المستعربون و"التهدئة".. وسيناريوهات الحروب المتعددة الجبهات
عبد اللطيف مهنا - كاتب وشاعر من فلسطين المحتلة يقيم في سوريا
عم حديث "التهدئة" في (الجبهة الفلسطينية-"الإسرائيلية")، كثرت التسريبات، وقيل الكثير عن الوساطة المصرية بين غزة وتل أبيب، وتواردت التوقعات المتعلقة بها، إيقاف الصواريخ الفلسطينية القادمة مقابل إيقاف محرقة "فلنائي" ورفع الحصار أو فتح معبر رفح على الأقل، بدأنا نسمع الدعوات الأوروبية للتفاوض مع (حماس)..
هذه الأجواء رفعت منسوب الركون إلى أن "التهدئة" قد غدت واردة، وانشغل الإعلام العربي مجدداً بحديث القمة الإسلامية في دكار وشجون القمة العربية القادمة في دمشق وطرائف الزجل السياسي اللبناني، لكن وفجأة قطعت جهيزة "الإسرائيلية" قول كل خطيب تهدوي متفائلٍ بخلّبية بروقها، وجّه "المستعربون" أو فرق الاغتيالات "الإسرائيلية" المتخصصة في ملاحقة المقاومين الفلسطينيين وتصفيتهم ضربة قاضية للتهدئة الموعودة في بيت لحم، أي في الضفة، أي لم يكتفوا بما تفعله طائراتهم بلا طيار في غزة، اغتالوا خمسة مقاومين منهم قادة، وبذا وقعوا دموياً على قرار نعي "التهدئة المصرية"، وحيث عادت الاغتيالات وعادت صواريخ المقاومة إلى استهداف عسقلان و"اسديروت" والمستعمرات المحيطة بغزة في المحتل من فلسطين في عام 1948، خفت حديث "التهدئة"، ثم لا بد من القول أيضاً، أن حجر الدم "الإسرائيلي" لم يصب عصفور "التهدئة" وحده فحسب وإنما استهدف أيضاً أوهاماً يصرّ أصحابها على الاحتفاظ بها مهما نعاها الواقع ومنطق وطبيعة الصراع.
الأوهام التسووية المستندة إلى ملهاة المفاوضات، التي علقت على هامش مذبحة غزة لساعات ثم انفلتت من ربقة هذا التعليق استجابةً لسحر "كوندوليزا رايس" الذي لا يقاوم في رام الله وبعد أقل من 24 ساعة من تعليقها.
توقيع المستعربين الدموي على قرار نعي الاثنتين معاً، التهدئة والعملية التسووية، سبق توقيته المدروس والمتقن الحاذق يوماً لا غير على موعد للقاء سلام فياض "بالإسرائيليين" لبحث حكاية بعث المرحومة خارطة الطريق إياها إلى الحياة بإشراف مباشر من راعي "عملية السلام" الأمريكي، ممثلاً في جنرال أمني أوكل إليه مثل هذا الإشراف فكان ما حدث في بيت لحم ضربة استباقية واضحة لما يمكن أن يثيره هذا اللقاء من أوهام جديدة، وكانت هناك ضربة ثانية أو ضربات سبق وأن وجّهت لهذه المدعوّة بالعملية التسووية العتيدة التي تحرص رام الله وتل أبيب على التمسك بأهدابها البالية ألا وهي الإعلانات "الإسرائيلية" الرسمية المتوالية، والمدروسة التوقيت أيضاً، حول إطلاق المزيد المزيد من مشاريع توسعة الاستعمار التهويدي في الضفة، وعلى رأسها القدس، وهي إعلانات لم تنقطع منذ العودة المدوية من "أنابوليس"، التي سبق الذهاب إليها شبه التعهد النظري بإيقاف توسعة العملية التهويدية الاستعمارية المتواصلة.
"اسرائيل" لن تكتفي بهذا، فهي إذا قامت أصلاً على الاغتصاب وتوطدت ركائزها بالمذابح، واستمرت مع فكرة نفي وجود ضحاياها أصحاب الحق المغتصب لضمان وجودها المفتعل القائم على ركامهم، لا ترى أن هناك من ضمانة لاستمرار مثل هذا الوجود المفروض بالحديد والنار أو ما يستند عليه، إلا القوة، وهي إذ تعيش، نظراً لطبيعتها العدوانية، تحت طائلة هاجس لا شرعيتها هذا وغربتها عن المنطقة، أو كرهينة لغائلة قلقها المزمن والأبدي الملازم لهذه الطبيعة من احتمالات زوالها، لا تفكر إلا في متوالية الحروب الدائمة ولا يعني مفهوم السلام لديها إلا استسلاماً من قبل ضحاياها، ولهذا كله يطرح الإعلام "الإسرائيلي" هذه الأيام سيناريوهات حروب على جبهات ثلاث، وفي خطوة لا سابق لها يضخم أخطاراً محدقة ناجمة عن هذه الجبهات، ولدرجة تسريب قول كان لأحد وزراء حكومتها، جاء تعقيباً على تقرير دوري تقدمه أجهزة استخباراتها سنوياً إلى الحكومة، يعكس رؤية هذه الأجهزة للأوضاع المتفجرة في المنطقة:
إنه "سيكون من الصعب عليّ أن أنام في الليل، لدي انطباع أنه فقط من جهة الغرب ليس هناك من ينوي إطلاق النار علينا"!
