غزة والقمة، و"مركاز هاراف"!

عبد الطيف مهنا - كاتب وشاعر ورسام من فلسطين المحتلة يقيم في سوريا

لا زالت محرقة "فلنائي" وصحبه تتوالى فصولاً وغزة لا زالت تسبح في دمها، ولا زالت وستظل تدافع عن أمتها، وللجميع، الذين هم الأعداء الكثر، والأصدقاء القلة، والأشقاء الذين لا يحسب حسابهم، تقول:

الحق أقول لكم، دمي وحده يفرض عليكم أجندتكم، وبه لا غير أخط لكم وحدي أولوياتها، وأنتم إذ تقرؤونها بلغاتكم الهجينة وتلوكونها بلكناتكم اللاحنة، فأنا وحدي، وبفصيح لغتي العنيدة، وبلكنتي المقاومة، أعيدكم جميعاً إلى أبجدياتي الأولى، إلى أبجديات الصراع، وإلى حيث مربعه الأول، فلكم منه، من دمي، إلى أين المفر؟!

وحيث سليلوا رماد محرقتهم هناك في البعيد، وباعثوها اليوم مرة أخرى هنا في ديارنا، لا يشبعون ذبحاً ولا يرتوون دماً ولا تعرف وحشيتهم استراحة محارب، وإنما هم، و لحاجة في نفس يعقوبهم، ارتأوا بعضاً من تعليق مؤقت لزخم عدوان، وشيئاً مدروساً من استراحة ما خصّوا بها "كوندوليسا رايس" و"خافيير سولانا"، ليسهل على من خفاً لجني حصاد المحرقة وتسمين بيدرها التهويدي إنجاز مهمتها، وللجميع، غزة أضافت تقول:

دم الشهيد القائد يوسف السميري، الذي أعدم أسيراً بدم بارد وأجهز عليه بحقد بهرس رأسه تحت عجلات آلياتهم، ومن سبق يوسف ولحق به من فدائيها، ودم الشهيدة الرضيعة أميرة أبو عكر، ومن سبق أميرة ولحق بها في المهد رضيعاً أو في الحارات صبياً، ومسفوح دماء شيوخي ونسائي المقدمة فداءً لكرامة أمة وقرابين لغد اخترته آت لا ريب، أدفع مهره الغالي مهما بهظ، دم يذكركم:

إنما هو صراع بين غزاة ومقاومين، بين مستعمرين وضحايا استعمار، كيان غاصبٍ مفتعل وأصحاب وطن سليب مغتصب، حق غير قابل للتصرف وباطل يمعن في اختلاق وقائع زائفة، يصنعها منتصر لا يثق في انتصاره ويضحدها صمود مهزوم لم يستسلم، صراع لم يبدأ اليوم ولن ينتهي غداً، ولا نهاية له إلا بهزيمة الباطل وانتصار الحق.

***

غزة، باسم فلسطين كلها، لم تحن هامتها المثخنة جراحاً، فاحتار الغزاة الباحثون في جعبة شرورهم عن ما تبقى فيها، هذه التي سبق وأن أخرجوا منها كل ما لديهم مما خصّهم به رعاتهم من صنوف القوة وترسانات التقتيل وأدوات القهر ووسائل القمع وحيل الإخضاع، فلم يعثروا على ثمة ما تبقى لهم فيها من جديد لم يجربوه بعد، فجاء "سولانا"، ولحقت به "رايس"، وأرسلوا "وولش"، وتوعّد "أولمرت" بطرد أحياء كاملة من غزة قد تنطلق منها الصواريخ المقاومة، وأكد "باراك"، إنما هي حلقة في محرقة "فلنائي" سيتبعها بأخرى وأخرى، واشتكت لفني من صمود غزة العدواني المهدد لوجود دولتها، وسبقت المدمرة كول سولانا و"رايس" إلى المنطقة، وقالت الأخيرة:

أن من حق المعتدين "الإسرائيليين أن يدافعوا عن أنفسهم"، ضد ضحاياهم من الفلسطينيين، وطالبت بـ"وضع حد لإطلاق الصواريخ على الإسرائيليين" الغزاة، لم تكتفِ بتجاهل محرقة غزة، بينما هي تقف إلى جانب أبي مازن في رام الله والطفلة أميرة تلفظ أنفاسها في غزة، فتوعدت الفلسطينيين من المقاطعة، مختصرة إياهم في غزة، ومختصرة غزة فيمن يقاوم، ومن يقاوم في حماس، قائلة: "يجب أن تحاسب على ذلك، لن ندعها تنتصر"!

