غزة تسبح في دمها.. غزة تدافع عن أمتها
عبد اللطيف مهنا - كاتب وشاعر من فلسطين المحتلة يقيم في سوريا
غزة تسبح في دمها المسفوح، الضفة، أو ما بقي من الضفة، تنزف، وفلسطين كلها، من نهرها إلى بحرها، هي ما بين المهوّد وقيد التهويد، وأهلها جميعاً، ما بين المشرّد وقيد التشريد، والمباد وقيد الإبادة، ومن سيظل العاصي على هذه وتلك فمادة مستقبلية للمشاريع الترانسفيرية المرصودة المؤجلة لحينها.. غزّة، تختصر كل هذا، والعالم، أو "المجتمع الدولي" يشيح بنظره متجاهلاً دون أن يرفّ له جفن، ويتوزع ما بين المتواطئ المشارك، والصامت المبارك، والمتلعثم المنافق، والعرب يتفرجون!
غزّة هاشم السابحة في دمها المستباح، لا يتركون لها متسعاً لتضميد جرح أو تشييع شهيد، والضفة، أو أكناف بيت المقدس، أو ما بقي منها، لا يمنحونها فرصة لكفكفة دموعها.. وهذا المعروف بالعالم، وأحياناً، ب"المجتمع الدولي"، أو قل الغرب، وإن أوجزت فالولايات المتحدة، حيث لم يعد هناك من فارق كبير بين هذه المسميات، يرسل مدمرته كول إلى حيث تطل على السواحل اللبنانية، لا لشيء سوى إظهار التأييد "للاستقرار الإقليمي"... مع توضيح: أنه "لم يتم إرسالها لدولة واحدة، بل للمنطقة" بأسرها!
غزة هذه حالها... والعرب يتفرجون. لكنهم، وللأمانة، ليسوا واحداً... إنما هم توزّعوا بدورهم، ما بين العاجز المسقط في يده، والعاجز الذي لا يعرف ماذا في يده، والعاجز النافض من القضية يده... وجميعهم، موضوعياً، يد مكتوفة، وفم مكموم، وعين حولاء في غياب رؤية ورؤيا... رؤية لجسامة ما يرمز له المشهد الغزّاوي من كارثة مصيرية لا تخصّ الفلسطينيين وحدهم، وإنما فيها من النذير ما يؤشر إلى ما ينتظرهم جميعاً من أخطار تهدد مصائرهم ولا تستثني منهم أحداً... لا تستثني منهم المسقط في يده أو نافضها وذاك الذي لا يعرف ما يتوفر له فيها من قدرات... ورؤيا، هذا لو توفّرت النيّة، لمواجهة غدت ضرورة بقاء، ومستوجب لدرء محتوم مبيّت تترتب غوائله على عجز قاتل... الجميع تحت طائلة المثل الشهير: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!
***
غزّة تسبح في دمها، والعالم إيّاه، المتجاهل المشيح الوجه، أكان متواطئاً مشاركاً أم صامتاً مباركاً، أو متلعثماً منافقاً، يُجمع على تلبية ما طلبته منه صاحبة الوجه الدبلوماسي للوحشية "الإسرائيلية" "تسيبي ليفني"، حين دعت "الأسرة الدولية إلى احترام أي عملية تشنّها "إسرائيل"" تتوّج بها مذابحها المتواصلة التي ترتكبها بحق المدينة الشمشونية العنيدة، مذابح لم يستثنى منها الأطفال في المهد، كما لم يستثنى منها من كانوا منهم يلعبون في الحارات المعدمة المحاصرة، وحتى من لا زالوا في أرحام الأمهات، الإحصائيات تقول ثلث شهداء غزّة من الأطفال، العالم الذي لا يعنيه فظاعة وبشاعة وهمجية كلام "إسرائيلي" لا يمت للإنسانية بصلة، ولا يليق إلا بقائليه، قاله عنهم وزيرهم: مئير شطريت"، من نوع "لو عاد الأمر لي، لقصفت كل ما يتحرك بالسلاح والذخيرة"، كانت أمنية "إسرائيلية" جداً، لم يتوانى في أن يترجمها على الأرض قاتل معروف ومجرم عتيد مثل وزير حربهم "إيهود باراك"، والذي بشّر بالمزيد فقال: " العملية البريّة الكبيرة حقيقية وملموسة، لن نجفل ولسنا خائفين".
