ليفني ليست بابا نويل.. والحق على كوسوفو!

عبد اللطيف مهنا – كاتب وشاعر من فلسطين المحتلة يقيم في سوريا

إنه آخر بدع التراجيديا الفلسطينية، وقد لا يكون آخر غرائب اللامعقول الذي يشهده مسرح الساحة السياسية في الداخل الفلسطيني المحتل. نقصد هذا السجّال الذي بدى هذه المرة مختلفاً عمّا عهدته الساحة الوطنية إجمالاً، وطناً وشتاتاً، ولعقود خلت... أي أنه المختلف عن ذاك الذي دار ويدور عادة بين الخيارين النقيضين، التسووي والمقاوم، والمختلف عن هذا الدائر المستمر بين غزة ورام الله.. لماذا؟

لأنه هذه المرة سجال يدور بين رام الله ورام الله، بين أهل الخيار الواحد، والمسؤول عن هذا أولاً وأخيراً هو كوسوفو.. كيف؟

شجون استقلال هذا الإقليم اليوغسلافي سابقاً وشؤونه، وفق الإخراج الأمريكي الأوروبي، دفعت السيد ياسر عبد ربه إلى المطالبة باحتذاء المثال الذي أعلنه الألباني هاشم تاتشي رئيس وزراء الإقليم المعلن استقلاله من طرف واحد، دون أن ينسى الإشارة إلى الطرفين الراعيين المتعهدين لهذا الاستقلال، الأمريكي والأوروبي، داعياً إياهما إلى فعل المثيل فلسطينياً، هو هنا كمن استجار من رمضاء الاحتلال بنار من وقفوا ويقفون وسيظلون واقفين ورائه، والسبب في وقوعه في مثل هذا التناقض هو التالي:

لقد اكتشف عبد ربه، المقترن اسمه بما عرف بـ"وثيقة جنيف" الشهيرة المعروفة، أخيراً بأنه "لم يتم تحقيق أي تقدم على الإطلاق" في ما تدعى "عملية السلام"، والمتواصلة فصولاً منذ عقود وحتى آخر لقاء تم بين أبو مازن و"أولمرت" في القدس المحتلة، هذه العملية التي يعتبر عبد ربه واحداً من فرسانها، وأيضاً، توصل إلى القناعة التالية:

إن ""إسرائيل" تحاول الالتفاف على نتائج آنابوليس، وما بعده الالتفاف على الموقف العربي، والإتحاد الأوروبي، والدولي، وكذلك لكسب الوقت".. كسب الوقت من أجل ماذا؟

"للاستيلاء على مزيد من الأراضي، وفرض وقائع عملية على الأرض، تؤدي إلى حلّ دولة ذات حدود مؤقتة، أي أشلاء من أراضي الضفة"... إنها أسباب كافية عند عبد ربه ليلوح بوجوب إعلان استقلاله من طرف واحد على الطريقة الكوسوفية، لكنها هل تكفي لدى الآخرين لتجد من بينهم من يتعهد دعم مثل هذا الاستقلال، ونعني تحديداً مقاولي تلك الطريقة إياها، أي الأمريكي والأوروبي؟!

المقترح، الذي جاء على لسان أحد رموز وثيقة جنيف لحل كامل الصراع المزمن في بلادنا العربية وعليها عبر الجغرافيا الفلسطينية، أثار ردوداً فورية رافضة من رأس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود ذاتها، وتحديداً من رئيسها أبو مازن ورئيس وزرائها السابق، والذي يقود الآن المفاوضات مع الطرف "الإسرائيلي"، أبو علاء، بلغة أخرى، لاقى رفضاً من جانب اثنين كانا، كما هو معروف، مهندسي "اتفاقية أوسلو" في جانبها الفلسطيني، أو التي بدأت، عملياً على الأقل، مسيرة هذه "العملية السلمية"، التي رأى عبد ربه أخيراً أنها لم تحرز "أي تقدم على الإطلاق"..

أبو مازن، الذي يصر على القول "إننا نشعر بالتفاؤل والآمال" المعلّقة على هذه العملية التي نعاها عبد ربه، رد على الأخير مؤكداً:

"إننا نستمر في المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاق سلام خلال 2008، يشمل قضايا الحل النهائي بما فيها القدس".. ويستدرك: و"إذا تعذر ذلك، ووصلنا إلى طريق مسدود في المفاوضات، فإننا سنعود إلى أمتنا العربية لاتخاذ القرار المناسب على أعلى المستويات"!

هنا نتذكر استجارة عبد ربه من رمضاء الاحتلال بنار رعاته، لأن أبو مازن إذا لم يصح تفاؤله ولم تتحقق آماله المعقودة على ما سوف تأتيه به المفاوضات نهاية هذا العام فسيعود إلى الأمة على أعلى المستويات، في حين أن أعلى مستوياتها هذه، ونعني هنا الرسمية لا الشعبية، قالت في قمتها ذات يوم، وأعادت ما قالته فيما تلى من قمم، أن السلام هو خيارها الاستراتيجي الذي لا سواه ولا بديل عنه، وعليه، فهي موضوعياً لن تحارب ولن تقاوم أو لن ترعى مقاومة في فلسطين، وبالتالي، من هذه هي حاله، أو هذا خياره الاستراتيجي، فلا مندوحة من قبوله في نهاية المطاف، وموضوعياً أيضاً، بما يعرضه عليه عدوه من سلام مهما غلى ثمنه وثقل حمله، وهنا نجد أنفسنا نعود ثانية إلى ما اكتشفه ياسر عبد ربه مؤخراً، وكذلك، وبالمقابل، إلى تعقيب لـ"بنيامين نتينياهو" على لقاءات "أولمرت" أبو مازن، حيث وصف المحروسة "عملية السلام" بأنها إنما هي قائمة "على الأوهام"!

