أي مستقبل للعرب مع الاحتلال الأمريكي للعراق؟

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

مضت خمس سنوات منذ سقوط بغداد كانت كافية ولا شك لتقدم عينة عما يكون، وسيكون عليه مستقبل العرب، وليس العراق وحده، فالغزو الأمريكي لم يسقط النظام الحاكم، بل أسقط استقلال العراق كدولة، وشرع في تفكيكه ككيان سياسي تاريخي راسخ الجذور والفروع، وكمجتمع إنساني عريق في صناعة الحضارة والمدنية لذاته، وللبشرية.

لقد وصف الاستعمار الأمريكي نفسه بأنه "حامل وناشر للفوضة البناءة"، لكنه أثبت حقاً أنه حيثما تحل وحوشه، يحلّ الخراب والموت.

خمس سنوات مضت على تمادي الوحشية الأمريكية، فكانت بمثابة إعادة تكثيف القرون الوسطى بكل فظائعها الدموية والسحرية والخرافية، لم تبقَ ثمة وسيلة أو نظرية في علم (الأنثروبولوجيا) التخريبية، المتفوقة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، إلا واتبعتها أجهزة الاحتلال في تمزيق النسيج الاجتماعي والبشري للشعب العراقي.

خمس سنوات من إقامة دولة الإرهاب الأعلى النموذجي، لم يسجل الإعلام العالمي خلالها إلا أقل العناوين والكلمات والأرقام عن أهوالها المنظمة، غير المسبوقة في مسيرة المذابح الجماعية الكبرى المشهودة في ظلام التاريخ ماضيه وحاضره معاً.

لقد حملت هذه الأهوال كل الأسماء المحلية: من "شيعية" و"وهابية" وكردية وسواها، إلا أنها كان لها الاسم الأمريكي الواحد والجامع، والبقية هي مفرداته وفروعه المطبقة على الحوامل الموضعية للطوائف والمذهب والعروق والأحزاب.

كل مجزرة ارتكبها هذا الاسم الفرعي أو ذاك، إنما هي نسخة جديدة عن الأصل الأمريكي، ذلك هو المدلول الوحيد للقانون الدولي نفسه الذي يجعل المحتل العسكري مسؤولاً عن أمن البلد الخاضع له، فالتوصيف الثقافي أو الرصد العلمي لوقائع الاحتلال ومفاعيله على الأرض، وإن لم تسجله ذاكرة توثيقية معترف بها على مستوى ما يُدعى بالمجتمع الدولي، لكنه يظل من مسؤولية هذا المجتمع مهما تعامت مؤسساته عن التقاط الفظائع وقت وقوعها، فالتعامي عن الجريمة مشاركةٌ فعلية لمرتكبيها، وتلك هي حقيقة تمتّ إلى ثقافة الحق العام، ولا يمكن إنكارها أو التنكر لتفاصيلها إلى الأبد.

من ظواهر هذا الإنكار المشبوه أن الإعلام الغربي يختلق البديل عن هذه المسؤولية أو التذكير بها على الأقل، بطرح الأسئلة إن كانت أمريكا قد نجحت أو لم تنجح في احتلالها للعراق بعد هذه السنوات الخمس، فالعقل الغربي منشغل، منهمٌّ كل الانهمام، بقضية النجاح، وإذا استوضحنا عن المعايير التي تحدد النجاح من عدمه في هذا السياق، ليس هناك من إجابة واضحة، إلا إذا كان المقصود هو مدى (استقرار) الاحتلال، أي إنجاز حال الاستسلام الكامل من قبل الشعب العراقي للقاهر الأجنبي المسيطر على ربوعه، فالنقاش الدائر بين ساسة الغرب وأمريكا ورجال الإعلام حول المعضلة العراقية قلَّما يتطرق إلى الجذور الشرعية لهذه المعضلة.