من ماذا يجفلون، ومن ماذا يخافون؟!
سنأتي إلى هذا لاحقاً، لكن قبله، ونحن نتحدث عن عالمهم، لابد من أن نشير إلى أنه، وهو المتجاهل المشيح، لم يستمع إلى استغاثات غزّة، بقدر استماعه إلى فحيح رئيس وزرائهم "أولمرت" الذي أطلقه من حيث تشرق الشمس في اليابان، عندما لفت نظر مضيفيه وسائر أسرة "ليفني" إلى أن هناك " ثمة حرباً دائرة في الجنوب"، وإلى خطورة "محور للشرّ يضم كوريا الشمالية وإيران وسوريا وحزب الله وحماس"..!
...عالمهم، هذا المختصر في بهوت بيانات بان كي مون الإنسانية، و تغوّل مرجعهم جميعاً الولايات المتحدة، التي لم تحفزّها المذابح في غزّة، وكل ما يرمز فيها إليه دم الطفل محمد البرعي الذي لم يتجاوز عمره الستة أشهر، إلا إلى تأكيد دعمها الدائم لـ"إسرائيل" في "الدفاع عن نفسها"، وتجديد مواقفها الدائمة عينها تجاه تبرير وتمرير وتغطية جرائم حليفتها المدلّلة، وإعلانها المرّة تلو الأخرى وبذات الصفاقة: "ندين الهجمات (الفلسطينية) غير المبرّرة على مدنيين أبرياء"... عند الناطق باسم الخارجية الأمريكية المعتدون حصراً هم الفلسطينيون والأبرياء قطعاً هم المحتلون "الإسرائيليون"، ولو كان ناطقهم أكثر وقاحة لقال، ونشجب إطلاق الإرهابي محمد البرعي صواريخه البدائية على الجنرال الودود الرقيق باراك!!!
عالمهم، نعني الولايات المتحدة، التي هي، كما قلنا، أسرة تسيبي ليفني الدولية، ولا فرق بين المسميات، وافق أو وافقت الناطق باسم وزارة خارجية الأبرياء اللذين يذبحون الأطفال في غزّة، عندما استغاث، من خطورة صواريخ محمد البرعي البدائية، التي عجزت عن مواجهتها آخر مبتكرات آلة الموت الأمريكية المتوفرة للجنرال باراك، محذراً من خطرها معسكر أسرة تسيبي، باعتبارها " تهدّد السلام والتوازن في المنطقة كلها"... ألهذا، ولتعزيز المذابح الدائرة أرسلت هذه الأسرة الحريصة جداً على تلبية رغبات ابنتها المدللة مدمرتها كول إلى الشواطئ اللبنانية؟!!
***
غزة تسبح في دمها ونائب وزير حرب الاحتلال فلنائي يهددها بمحرقة، إنها تُذبح والذريعة أنها قد تصبح جنوب لبنان ثانٍ، وكوندوليسا رايس ستتوجّه قريباً إلى المنطقة لمتابعة "آليّة أنابولس"... والآن، وعودة إلى ما يجفل و يخيف الجنرال الدموي الشهير ووزير الحرب "إيهود باراك"، نتذكر فحسب، أنه قبل أيام قليلة سبقت آخر المذابح الدائرة راهناً، واستجابةً لدعوة من اللجنة الشعبية لمواجهة حصار غزة، لإنشاء سلسلة بشرية احتجاجية على الحصار الرهيب، هبّت جماهير غزة فكانت سلسلة اتصلت فيها بيت حانون شمالاً برفح جنوباً، المشهد الغزاوي البسيط كان مدعاة ذعر "اسرائيلي" معلن، خافوا أن يتكرر ما كان في رفح، أن يجتاح منزوعي السلاح ما يدعونه ب "الخط الأخضر، هذه المرة ليست مجرد إسقاط لحدود "سايكس بيكو" وإنما قد تكون إسقاطاً لحدود المحتل من فلسطين في عام 1948، الإعلام "الإسرائيلي" حذّر من اجتياح وشيك، خمسة آلاف جندي إضافي لأولئك المحاصرين لغزة تحسباً، تدعمهم بطاريات مدفعية، وقناصة، أوامر مشدده بمنع الاجتياح الفلسطيني "عبر كافة السبل"، إقامة حواجز لصد طلائع الإجتياح المتسللة، وإعلان مناطق عسكرية مغلقة، وهكذا، ولدرجة أن يطمئن باراك مذعوريه مؤكداً: "إننا منتشرون ومستعدون، وذلك لن يكون تكراراً لما حدث في ممر فيلادلفي قبل أسابيع"!
