بوش والعراق.. وحرب بدأت بالأكاذيب ولا تستمر إلا بها!
عبد اللطيف مهنا - كاتب وشاعر من فلسطين المحتلة يقيم في سوريا
حرب، ولا كل الحروب. لم يعد أحد في هذا العالم اليوم يجهل، وإن تجاهل الكثيرون، أنه كان قد تم التحضير لها مسبقاً، وهي كانت غزواً مبيتاً، ثبت الآن للجميع أنه كان قد تقرر سلفاً، ثم فيما بعد لحق دور الالتفات إلى وجوب الانتقال إلى حيث مهمة البحث عن تبريراتها، أو الحاجة إلى نسج بيارق ذرائعها، واختلاق مسوّغات دق طبولها.
بدأت الحكاية بأكذوبة، فاثنتين، ثم تناسلتا، فتواتر نسلهما أكاذيب توالت، وكثيراً ما نسخت الواحدة سابقتها، والآن، وبعد احتلال أعقبها للبلد الضحية المستهدف يدخل عامه التدميري السادس، هل يمكن لهذه الحرب الجريمة أن تستمر وقائعاً ونتائجاً واستهدافات، أو أن يبقى الاحتلال المباشر قواعداً عسكريةً، أو الاحتلال المستبدل بالهيمنة الدائمة كنتيجة منشودة لها بدون مثل ما بدأت به من أكاذيب؟!
في البدء كانت الأكاذيب التي تناسلت لتوصل صاحبها اليوم طائعاً، بل مصمماً، إلى حيث لا انفكاك من ربقتها!
لعل هذا هو أول انطباع، بل الأهم، لدى من استمع إلى جورج بوش الابن، الرئيس الأمريكي الذي يعدّ ما بقي له من أيّام في بضعة شهور تبقّت له في البيت الأبيض، وهو يقف بين جنرالااته في البنتاغون، قبل أيّام، محتفياً بمرور خمسة أعوام بالتمام على غزوه للعراق.
في السابق لم يلتفت مفبركوا وضاخّوا سيل الأكاذيب إلى تهافتها وانفضاحها أول فأول و الواحدة تلو الأخرى. المهم عندهم كان هو تسويق الحرب داخلياً و كونياً، وانجاز الغزو و تحقيق استهدافاته الكامنة وراء شنّه، و بعدها، ليصدق باطلها من يصدق، أو ينخدع بها من ينخدع، ومن لا يفعل فماذا بوسعه أن يفعل وقد دارت عجلة آلة الموت الأعظم و الأضخم و الأكثر تطوراً والأبشع هولاً في هذا العالم فانفلتت من عقالها سادرة بلا وازع أو رادع!
في البدء كانت أسلحة الدمار الشامل، فالعلاقات المزعومة مع "القاعدة"، فمكرمة "التحرير"، أو تحرير العراق من دولته ومن عصره، فجلب بركة الديموقراطية إلى بلاد الرافدين و المنطقة... أو الدمقرطة عبر زرع بذور الفتن الطائفية و العرقية بالمحاصصات، لتثمر هذه مشاريع دائمة كانت منشودة لحروب أهلية تؤبد الاحتلال، وتؤدي مهمتها التي لا تبقي ولا تذر، ومن يومها بدأ "التحرير" الذي انتهى إلى "الدمقرطة" بالهدم الممنهج المبرمج لكل أسس الدولة العراقية، لتستبدل الدولة بموعودة يجري تأسيسها وفق المواصفات المطلوبة تحت يافطة بائسة اسمها "العملية السياسية"، العملية السياسية لصاحبها ومرجعها وولي أمرها وصاحب كلمتها الأخيرة، الاحتلال!
حاول الرئيس الأمريكي استعادة زهواً أطل به على العالم بعيد سقوط بغداد، تجاهل خمسة أعوام من كارثةٍ عراقيةٍ متواصلة، وتكاليف حرب أثقلت كاهل دافع الضرائب الأميركي، وتتجسد في اقتصاد يتراجع ودولار يفقد سطوته الكونية، ونتائجها مظاهرات بدأت بأمهات ثكلى، وهكذا حتى عمّت مدناً أكثر فأكثر تجلّت اتساعاً في يوم ذكرى الغزو، ليقول، بعد اعترافه ب"التكلفة العالية في الأرواح والمال"، بأن فعلته كانت "قراراً صائباً" رابطاً، دون أن تهمه الحقائق، جرائم الغزو المستمرة، واستمرارية فظاعة الاحتلال، بمعركته العالمية ضد "القاعدة"!
فهو دائماً مستعد لأن يؤكد ما ذهب إليه طيلة الأعوام الخمسة المنصرمة، وهو أن بلاده قد أصبحت على الطريق الذي أراده هو لها لتحقيق "نصرٍ استراتيجي" على الإرهاب، أو هذا العدو اللامرئي الممنوع من التعريف. وعليه، يصرّ على أن يخبر شعبه ليس للمرة الأولى ولا الأخيرة بحقيقة ربما هو يراها وحده دون سواه، وهي، كما يقول، تتمثل في أن "النجاحات التي نراها في العراق لايمكن إنكارها"!