ما هي هذه الجبهات، وما هو كنه الأخطار التي تطل من خلالها، والتي تشكل مدعاة سهاد للوزير القلق؟
الصحافة "الإسرائيلية" الموعز لها حددتها وهي تعقب على تقرير أجهزة الاستخبارات المشار إليه، صحيفة "معاريف" وصفت التقرير جازمةً أن لا أحد يتذكر "توقعاً استخباراتياً أسود بهذا القدر"، حيث أن "دوائر الخطر التي عرضها رؤساء المؤسسة الأمينة على الحكومة تجمّد الدم في العروق". أما دوائر الخطر هذه التي تجمد الدماء في العروق "الإسرائيلية" وفق وصفها فكانت كالتالي:
"(حماس) تتعاظم بوتيرة متسارعة، الصواريخ لدى "حزب الله" تغطي الغالبية الساحقة من "دولة إسرائيل"، سوريا تغطي بسهولة كل أراضي الدولة". وتضيف إيران كجبهة رابعة، باعتبارها "مركز ثقل" في هذا الخطر الذي يتهدد "إسرائيل":
فيما يتعلّق بالخطر الفلسطيني تشير صحيفة أخرى هي "هآرتس" إلى أن "الصراع مع (حماس) استنزافي والمفاوضات مع عباس لن تحل صراعاً"، يضاف إلى هذا معارك "تغيير قواعد اللعبة" الدائرة راهناً مع المقاومة الفلسطينية.
أما خطر "حزب الله"، أو الجبهة الثانية، فتتم الإشارة إلى حالة تأهب "إسرائيلية" "لم يسبق لها مثيل" تحسباً لمرور أربعين يوماً على استشهاد القائد عماد مغنية، توقعاً للثأر المنتظر لجريمة اغتياله. في الجبهة الثالثة، تقول "معاريف" أن السوريين "لا يعتزمون المرور مرور الكرام على الأحداث الأخيرة في أراضيهم، الذراع الصاروخية لديهم تغطي "دولة إسرائيل" من أقصاها إلى أقصاها، بما في ذلك قدرات كيميائية وربما بيولوجية أيضاً". وفي الرابعة أو "مركز الثقل" في الخطر الذي يتهدد "إسرائيل" وفق الصحيفة، أي إيران، فالشغل الشاغل "للإسرائيليين" هذه الأيام هو المشروع النووي الإيراني، حيث تحذر "هآرتس" من أن "حزب الله" وإيران يهددان بـ"الخراب الثالث" لـ"إسرائيل"!
وتبالغ الصحيفة فتتحدث عن "تطوير قدرات إيرانية غير تقليدية يمكن تركيبها على صاروخ جوال يمكن أن يهاجم أي نقطة في إسرائيل"، هذا بالإضافة إلى صواريخ إيرانية مداها 3000 كم، أي ضعف المسافة المطلوبة لضرب "إسرائيل"، ويمكنها أن تحمل رؤوساً نووية، لاسيما وأن كل "مساعي "إسرائيل" لكبح المشروع النووي الإيراني ذهبت هباءً، وإن احتمال نجاح الضغط السياسي – الاقتصادي في وقف أجهزة الطرد المركزي الشيعية معدومة، كما أن احتمالات قيام الولايات المتحدة بمهاجمة إيران متدنية"!
وحيث هي الحال مع الفلسطينيين وإيران، و"سوريا تعزز من قدراتها، و"حزب الله" زاد من قوته بدرجة كبيرة"، و"المعتدلون العرب" يعانون من هشاشة في شرعيتهم" مما ينبيء بتغييرات دراماتيكية ليست في مصلحة "إسرائيل"، فإن "الهدوء على الجبهة الشمالية وهمي ومضلل"، وعليه، تستنتج "معاريف" أن أية عملية مؤلمة تستدعي رداً قاسياً يؤدي إلى حرب".
ترى لماذا كل هذه المبالغة في تصوير الأخطار والحرص على دق طبول الحرب، بالتوازي مع المسارعة لاغتيال محاولات التهدئة وإحباط آمال التسوويين وتوجيه الضربات المدروسة لأوهامهم؟
إنه كما ضرب المستعربون بحجرهم الدامي التهدئة والمفاوضات، كما بينّا، فهم بهذا الضجيج الرافع فزّاعة الأخطار والمنذر بالانفجار والمبشر باشتعالات الحروب، يضربون عصافير كثيرة:
منها ابتزاز المزيد من الدعم والتأييد والمساعدات، من قبل الغرب، وتحريضه على إيران، ودفعه للمزيد من الضغوط الممارسة أصلاً على الفلسطينيين والعرب لانتزاع المزيد من التنازلات منهم بداعي درء الأخطار المحدقة، وهنا لا نعدم بعضاً من رسالة توجه للقمة العربية المقترب موعد انعقادها آخر الشهر، وفي ذات الوقت، لا يخفي هذا الابتزاز والتحريض جانباً آخراً هو ما كان صدى للهواجس والقلق المزمن الذي قلنا أنه حتام يظل الملازم لطبيعة كيان عدواني قام على الاغتصاب وارتكز قيامه إلى المذابح ونفي وجود الضحية، أو صاحب الحق المغتصب، ولذا لا يرى مثل هذا الكيان من ضمانة لاستمراره غير القوة، وإذا كان وجوده هو في حد ذاته نقيضاً للسلام فهو لا يرى فيه إلا استسلاماً يفرضه على الآخر، وما دام هذا لم يتحقق بعد، وهو لن يتحقق نظراً لطبيعة الصراع وصمود الشعب الفلسطيني، فسيظل من الصعب على الوزير أن ينام في ليل منطقة لا تسمح لها طبيعة هذا الصراع أن تستسلم.