هل اطمأنوا؟
كلا... آفي ايتام، عبّر عن هشاشة كيانهم الذي حلّ غريباً ويظل غريباً على المنطقة، قام على العدوان وكغاصب يشك في شرعيته قبل سواه، ولذا يعاني قلقاً وجودياً، فلا يطمئن إلى مستقبله، حتى لم يبق إلا فلسطيني واحد على وجه الأرض، عندما قال محذراً:
"ستكون هناك انفجارات وجنود جرحى وسيتدفق الحشد إلى أراضينا، إذا حصل ذلك فستكون نهاية دولة إسرائيل"!
يخافون من نهاية لدولتهم من مجرد سلسلة احتجاج بشرية عزلاء، ولهذا، هم ومن يتكفل دعم عدوانيتهم، يطاردون كل من توسموا أن في نيته أن يغدوا مقاوماً للاحتلال أينما كان وفي أية بقعة عربية، واستطراداً إسلامية، وحتى دولية، ولهذا جاءت كول إلى المنطقة، يطاردون ليس من يطلق الصواريخ البدائية فحسب، وإنما يصفون اغتيالاً أولئك المقاومون المتقاعدون الذين توقفوا عن المقاومة بناءاً على اتفاق لرام الله مع تل أبيب، لقاء شطب أسمائهم من قوائم المطاردين المطلوبين، والذين غدوا بعدها سجناء المقرات الأمنية للسلطة كبديل عن سجون الاحتلال، هذا ما حدث في مخيم بلاطة، أي أنهم لا يفرقون بين غزة ذات الصواريخ البدائية، وبين الضفة التي بلا صواريخ، ولا يفرقون بين زمر الدم الفصائلية مهما اختلفت، لا يفرقون بين من ظل مقاوماً ومن جنح إلى التهدئة!
لماذا؟
لأنهم يدركون أنهم ربحوا الجغرافية وخسروا الديموغرافيا ولهذا أعلنوها حرباً مفتوحة على الفلسطينيين، على وجودهم، على أطفالهم، على أجيالهم القادمة، ولم يستثنوا طفلة مصرية على الجانب الآخر من الحدود... أعلنوها حرباً تعزّزها حرباً مفتوحة أعم و أشمل يقودها من ينوب عن أسرة "ليفني" الدولية، حرباً أمريكية على العرب جميعاً، على المسلمين، وبلا حدود.
***
... غزة اليوم متراس مواجهة. إرادة حياة. عنوان مقاومة. رمز مكابرة عنيد ينوب عن أمة كسيرة مغيبة بكاملها... هي متراسها المتقدم الوحيد الذائد عن كرامتها المهدورة، المنافح المضحي الصامد المستشهد الفادي لصون ما بقي من مبدد مخزونها الكفاحي التاريخي التليد... لكن عنادها ومكابرتها وصمودها ودمها المراق المواجه ببسالة، أو ما فوق البسالة، للحديد والنار، لا يحول دون أمتها وما يجرّعها يومياً عجز العاجزين جميعاً من هوان جلب مهانة مقيمة وذلاً تحوّل إلى إذلال مقيم لا تستحقه أمة مجيدة مثلها.
غزة، الضفة، فلسطين، قد لا تسامح بسهولة أمتها، لكنها لم ولن تكفر بها، ستظل تنتظر للمغيبة عودةً لسابقها هي أهلاً لها، وهي إذ تسامح أمتها، فهل ستسامح عاجزاً أسقط في يده، أو نافضاً إياها من واجبه تجاه نفسه قبل شقيقه، أو استكان جاهلاً بما يتوفر لها من أسباب القوة، هل ستسامح من يتلهون اليوم عن نجدة غزة، عن مسؤوليتهم اتجاه قضية قضايا الأمة في فلسطين، عن نصرة عراق الأمة، عن صدّ ما يحاك لدارفورها، بالانشغال حصراً بمشكلة عدم توافق اللبنانيين على انتخاب رئيس لهم، ربما ليجعلوها ذريعة لإفشال قمة لا يمكنهم أن يخلصوا أجندتها من ما يجري في غزّة.. من قضية فلسطين؟!