يا وطني.. انبذنا والسلام..

مريم الراوي

ونعود إلى حيث كان بداية الوجع، الألم الفلسطيني، ما أن يهدأ قليلاً ولو قسراً، حتى تصفعنا، أشلاء الأطفال النائمين بلا ذنب، نومتهم السرمدية في وداعة لا توصف وحلم لم يكتمل.. موال اعتدنا أن نسمعه ليل نهار، ألفناه كثيراً، فأصبح والصمت سواء، بكاء ونحيب عرفناه على مدى أكثر من ستين عام، فاعتدناه وأضحى نغمة مملة فصمينا حتى ضمائرنا،

واتخذنا من الموسيقى الغربية بديلاً عنه وكل نام جنب ليلاه!!

لذا لا يهم، إن اقترف البرابرة جريمة أخرى فوق جرائمهم.

لذا لا يهم، إن انتزعوا الحياة من اكف الصغار وهم يلعبون بجوار المنزل.

لذا لا يهم، إن تحولت الشموع لدموع في ليل فلسطين الكئيب المضرج بالوجع.

لذا لا يهم، إن نادى الصبي أباه: يا أبتي إني أرى ظلام يتسلق عيوني فأين أنت؟!

لذا لا يهم، إن غطى التراب قلب بالأمس كان ينبض بألف حلم وأمنية.

لذا لا يهم، إن تمزقت الملابس على حبال الغسيل، وأضحت شواهد لمن كانوا هنا.

لذا لا يهم، إن تهدم الجدار على رؤوس الصغار والكبار وعلى الصور والأثاث وعلى زهرة البنفسج التي نبتت في غير أوانها.

لذا لا يهم، ولن يهم، ولن يخطر على بال أحد أن يخرج الآن في هذا البرد المجنون، أو في الصباح أو حتى حين العصر، قاصداً شوارع الصمت، وأزقة السكوت، ليحمل لافتة يحارب بها هذا العدو الوحشي الهمجي.. فلنا إذاعات ومحطات تبث على الهواء ما يحصل من انتهاكات وجرائم وإبادة وقتل وتمزيق وحرق وتعذيب وو و و بمنتهى الشجاعة وبمنتهى البساطة تعرض كل هذا وأكثر الشاشات الملونة، وبمنتهى الفخر والاعتزاز ستستنكر، وستشجب، وستندد بقوة حكوماتنا الباسلة الحرة، فلم الاهتمام أكثر؟!

واي فلسفة تلك التي ستبرر لنا معنى الصمت وتشرح لنا، طرق التحدي وآليات الصمود وأسباب الهزيمة؟!!

مساكين نحن، وعيوننا لا تزال معلقة على أبواب التأريخ علنا نخرج يوماً من ثقوب الزمن سيوفاً وبنادق وضمائر لا تهدأ.

بائسين نحن ولا نزل نراهن على اكفنا المغروسة في خاصرة المصلوبين على امتداد الحدود الزائفة.

فشكراً لكِ أمتي، وعذراً لك يا وطني.

فجميع الفرسان غادرونا إلى حيث لا عودة، وجميع المبادئ أبيدت منذ أن لاح الصمت كخيارنا الأوحد، والحل الأنجع لنحيا في هذا الزمن.

عذراً إن نطقنا يوماً ما بشعارات وهتافات ثورية أو حماسية.

عذراً إن أخطأنا يوماً وقلنا امبريالية ووحشية واستعمار.

عذراً إن بصقنا بوجه الحكام.

عذراً إن شتمنا الملوك والأمراء.

عذراً إن تمسكنا يوماً بالسلاح.

عذراً منك يا وطني، آلاف المرات.

فقد كنا واهمين، كما أنت الآن تقف وحيداً، غريباً تصارع أشباح الغادرين.

عذراً يا وطني، أخطأنا في ألمك، عذراً يا وطني فها نحن أمامك،

نحمل نعشك،

ننتظر موتك،

كي ننشد لك،

ونخبرك، إنا واقفون جنبك.

لنكذب عليك،

ونلقي بأدمعنا في حضرتك.

لنضحك عليك،

ونقول ها هي أرواحنا فداء وجعك،

لا تصدقنا.. فنحن الناقضون لوعدك،

لا تصدقنا، فنحن الصامتون على جرحك،

لا تصدقنا، فنحن الممسكون بالمشنقة على رقبتك،

لا تصدقنا، وابصق على أرواحنا، احرق كلماتنا،

وعلى الأجساد فليحل سخطك،

يا وطني المذبوووح.

إني كفرت بجميع الشعارات وبشعبك،

يا وطني الغريب،

اقترب من جنتك، واهدينا غضبك،

لا ترحمنا، اقترف فينا أقسى الأحكام،

فنحن أحقر حتى من عدو يحتل أرضك.

انهض يا وطني،

واركل رؤوسنا الخاوية،

اصفع مؤتمراتنا الكاذبة.

قم يا وطني،

لملم أحزانك،

وامش فوق جثث الصامتين،

المتشدقين بالتأريخ وبالعشق الزائف.

تباً لنا يا وطني،

تبا للذاكرة المبعثرة

وللصواريخ المتبجحة بدقتها.

تباً..