طواحين الفرقة.. بين محرقة غزة والوحدة العربية...!!
بقلم: د. محمد علي الحايك (أبو تمّام)
في زمنٍ حوصرت فيه الشمس بشهوة الحقد والانتقام، فغاصت في الغروب إلى رحم البحر الذي جففته توحشات العولمة، وغاب القمر عن دنيا الساهرين، لينام الليل الذي استبدت به غطرسة القوة وفجور الهيمنة على غابات النخيل في أحضان دجلة، وشوارع بغداد وأرصفتها المفجوعة، وفروع النيل والعاصمة المثلثة في الخرطوم، والطرقات المحزونة في أرجاء الصومال، وشواطئ الخليج العربي وقواه المقهورة بالقواعد، وعلى ذرا جبال الأرز في لبنان، وبساتين الزيتون في الضفة وبيارات البرتقال في غزة التي أدمنت دورة الخراب والدم بعد كل دورة جهاد، يقوم (باراك) ومعاونوه بإحراقها جهاراً نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد، دون أن يرفّ جفن للعرب الأشاوس الذين ينفذون تعليمات بوش، يعتصمون بالصمت ثم يطلقون العنان للعقلانية والحكمة والاعتدال والسلام، يموت الأطفال والشباب والشيوخ في المنازل من البرد مرة، ومن الطائرات مرة ً أخرى فينام الأعراب ملء عيونهم والأحلام السعيدة على وسادة واحدة، تمُّر مشاهد القتل والدماء ومواكب الجنازات والشهداء أمام عيونهم على الشاشات الفضائية فيغطّون في نومٍ عميق لأن الموضوع لا يعنيهم، تمزّق النسوة أثوابهن وهن يستصرخن الأخوة وأبناء العم: واعروبتاه، وا إسلاماه، وامعتصماه..!! لكن العرب والمسلمين صنعوا أذناً من طين وأخرى من عجين، لا أحد له علاقة بالعروبة أو الإسلام، فقد تحوّلت قبلتهم إلى واشنطن وحجّهم إلى البيت الأسود الأمريكي..!! والمعتصم يرحمه الله قد شبع موتاً دون أن يفصح عن سرّ تلك النخوة في سيفه وعظمة تلك المروءة في قلبه..!!
صار الموت في القطاع قطاعاً عاماً يشرب من كأسه الجميع وتتداوى به الجموع عن طيب خاطر، لأن طواحين المال قد حولت العربان إلى عبيد للدولار ووجوههم إلى قطع من الخشب مثلما حولت طواحين الفرقة مبادئ النضال ومنظمة التحرير ومنظومة القيم الكفاحية والوحدة الوطنية الفلسطينية إلى هشيم تذروه الرياح ولسان حال فلسطين يقول: (أضاعوني وأيُّ فتىً أضاعوا..)
عندما عصفت رياح الشتات والضياع بالمنطقة العربية من كل جانب ادلهمّ الليل بالاختناق كقصيدة أنهك قواها لهاثُ القوافي، فأحرقتُ كلّ القصائد من حولي لعل نجوم السماء المتألقة في عليائها تمطرُ قصائد خالية من الدمع والبكاء والصمت المفجع والدماء..!!
بعد هذا العناء في ظلمة ذلك الليل العربي رحت أبحث عن الصباح في الحقول التي زرعنا فيها سنابل أشواقنا، وفي الدروب التي نشرنا حولها قناديل أفراحنا وفي الموانئ التي توهجت منارتها من دماء فتوحاتنا..!! سألتُ صمت الليل عن شجون السنابل ودموع القناديل ودماء البحارة ؟!..
وفجأة ألقت الذاكرة على صدري أردية الانتظار فغفوتُ على أنين أسئلتي لأصحو على هدير شلال من الضوء يتدفق من أصوات المآذن ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر فوق كيد المعتدي، والله للمظلوم خير مؤيد)).. وراح هذا النداء يغسل أوجاع الناس، يطهر أحزان الأرض، يرتقي بآمال الأمة، يفتح الطريق إلى بوابة الكرامة ونوافذ الأحلام وشمس الحرية وذكرى الوحدة التي مضى على قيامها خمسون عاماً دون أن يتذكرها أحد، فلا وسائل الإعلام الحكومية ولا القنوات الفضائية ولا المجلات الشهرية والدورية، عدا بعض المقالات التي راحت تبكي الوحدة بدافع الحنين إلى زمن الكرامة مثل بقايا الماء في السواقي تسير متعبة في الطريق إلى أنهارها..!! وحتى أبناء المشروع القومي العربي النهضوي لم يعطوا هذه الذكرى حقها بتوحيد قواهم في مواجهة جبروت عدوهم، بل مجدوا الذكرى دون أنه يفعلوا شيئاً يذكره التاريخ لهم، ويبدو لي بأن أكثرهم ينتظرون عبد الناصر من جديد يفعل لهم كل شيء وهم جالسون في بيوتهم، لكن عبد الناصر الجديد لا يأتي إلا من خلال حراك شعبي وقدمي، ومن مخاض حركة عربية واحدة جامعة وهو القائل: ((إن الخائفين لا يصنعون الحرية، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء))..
دمشق في 6/3/2008م