بيد أن بوش الذي لاشك يعلم أن لا أحد يصدقه، حتى في بلاده، باستثناء بقايا من لم يتخلّى عنه من المحافظين الجدد بعد، ومرشح الحزب الجمهوري لخلافته جون ماكين، يعود فيكرر ما كرره بلا عدد طيلة الخمسة أعوام السابقة، ربما ليطمئن نفسه قبل تطمين سواه، أو إمعاناً في خداع مستمعيه، و بذات المقولة: إنها "معركة يمكن لأمريكا أن تكسبها ويجب أن نفعل ذلك"!
أما مبرر هذا الإصرار لديه، فهو هو، أي ما عهدناه منه: "لأننا تحركنا، فإن العالم أصبح أفضل، وأمريكا أكثر أمناً"!
أما لماذا يقول "يجب أن نفعل ذلك"، والكلام يوجهه لثلثي الأمريكان، الذين يقولون اليوم، وفق الاستطلاعات، أنها حرب لم تستحق عناء شنّها، وغالبية منهم تؤمن أن لا إمكانية لنصر فيها، ومن بين هؤلاء ما نرى من المتظاهرين الذين يرفعون شعارات، مثل "لا للدماء من أجل النفط"؟!
فلأن، وهذه إجابته، "المكاسب التي حققناها هشّة ويمكن أن تضيع"، كما أن "التراجع الآن سيقوى شوكة تنظيم القاعدة وإيران"، اللتين يعلم الأمريكان، أو أغلبهم، أنه لم يكن للأولى وجود في العراق قبل غزوه، ولا للثانية تأثير قبل ذلك.
وأخيراً، فالمهم عند بوش هو إقناع من يخاطبهم، أو من هم على رأس قائمة ذلك، أي الأمريكان، أن إرسال المزيد من الجنود إلى العراق من شأنه أن "فتح الباب أمام نصر استراتيجي كبير" في حربه الكونية الشاملة على عدوه المسمى الإرهاب!
وعليه، فهو يحذر معارضي حربه هذه في بلاده من أنهم "لن يحظوا بمصداقية بعد الآن إذا قالوا أننا نخسر الحرب"، وهنا، ربما بهدف تعنيفهم، يذكرهم، وهو يقف على أطلال العراق، وأجداث أكثر من مليون ضحية عراقية، ومتسبباً في تشريد ما يقارب الثمانية ملايين إنسان، نصفهم في منافي الخارج ومثلهم في حقول رعب الداخل، بمنجزه الاستراتيجي هذا، بالإشارة إلى مبتكره الأخير المعروف ب"مجالس الصحوة" العراقية، التي هي عنده "أول انتفاضة عربية واسعة النطاق"، وإن أحجم متواضعاً عن ذكر ما دعي بمؤتمر المصالحة العراقية الأخير، الذي حضره من لا يختلفون وحدهم!!!
... بوش، لم يقل في خطابه وهو يحتفل بذكرى غزوه للعراق، ويستعد لأن يودّع البيت الأبيض، ما تقوله الإدارة بلغات شتى، ويكرره بعض من متصالحي من لا يختلفون لا مع أنفسهم ولا مع الاحتلال، بأن بقاء الاحتلال يمنع الحرب الأهلية التي زرع الاحتلال بذرتها!!!
... لكنه هذه المرة، ولأول مرة، لم يعد مستمعيه بنصر صريح، كما كان يقولها طيلة الخمس سنوات السالفة، أو بذات النبرة المكررة سابقاً، وإنما كان منه، وحيث الحرب دارت طاحونتها بوقود من الأكاذيب، أن أخبرهم ضمناً:
لكي لا تتوقف طاحونتها، أو حتى إن أجبرت عليه، فلا بد لها من ذات الوقود..!
هذا هو شأن بوش بعد خمسة أعوام على غزو العراق، وقبل شهور من مغادرته للمكتب البيضاوي، إنها ذات الأكاذيب التي لم ولن تخفي دوافع هذا الغزو واستمراره... دوافعه الإمبراطورية الحقيقية، ببوش ومن دون بوش، وهي:
الإمساك بتلابيب العالم عبر وضع اليد على النفط، ليس في العراق وحده، وإنما في المنطقة بأسرها... وبسط الهيمنة على منطقة هي سرّة العالم استراتيجياً، وسبب آخر لا يتبدل دائماً: هو "أمن إسرائيل"!!!
أي إنها دوافع استراتيجية إمبراطورية أميركية لن تتغير بعد بوش، حتى وإن لم يفز جون ماكين، وفازت هيلاري كلينتون أو حتى باراك أو باما، فالفارق حينئذٍ بين من خسر أو فاز هو بين من يريد نوعاً من بقاء لجيوش الغزو، ومن يريد سحبها مع بقاء الهيمنة!!!