حديث الأكلاف المادية لا يتناسى فقط الأكلاف البشرية من جند الاحتلال، والتمييز بين الأرقام المعلنة رسمياً وسواها المكتومة، بل كطريقة أخرى لتجاهل ضحايا الطرف الآخر، الذي هو الأغلبية العظمى من الشعب المتضرر يومياً في كل شيء من ظروف حياته الطبيعية الفاقد لأبسط شروط العيش الكريم، بل مجرد البقاء.

متى (ينجح) الاحتلال الأمريكي، عندما لا يستسلم العراق للغزو العسكري وحده، ولكنه عندما يستسلم إلى مصير القضاء المبرم على امكانية الاستمرار إلى ما بعد الاحتلال، بمعنى ألا يتبقى هناك عراق، بل مجرد مستعمرة أمريكية كان لها اسم العراق.

ذلك هو المعيار الأخفى المسكوت عنه في حديث النجاح والفشل، فالتواجد العسكري الأجنبي قد يستولي على الخارطة الجغرافية، دون إحراز التقدم المطلوب في السيطرة على الخارطة البشرية، هذه البدهية في ثقافة الاستعمار الأوروبي القديم، لم يتعلمها جيداً الاستعمار الأمريكي، لذلك اشْتُهر عنه تخصُّصه في فن إبادة الشعوب المستعمرة، بدءاً من نموذجه التأسيسي في إبادة الهنود الحمر، إلى محاولته المستميتة في إبادة فييتنام وصولاً إلى لحظة قراره الراهن في إلغاء العرب والإسلام.

كانت البداية في الانقضاض على المشرق العربي، وتجويف جسده السياسي من جذعه الذي يؤلفه الكيان العراقي، تلك هي الخطة الأشد خبثاً من بين كل تجارب المشرق مع الاستعمار الأوروبي السابق، إذ سوف يتم حصار المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية، التي هي الأكثر حيوية مركزية، في صنع الحضارة العربية الإسلامية ماضياً، كما هي حاضراً الأغنى بمواردها النهضوية من مادية وبشرية معاً، حصار المشرق بين "إسرائيل" في واجهتها البحرية، و"إسرائيل" الأمريكية الأخرى خلف ظهرها، المراد لها أن تخلف عراق الحضارات والعروبة منذ فجر التاريخ.

ومن دون العودة إلى الأدوار المدنية الكبرى التي لعبتها ثقافات بلاد ما بين النهرين، وكونها تكللت باحتضان النهضة العباسية التي شكلت كونية الحضارة العربية الإسلامية، فإن عراق اليوم صَنَعَ من ذاته خزان النهضة العربية المعاصرة، وعلى هذا الأساس فالغزو الأمريكي، وكما أثبتت خططه التدميرية لكينونته البشرية والثقافية عبر هذه السنوات الخمس من الإبادة الجماعية المنظمة للبشر والحجر معاً، يستهدف تعطيل هذه الوظيفة الحيوية الأزلية كمستودع لطاقات النهضة العربية في شتى تحققاتها السياسية والفكرية، وعبر مختلف انعطافاتها البنيوية سواء نحو الازدهار والتقدم أو الانتكاس والتردي، وهي تلك الانعطافات التي كان لها تأثيرها الحاسم على الصيرورة العربية ككل.

