المعتقل "جميل"..

مريم الراوي

أترى سيشفع لنا المعتقلون صمتنا ووقوفنا أمام عتبات الرب بكلمة "الله كريم"، و"يا حنان ويا منان"، عل السماء تمطر رصاصاً أو يجود علينا الزمن بطيور أبابيل تقتلع الوحوش من بين أزقة البلد الحزين؟!

من الذي علينا لومه الآن، ليندي إنغلاند؟ المحتل وأذنابه؟ نحن؟ الوطن؟ السماء؟

أي شيء يمكن له أن يقف الآن أمام كارثة المغيبين في السجون والألم؟؟

من سيذكرهم إن جاء الغد؟؟ من سيلقي على أفئدتهم تحية الصباح؟؟

أخبروني من سيروي حكايتهم في الغد القريب؟! ويخبر الجموع التي ورثت الصمت من أسلافها، أنه كان لنا رفيق بكافة مسمياته "أخ، أب، زوج، ابن، صديق"!! كان يحيا كما نحن الآن، يشرب ويأكل، يحب ويكره، ينام متأخراً، ليصحو نهاراً على عجل، يذهب للعمل دون إفطار خوفاً من الوقت الأعمى الذي يجري كما القطار المجنون!!

نعم، كان لنا رفيق وبكامل مسمياته، ينتظر أن يحمل ابنه بين يديه، ولطالما حلم باقتناء سيارة كي يقل حبيبه الصغير إلى المدرسة صباحاً، وحين العودة إلى البيت يتحدثان عن الدروس والأصدقاء الجدد.

وهذا المعتقل المدمى اليدين، ذو الجسد العاري النحيل، والعين الغائرة، كان يدعى جميل، كان عاشقاً لصابرين، ولطالما خرجوا سوياً في شوارع المدينة التي طُمرت معالم فرحها تحت أقدام الحقد الدفين..

جميل كان مسالماً، لا يفكر سوى بالبيت الجديد، وبليلة العرس التي ستقام بين أشجار النخيل، ولكن في يوم القيامة الذي أقامه المتكالبون من الجراد، اقتيد جميل، وإلى أبو غريب كان دربه، وقيل لاحقا في "بوكا"، بل أن كثيراً اخبروا ذويه أنه في سجون خاصة لا يعلم عنها حتى من يقرأون الغيب!!!

وصابرين، كما المجانين، تلف الدهشة أيامها وتبكي بصمت في الليل الحزين..

ومن أبو غريب إلى "بوكا" إلى ألف سجن،

قضت بقية أوجاعها في سؤال لا يزل يتنقل من مكان إلى آخر معها "أين جميل"؟؟

يا صابرين، ، اذهبي إلى ليندي إنغلاند فتأتيك بالخبر اليقين..

اذهبي إلى ميدان صمتنا لتشاهدي الجحيم..

اركضي صوب الوطن، فهو جميل..

جميلنا يا عزيزتي، أضحى مجموعة صور..

وأيقونة تعلق على أبواب مراكز حقوق الإنسان الزائفة،

ويافطة كبيرة تحمل في المسيرات الكاذبة..

جميل يا صابرين، يسعى الآن ما بين الصرخة والوجع..

يقتات على ما تبقى من إنسانيته، كي يبقي على قلبه حيا..

جميل الآن يقبع في زاوية النار، يقرأ باسم الله والوطن لينتصب الحلم في الذاكرة التعبة، قبساً من أمل ويقين..

لا تسألي عنه، فهم لن يجيبوك، ولن يرحموا لوعتك، لأنهم ببساطة لا يفهمون معنى الحب..

لا تسألي السجان لم القسوة، لكن اسألي من يمتلك المفتاح لم الخيانة؟!

اسألي من اغتصبك بالأمس، أليس من المخزي أن تمس أختك وتهديها لاحقاً للقاتل القذر؟؟

أما بجرم هو أن يسير المحتل الغازي في إرجاء الدار الطاهرة؟!!

اسألي كثيراً ولا تنتظري أي جواب، ولا تستمعي لصيحات المارق ونداءات السراق..

اعتصمي برؤياك اليومية، وتعمدي بدموعك ساعة الفجر، وافتحي أبواب الصبر على مصراعيها، فهنالك ملايين كجميلك، منهم من ثقبت عيناه، ومنهم من أحرق حياً، ومنهم من اخترقت الرصاصة فؤاده، ومنهم من سقط من الحزن، وآخرين تنهش الكلاب لحمهم كما لو كانوا طعاماً لهم!!!!!

آآآآآآه، يطول الوجع يا سيدتي، وليندي إنغلاند ليست وحدها من تستطيع أن تحدثك عن فنون التعذيب والتنكيل وتخبرك، أن شبابنا الجميل وجميل ذات نفسه، مقيدون بسلاسل كما الدواب، فلا تندهشي، إن سمعت عن لعبة الأصوات التي يقوم بعرضها معتقل أمام السجان والجندي، ولا تتعجبي، إن تعالت ضحكات السكارى من الوحوش والخدم، على جثث تكدست فوق بعضها البعض، عارية إلا من الخجل!!

لكن...

لا تحزني، فمن دم الضحية يولد حلم مؤزر ببندقية..

لا تحزني، ولكن، ابصقي بوجه صمتنا،

وتيقني أن لجميل رفاق، كل يوم هم على موعد مع المنية..

سائرين نحوها بابتسامة حنين للوطن والغد والإنسانية..

صابرين، هوني على جرحك، ولا تعاتبي جميل على عشقكِ،

بل احملي اللوم، على الغرباء، والمتسلقين، والمتملقين، وعشاق التبعية..

فكل معتقل في بلادي، شمعة،

وإن انطفأت الحياة في عيونها، لكنها حتماً ستنير دروب الحرية..

وشكراً لك ليندي إنغلاند، لأنك لم تندمي على فعلتكِ، فمجرم من ينتمي لغير بلاده، ونعم البلاد والديمقراطية!!