور الكرام إمعاناً في تهميش دور مصر الكبيرة واختزالها باستراحات الاستسلام في شرم الشيخ..!!
وكان ما كان بمشاهد أقل ما يقال فيها (لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وسلام على شيء كان اسمه الأمن القومي العربي..!!
وحسبي الله ونعم الوكيل..!!
دمشق في 28/2/2008م