إنه الغزو الأمريكي الذي يتطور إلى احتلال لا نهاية له بالرغم من تعاظم تكاليفه من كل نوع التي تُضاعف من أسباب انهيار المشروع الإمبراطوري الأمريكي، كأنما أمسى، هذا الاحتلال المتمادي هو الرهان المصيري على بقاء هذا المشروع أو عدمه، بمعنى أن مؤسسة الحكم التي لا تتغير استراتيجيتها مع تناوب الرئاسات في البيت الأبيض، قد جعلت من الاستيلاء على العالم العربي، انطلاقاً من السيطرة الكاملة على مشرقه، من عراقه وخليجه وصولاً إلى بلاد الشام، جميعها، بمثابة المعادل لنجاح المشروع الإمبراطوري بالنسبة لمستقبل الدور الأولي لأمريكا في توجيه مستقبل العالم، والتحكم في تطوره المادي والمعنوي معاً، هذا بالرغم من كل أشكال التعثر والإخفاق التي يواجهها الاحتلال في معاركه اليومية مع المقاومات العراقية المتنوعة، ومن تخبط إدارة الاحتلال في إنتاج أية أنظمة حكم سياسية مستقرة، وتكون حاجبة لمؤسسة الاحتلال ذاتها، دون أن تخرج عن سلطتها غير المباشرة، كما يتصور مخططو النهج البقائي العسكري والسياسي، ولكن بلا طائل طيلة هذه السنوات الخمس من تراكم التجارب السلطوية الفاشلة، حتى أمسى الاحتلال أشبه بالمصيدة الحقيقية لأصحابه، أكثر مما هو لضحاياه، فلا هو قادر على إحراز تقدم في خططه وأهدافه، ولا هو قادر على الانسحاب الكلي أو الجزئي من مغامرته البائسة تلك، وهذا ما يتضح بجلاء من عجز مرشحي الرئاسة عن طرح برامج معينة بشأن المستقبل الأمريكي المتوقف على مصير الإمبراطورية العسكرية بدءاً من المستنقع العراقي، ذلك المصير الذي يساوي ما بين النصر والهزيمة معاً، ودون التمكن من أحد النقيضين هذين، إلا ومعه أشباح الآخر وأكلافه.

لقد احتال عقل الاحتلال على الإقرار بالانكسار الكامل، باختراع النقلة المشؤومة للحرب من صيغة الغزو الخارجي التي تتلبَّس مختلف تصرفاته، إلى صيغة الغزو الداخلي بوسيلة انقسام الإسلام على نفسه، وجعله غازياً ومغزوّاً من بعضه ضد بعضه الآخر، يصير العراق أشبه بالأتون المتفجر، ممزقاً ذاته بذاته، وموزِّعاً شظاياه وحممه البركانية على جيرانه.

إنها حروب المائة عام الدينية الجديدة، المعدّة لشعوب هذه الجغرافية العربية الإسلامية، كيما تصبح من خانة هذا الصنف من البشر الموسومين بالآكلين لحومهم. هكذا يعثر النظام العربي الحاكم على أحدث إيديولوجيا (نضالية) لبقائه، أو بالأحرى لبقاء حطام بعضه ضداً على حطام بعضه الآخر، فمن الضروري تفصيل هذه العبارة التوصيفية الموازية لواقع التفسخ الذاتي الذي ينتهي إليه النظام العربي بتبنِّيه الأعمى لعقيدة الانقسامية المذهبية إلى أقصى عناصرها المصطنعة المتنافية فيما بينها، إنه العيش الذليل الكئيب على معاييرها القروسطية، كبدائل شؤمية عن استراتيجية الأمن القومي وأكلافها المدنية العامرة.

