من سيدني إلى بيروت
ميشال حديّد / سيدني - استراليا
الثالث عشر من شباط 2008 كان يوماً تاريخياً وشاعرياً في أسترالياً.
كان يوماً مخصصاً للاعتذار إلى "الأبوريجينال" السكان الأصليين، ويوماً للمصالحة الوطنية الشاملة وذلك من خلال 361 كلمة ألقاها ممثلون عن الكتل النيابية الفيدرالية إضافة إلى كلمة ممثل "الجيل المسروق".
قصة "الجيل المسروق" بدأت العام 1869 وانتهت في العام 1969.
على امتداد مئة سنة، كان السكان البيض ينتزعون الأولاد من ذويهم الأبوريجينال بموجب قوانين تمّ تشريعها في البرلمان أو حتى بدونها، إلاّ أن السكان الأصليين يؤكدون أن المأساة بدأت منذ العام 1806، وامتدت نحو 163 عاماً ما يعني أن هناك "أجيالاً مسروقة" وليس جيلاً واحداً.
رئيس الوزراء الفيدرالي (كيفن راد) الذي كان صاحب المبادرة، ردّد في خطابه كلمة "الاعتذار" ثلاث مرات، والاعتذار هنا يعني "التوبة" أي "لن نعود إلى أعمال الماضي الشنيعة".
هل في لبنان سياسي واحد اعتذر إلى الشعب اللبناني واستغفره عما لحق به من تضحيات ومظالم واقتلاع وتهجير؟
على العكس، لقد سمع الناس في حفلة 14 شباط الخيرة كلمات تدعو إلى الطلاق بين اللبنانيين وتحضّ على الحروب وارتكاب "أعمال الماضي الشنيعة" مجدداً.
***
خلال مرحلة "الأجيال السليبة"، كان السكان البيض الاستراليون يتخمون المجتمع الأبوريجينيل بالمخدّرات والكحول بغية قتل قدراته الذاتية الواعية والإبداعية ودفعه إلى الضياع ومن ثم التلاشي والاضمحلال.
في لبنان، حلّت السياسة محل المخدّرات والكحول لتؤدي الغرض نفسه، لقد سيّسوا "البشر والحجر".
أصبح المواطن اللبناني مدمناً على السياسة ومعانياً منها في الوقت نفسه حتى قيل أنه "مريض" بالسياسة ومنها أيضاً.
هل هناك احتراف سياسي؟
لا.. هناك فقط "مرض سياسي" أو "داء سياسي" من النوع البكتيري والجرثومي المتفشي.
المواطن العادي يفهم السياسة على أنها "تحزّب"، تزلّم"، "تعصّب" ، "بالدم بالروح نفديك يا مولانا".
***
القادة الروحيون في لبنان أصبحوا مدمنين على السياسة كأداة للحرتقة والكيدية والابتزاز كأنهم "أولياء سياسيون" أولاً وأما الدين عندهم فلا نعرف في أي مرتبة يحل.
الموعظة الدينية باتت لا تكتمل بدون تطعميها سياسياً وبشكل تحريضي في أكثر الأحيان، وعندما تبدأ الاشتباكات بين "فتيان الأزقة" وتهدّد باجتياح الأخضر واليابس كترجمة عملية وميدانية للمواعظ الدينية التحريضية، يغسل القادة الروحيون أياديهم من دم الصدّيق.. إنهم "بيلاطسيون" إلى أقصى الحدود.
ألم يقل السيّد: "حذارِ من خميرة الفرنسيين"؟
***
السياسة، عملياً، ليست صراعاً بين "الممكن واللاممكن". السياسيون المحترفون عقّدوها كثيراً لتكبير هالتهم.
مرة تحدّث "دنيس روس" عن "الشعوب المقطورة" قال "أن ثمة شعوباً هي كالعربة التي تجرّها الأحصنة، تلحق الأحصنة إلى حيث تذهب الأحصنة"، اليوم، كل الشعوب أصبحت مقطورة بواسطة الثورة الفضائية.. بواسطة الإعلام لاسيما التلفزيون، وأما سياسة التلفزيون فهي "التنويم المغناطيسي الجماعي" تماماً مثلما تحدّث مخترعه الأول لدى تقديمه للجمهور.
السياسة، على الصعيد الوطني المحلي، هي احتواء الحالات المأزومة الناتجة أصلاً عن فشل السياسيين، والانكباب على معالجتها قبل أن تستفحل ويقع ما لا يُحمد عقباه.
وعلى الصعيد الخارجي، هي تشابك مصالح ومناطق نفوذ إلى حد الهيمنة النسبية أو الكلية.
هذه، بمختصر مفيد، هي سياسة الحياة، أما سياسة الموت فقد تبدأ بالفوضى الهيغيلية المنظمة ولا تنتهي بالحروب والتوسعات والسيطرة اللامحدودة على العالم.
لبنان كبلد صغير "لا جمل له ولا ناقة" في حروب التوسّع والسيطرة، ولا طاقة له على احتمال ذلك، فلماذا تعقّدت سياستنا المحلية؟
صحيح أن التدخلات الخارجية عملت على تعقيد سياستنا المحلية، لكن الصحيح أيضاً أن السياسيين اللبنانيين حوّلوها فناّل "الخوذقة" والاسترزاق، ونكران الآخر، والسرقة المفتوحة، والنفاق والتكاذب.. ناهيك عن سياسة "المحاصصة" و"المحسوبية" و"الطائفية" و"حكّلّي ت حكّلّك"، أما سياسة "التخوين" بالفرق والجملة.. فحدّث بلا حرج.
***
الأحزاب السياسة الراقية في العالم تعتبر "المثاقفة" "نقطة الارتكاز"، و"الإقناع" لغة العقل لا لغة الإكراه والبطش.
لكن أحزاباً لبنانية كثيرة تعتبر السياسة عملية "بيع وشراء".
شعارها الأول:" من بعد حماري ما ينبت حشيش".
فأين موقع المواطن المسكين في هذه السياسة وما مصيره، وما نوعية الثقافة التي يتلقاها يومياً من تلك الأحزاب؟
فنتصوّر أن سياسة البعض في لبنان افترضت إلغاء المجلس الدستوري كي يحافظ ذلك البعض على أكثريته النيابية، وكي لا تكون هناك مساءلة دستورية حول قراراته ومراسيمه السلطوية، وفي ظل هذا الوضع الأسود، ماذا بقي للناس من حقوق وحريات وكرامات؟