أباطرة النفط عمالقة لكنهم يترنّحون!

نصر شمالي- سوريا

وأخيراً سجّل الخام النفطي الخفيف في الولايات المتحدة سعراً قياسياً جديداً بلغ مستوى 100.40 دولار! وقد صرّح أحد المعنيين بهذا الشأن في لندن أنّ الأسعار لن تبقى عند هذا المستوى بل سترتفع على الدوام فوق مستوى المئة دولار، متوازية مع أسعار المعادن والسلع الأخرى بنسب أكبر! وأضاف أنّ ضعف الاقتصاد الأميركي لم يحدّ من ارتفاع أسعار الطاقة بعد النشاط في الأسواق الآسيوية والأسواق الناشئة، وبعد ارتفاع نسب استهلاك السلع في اقتصاديات الخليج والصين والهند وحتى في أوروبا! وقد تزامن ارتفاع سعر النفط مع التدهور المزمن في سعر صرف الدولار، الأمر الذي سيجعل الدول التي لا ترتبط عملاتها بالعملة الأميركية قادرة على استيعاب زيادة أسعار النفط واحتوائها!

إنّ هذا الذي طرأ ويطرأ على أسعار النفط بالعملة الأميركية من حيث الارتفاع، وقدرة الدول التي لا ترتبط عملاتها بالدولار على استيعاب زيادة الأسعار واحتوائها، يذكّرنا بالعهد الوطني في العراق قبل احتلاله، حين اتخذت الحكومة الوطنية العراقية قرارها الشجاع الصائب عام 2000 بالتحوّل من الدولار إلى اليورو، فكان ذلك أول قرار من نوعه في العالم، وكان ثالث خطوة عراقية تاريخية في هذا الميدان بعد خطوتي تأسيس منظمة الأوبك للدفاع عن حقوق البلدان المنتجة، وبعد تأميم النفط العراقي!

لقد جنّ جنون أباطرة النفط الأميركيين العمالقة بعد قرار حكومة العراق الوطنية بالتحوّل من الدولار إلى اليورو، وبعد أن كادت دول الأوبك بمجموعها تحذو حذوها أثناء اجتماعها في إسبانيا عام 2002، فكان ذلك سبباً آخر إضافياً لاحتلال العراق له طابع الانتقام، أما عن غير مجرّد الانتقام فقد توقّعوا باحتلال العراق ليس فقط قطع الطريق على نهجه الوطني القابل للانتشار السريع في العالم، بل قلب الموقف الدولي رأساً على عقب لصالحهم بعد السيطرة على العراق ونفطه والتحكّم بكميات إنتاجه، ورفعها إلى الضعف ثم الضعفين فور احتلاله وعلى مدى سنتين أو ثلاث! لكنّ الموقف انقلب ضدّهم وليس لصالحهم رأساً على عقب، بعد أن فشل برنامج الاحتلال فشلاً ذريعاً أمام صمود الشعب العراقي وفعالية مقاومته الجبارة غير المرتدّة!

لقد راح أباطرة النفط الأميركيون العمالقة يتخبّطون ويترنّحون قبل أن يمرّ عام واحد على احتلال العراق، فمنذ مطلع العام 2004 كان قلق الإدارة الأميركية قد بات عظيماً إلى الحدّ الذي جعلها تعلن "أنّ انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط (كما تسمّي بلادنا) وما ترتّب على ذلك من اضطرابات في العلاقات النفطية مع روسيا وفنزويلا، يستدعي تحقيق نوع من الاستقلال النفطي الأميركي!" فأيّ سحر انقلب على الساحر الأميركي الذي كان يعتقد أنّه وضع يده على ما يفوق 400 مليار برميل من المخزون النفطي العراقي، وإذا به بعد الاحتلال عاجز عن إنتاج كمية المليون برميل التي كان ينتجها العراق في ظلّ الحصار المحكم الرهيب؟ ليس هذا فحسب، بل إنّ سعر البرميل الواحد من النفط ارتفع عام 2004 إلى أكثر من 49 دولاراً، أي بزيادة أربعة أضعاف عن سعره عام 1998، أما في العام الحالي 2008 فقد تضاعف سعره ليتجاوز المئة دولار!