بالتوازي مع مثل هذا السجال بين رام الله ورام الله، وكذا ذاك القديم والمستمر بينها وغزة، هناك سجال آخر ثالث يدور بين رام الله وتل أبيب، مادّته غموض أولويّات التفاوض الدائر راهناً بين ليفني وأبو علاء..

إنه سجال حكاية حقيقة تأجيل بحث موضوع القدس بوضعه في آخر سلم ما يدعى قضايا الحل النهائي أم أنه لم يؤجّل؟

سجال لم تخفّف من ضجيجه ما تثيره اللقاءات الدوريّة المتواصلة بين "أولمرت" وأبو مازن، هذه اللقاءات الباحثة عن "اختراقات" لم تحدث في الانسدادات التفاوضيّة كما يحلو للإعلام المرافق لهذه اللقاءات توصيف استهدافاتها..

المتحدّث باسم الحكومة "الإسرائيليّة" "مارك ريغيف" أكّد بأنّ "أولمرت" كان واضحاً للغاية، حينما أكّد سلفاً بأنّ أبو مازن قد وافق على اقتراحه بتأجيل البحث في موضوع القدس، "كبير مفاوضي" السلطة الدكتور صائب عريقات ومستشار رئيس السلطة نمر حمّاد نفيا هذه الموافقة، إذن ما الذي أسفر عنه آخر لقاء بين الاثنين؟

لقد أجمله "ريغيف" بالتالي: لقد اتفق الطرفان على تسريع "محادثات السلام"، وأنّ المفاوضين سيجتمعون من الآن فصاعداً "كل يوم تقريباً"، أمّا عريقات فاختصر الأمر على الوجه الآتي: لقد "راجعا" المسائل المطروحة دون التوصّل إلى اتفاق، "و قرّرا الاجتماع مجدّداً خلال أسبوعين"!

وكما يعبّر السجال الفلسطينيّ الفلسطينيّ، سواء أكان بين غزّة ورام الله، أو بين رام الله ورام الله، عن أزمة تعم الساحة الوطنية الفلسطينية، ولأسباب عديدة لا مجال لتعدادها هنا، وعلى رأسها جنوح التسوويين إلى "السلام الإسرائيلي"، وحيث يدور بين مأزومين ودونما استثناء منا لطرف من أطرافها، نعني كلا الخيارين النقيضين اللذين أشرنا لهما بدايةً، فإنّ في المعسكر الآخر أزمته المستحكمة أيضاً، التي يعبّر عنها مأزومية وجودية مزمنة وأبدية، سواء في الحكم أم في المعارضة، ويميناً و يساراً..

"أولمرت"، الذي لم يكتف بما خصنا به سلفه من الأسوار التهويديّة العازلة، يبشّرنا بجديد الاحتلال المتمثل فيما يطلق عليه "القبّة الحديديّة"، أو بمنظومة دفاعيّة ضد صواريخ المقاومة البدائيّة، مؤكّداً، إلى جانب سياسة المذابح والتهويد المستمر، على مواصلة حصار غزّة و إقفال معابرها، رغم توصّل الأوروبييّن الذين أحرجهم صمودها، إلى أنّ سياسة عزلها وإخضاعها "قد فشلت"، هاهي وزيرة خارجيته، المكلّفة بالتفاوض مع أبي علاء، تضطر إلى الدفاع حتّى عن هذه الملهاة العبثيّة التي يصفها "نتنياهو" بأنّها تقوم على الأوهام، لكن دفاعها يوضّح من الآن حقيقة المرامي "الإسرائيليّة" من وراء مواصلة التمثيل على خشبة هذه المسرحيّة العبثيّة المسماة بالعملية السلمية.. "ليفني" التي تقول أنّها "قلقة على مستقبل إسرائيل" تؤكّد:

"أنا لست بابا نويل، الذي يدخل غرفة المفاوضات مع هدايا للفلسطينييّن وإنّما أمثّل المصالح الإسرائيليّة".. وتضيف: إنني أدخلها "من أجل الحفاظ على مبادئ إسرائيل في مواضيع اللاجئين والأمن والإرهاب".. وتوضّح أكثر: "يجب إقرار (عبر المفاوضات) عدم عودة اللاجئين الفلسطينييّن إلى تخوم دولة إسرائيل".. تخوم! تصوروا أن هذا ما تقوله "ليفني"، التي لا تخجل أيضاً من أن تتّهم ضحاياها الفلسطينييّن بأنّهم يريدون "سلب حقوق من آخرين"..  "ليفني" تمثّل بجدارة العقليّة "الإسرائيلية" التي اكتشف ياسر عبد ربّه متأخّراً أن لا جدوى ولا مردود من التفاوض معها، لكنه بدلاً من إعادة النظر في خياره الذي أوصله متأخراً إلى مثل هذا الاكتشاف، يحاول عبثاً الاقتداء بمثال هاشم تاتشي، لكن مع فارق جوهري هو افتقار المقتدي إلى اثنتين توفرتا للمقتدى به المثال، وهما:

ما كفلته عملية دعم الراعيين المتعهدين، وأرض، أو ما تبقى مما لم يهود بعد أو ما سيترك منها مستقبلاً، بحيث يمكن عبد ربه إعلان استقلاله عليها!