قبل قدوم "رايس"، وغزة تسبح في دمها وتدافع عن أمتها، علقت السلطة التي بلا سلطة، وتحت الاحتلال، مفاوضات تبييض الجرائم "الإسرائيلية" لساعات، ولم  تلبث وأن تخلت عن تعليقها مكرمة لعيون أو استجابة لضغوط "رايس"، وكان هذا والدم في غزة والضفة لا زال يسفح والأرض تهوّد، وحيث قال أبو مازن: لن نسمح "بجرنا إلى دوامة عنف لن نخرج منها"، مطالباً ببعض من تهدئة تسمح بعودة للمفاوضات وتبرر العودة عن تعليقها، أجابته "رايس" بإنكليزية فصيحة، أن وقف "العنف الإسرائيلي" أو المحرقة ليس شرطاً للتفاوض، جاءت "رايس" لمزيد من الضغط على الضحايا ليكفوا عن مقاومة جلاديهم، جاءت كما جاءت سابقاً في مرات عديدة في سياق مهمة واحدة هي لجني مزيد من التنازلات، تريد عمليةً لا سلاماً موهوماً، لتدويخ التسوويين، لتضليل العالم، لطمس حقائق الصراع وتشويه أبجدياته، مسلماته التي أعادت غزة الاعتبار إليها.

***

دماء غزة المراقة أن فرضت على الجميع أجندتها، لم تفلح في فرض عقد قمة عربية طارئةٍ، لكنها حاصرت "الاعتدال العربي"، وأرغمت المترددين في حضور القمة الدورية التي من المفترض أن تعقد بصرف النظر عن أحداث غزّة وحديث دمائها، القمة متواضعة المأمول منها، والتي أرسل بوش بوارجه لمحاصرة قليلها المأمول، لمحاصرة القرار العربي الرسمي، ومساهمة منه في التحضير لها، وأغضب غزة أن يعلن "سولانا" قبل سواه أنها "ستعقد في مكانها وزمانها المحددين"، وأن تفصح "رايس" عن أن مهمتها هي الحؤول دون عرب القمة وأية خطوة ترجوها غزة منهم قد تؤدي لخروج المؤتمرين من دوامة أوهام السلام "الإسرائيلي" وحضيض الدونية المستحكمة في مواجهة ما توحيه الإملاءات الأمريكية، خطوة قد تؤدي لشق عصى الطاعة المستدامة على الالتزام السوريالي بذات السلام كخيار استراتيجي، والكف عن التلهي بموهوم موعود خرافة حلّ الدولتين البوشية.

وأدهش غزة، أن تسمع وزراء خارجية القمة وهم يجهرون بالفم المليان بأن ما يجري في غزة هو "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية"، وحيّرها بأن يبدر منهم شبه تلويح في تصريح يقول بأن "مبادرة السلام العربية" من طرف واحد، التي تجاهلها من يعنيهم الأمر لأربع سنوات خلت، "لا يمكن أن تظلّ قائمة من دون تجاوب حقيقي". وتساءلت: ترى أي تجاوب لا زالوا يأملونه من قبل من يصرّون على تجاهلها؟!

وحيث سمعت عن أسوار جديدة مضافة، هي عربية هذه المرة، ستقام في جنوبها للحؤول بينها وأمتها، استغربت مطالبتهم برفع الحصار عنها وتساءلت أيضاً، ترى أي حصار يقصدون؟ الحصار الإسرائيلي أم العربي؟!

***

احتجّت الدماء الغزيّة فدائياً في القدس المحتلة... احتجت على محرقة "فلنائي- رايس - سولانا" ومجتمعهم الدولي، على الصمت العربي، على حصار هؤلاء جميعاً لها، على الوحشية، وكافة مسارات العدوان والتواطؤ والعجز والانهزامية التسووية، كان احتجاجها بالغ الرمزية يدعى "مركاز هاراف"، كان اختراقاً لقلعة حقد لمودي مسورة مدججة وكل من فيها كانوا جنود احتياط، اختراق لقلعة أيديولوجية عتيّة مزجت بين اليهودية والصهيونية، مدرسة المدارس جميعاً التي فرّختها لتخريج عتاة السفاحين من قادة المستعمرين، والتي خرج مؤسسو من فرّخت جميعاً منها، احتجاج طال حصناً تهويداً لصناعتهم، حيث قالت عبرة عملية القدس المحتلة، التي أعلنته دماء غزة بسواعد فدائيي الضفة، أن هذا الدم العربي المراق أعاد لحقائق الصراع أبجدياته الأولى. وقالت: إنما هو صراع بين غزاة ومقاومين، بين مستعمرين وضحايا استعمار، وقالت لكل هؤلاء، أنه رغم كل ما في جعبتكم، كل قوتكم ووحشيتكم وحقدكم وأسواركم، وما يتوفر لكم من رعاية ودعم وتواطؤ غربي معكم، وعجز عربي أتاح ويتيح لكم ما أتاح، إنما هو صراع لن تقووا على إنهائه بانتزاع حقوقنا في وطننا التاريخي غير القابلة للتصرف، والدليل أنكم بكل هذا الذي توفر لكم لم تتوفر لكم القدرة على منع فدائيٍ اسمه علاء من اقتحام قلعة "مركاز هاراف"!!!