الاحتلال يشعّ حوله احتلالات قد لا تكون كلها عسكرية، لكن تجويف المشرق من جذعه العراقي، جعل بقية أعضائه أو أقطاره أشبه بشظايا معلقة في فراغ من انعدام الجاذبية المركزية، هذا الوضع المتهالك دفع بأكثر حكام الجوار العراقي إلى التعويض عن الخوف من الاحتلال وإشعاعاته السوداء فيما حوله، بالتهافت على الاصطفاف إلى جانبه، بين يديه، بل تحت قدميه، أي بحسب طواعية كل قطرٍ ومدى شهواته في الاستتباع والانبطاح، وبما يمتلك من ثرواته النفطية، ليبذلها في شراء حصص ما من الحماية الغازية، لكن الاحتلال أثبت أنه عاجز عن حماية مستقبله هو بالذات، فإن أرض العراق تميد تحت دباباته، لكنها تفجّر براكينَها في وجه مشاريعه السياسية المتهالكة، فإن حكومة المنطقة الخضراء لن يكتب لها أن تعيد إنتاج (دولة) العراق، والأحزاب المذهبية ليست سوى أعراض المرض الاحتلالي، سوف تذهب بذهابه، ومع ذلك يجب الاقرار أنه إن كان ثمة نجاح لعربدات أمريكا البوشية فهو على صعيد المنطقة، عندما استكملت احتلال الإرادة العربية الحاكمة في إطار المشرق خاصة، وكادت أن تعصف بآخر مراكز الممانعة بين الشام ولبنان، بيد أنها احتاجت أن تشنَّ حرب تموز "الإسرائيلية" للانتهاء من التمرد اللبناني على النظام العربي الأمريكي الجديد القديم، المفروض بالتراضي أو بالتعجيز أو بالتطوع الذاتي، على معظم أنظمة المشرق، لكن هذه الحرب البائسة المجرمة أنتجت ما لم يكن في حسبان أحد من أرباب هذا النظام وأتباعه، فقد قضت على المرحلة التي عنوانها: "إسرائيل المنتصرة دائماً"، جاء انكسار "إسرائيل" في ظل الهيمنة الأمريكية شبه الكاملة على العالم العربي، بالمقابل انتعش مجدداً مبدأ الحرب الشعبية، حيثما ستضطر الجيوش النظامية نفسها إلى انتهاج عقيدة المقاومة الشعبية وأساليبها.

ذلك هو المدخل إلى التحول التاريخي، ربما الأكبر، في استراتيجية (الصراع العربي-"الإسرائيلي"-الأمريكي)، وهو الأمر الأخطر الذي سيحقق الانقلاب الاستباقي على كل (إنجازات) "المشروع الشرق أوسطي"، السابق منها واللاحق، والمتواتر في ظل الهجمة العسكرية المطلقة على المنطقة، من باب احتلال العراق وتفشي عقابيله المرة في كل محيطه للقضاء على آخر معالم الاستقلال العربي، واجتثاث مقدمات نهضته الثالثة الموعودة، حتى قبل أن يستوعبها أي فكر نهضوي عربي جديد. بالمقابل وتفادياً لاستكمال هذا التحول غير المسبوق، لبعض تحققاته السياسية الرائدة، يجري بكل عنف استعماري تآمري تجذير كل الأصول والأسباب المصطنعة لنقل (صراع الحدود) مع "إسرائيل"، إلى صراع الحدود المذهبية داخل العالم العربي والإسلامي.

من يسمون أنفسهم بالعرب المعتدلين يصرون على قسمة أمة الإسلام إلى أمتين، وينساقون فيما يشبه حرب داحس والغبراء التي مهدت إلى ظهور الإسلام لتوحيد عرب الجاهلية، فالمذهبية المعاصرة، خمينية كانت أو وهابية، ترفض كل منهما مبدأ القوة الإضافية، عندما تتحول المذهبية إلى إيديولوجيا سياسوية رافضة للآخر، وفي هذه اللحظة من تصاعد ذروة جديدة في ثقافة المقاومة الواعية، ومع بلوغ "إسرائيل" حد الاستنفاد لمرحلة الانتصارات السهلة وحتى الصعبة منها، لا يعود للإيديولوجيا المذهبية ثمة من دور في الاشتغال على يأس الجماهير، بل في إعادة اصطفافها وراء الأهداف الكلية الجامعة، وانفتاحها على ساحات بعضها، متجاوزةً جبهات الخلاف القاطع، نحو آفاق التعددية والتنوع بالحجة والرأي والسعي المخلص إلى التكامل الخصب، ذلك لن يتحقق على حد السيف أبداً، بل بالفهم المتبادل، وخاصة بالانفتاح معاً على متغيرات الواقع، والتعاون على التثمير المشترك لبوادر الصحوة الجماهيرية على قواها المكبوتة، والشروع العقلاني في استخدامها التاريخي المنتظر.