في عقد السبعينيات من القرن الماضي أدّى حظر النفط الذي فرضته (أوبك) إلى رفع الأسعار بصورة هائلة، فدفع ذلك الكونغرس الأميركي إلى الترخيص ببناء خطّ أنابيب نفط ألاسكا، بطول 1287 كيلو متراً وبكلفة ثمانية مليارات دولار، علماً أنّ تكاليف الإنتاج في هكذا مناطق تزيد عشرين مرّة عن تكاليفها في بلادنا! وقد تباطأ العمل في ذلك المشروع إلى ما بعد احتلال الأميركيين للعراق وفشل برنامجهم النفطي فيه فشلاً ذريعاً، فلو نجح برنامج احتلالهم كما قدّروا وتوقّعوا لكانوا استغنوا نهائياً عن بذل أي جهد في أصقاع ألاسكا القطبية، وإذا بهم يهبّون في العام 2004 لإحياء وإطلاق مشروع ألاسكا، حتى أنّه صار من أولويّات الرئيس بوش في ولايته الثانية! وقد قدّروا أنّ ما مجموعه ثلاثة مليارات برميل يمكن استخراجها في المنطقة القطبية بكلفة تصل إلى 20 دولاراً للبرميل! بينما تجدر الإشارة إلى أنّ كلفة البرميل العربي دولار واحد تقريباً في بعض البلاد العربية! ومع ذلك طمأنوا أنفسهم بربحية لا بأس بها في ألاسكا قياساً بسعر المبيع الذي بلغ 49 دولاراً! وهكذا اندفع أباطرة النفط الأمريكيون العمالقة نحو ألاسكا يترنّحون بعد فشلهم في العراق، فاقترحوا فتح عدّة آبار جديدة فيها قبالة ساحل الملاذ القطبي، في منطقة احتياطي النفط القومي كما يسمّونها، غرب خليج برودهو، وراحوا يضعون الخطط المفصّلة لتمديد خطوط أنابيب من برودهو إلى كندا، وجنوباً إلى منطقة الفالديز في ألاسكا!

لقد أصرّ الرئيس بوش على تطوير حقول نفط ألاسكا رغم النكسات التي منيت بها مقترحاته الخاصة بالطاقة أمام الكونغرس، ورغم مقاومة المدافعين عن الطبيعة والبيئة الذين يقولون أنّ الإمكانيات النفطية في المنطقة القطبية ضئيلة إلى الحدّ الذي لا يبرّر التهديد البيئي الذي تمثّله! أمّا نائب الرئيس ديك تشيني فقد قال بصلفه المعهود: "نحن تحت رحمة أسعار النفط الدولية بسبب اقتطاعنا أجزاء كبيرة من البلاد وجعلها محرّمة على أيّ نوع من التنقيب والتطوير فيها"! لقد كان ذلك في العام 2004 عندما بلغ سعر برميل النفط 49 دولاراً، وكان مجرّد كلام غير مسؤول يصدر عن عملاق نفطي مترنّح، فكيف هو الحال اليوم وقد بلغ سعر البرميل مئة دولار؟

في الحقيقة، ينبغي الانتباه إلى أنّ الزيادة في أسعار النفط هي تماماً في صالح بعض الشركات الأميركية، لكنها قطعاً في غير صالح الولايات المتحدة عموماً، وفي جميع الأحوال فإنّ الإدارة الأميركية الخائبة في العراق، وبسبب ما ترتّب على خيبتها النفطية العراقية من مضاعفات خطيرة مع عدّة أطراف دولية، تحوّلت منذ مطلع العام الحالي إلى الوقود النباتي، فهي تريد استخلاص الطاقة البديلة للنفط من القمح والذرة وفول الصويا وقصب السكّر، ولنا أن نتخيّل ما سوف يترتّب على ذلك من مآس بشرية، ناهيكم عن الجدوى المشكوك بأمرها جداً! فإذا دلّ ذلك على شيء فإنما يدلّ على أنّ العمالقة يتخبّطون ويترنّحون، أما الحلّ الصحيح لمشكلة الطاقة وغيرها من المشاكل الأساسية التي يواجهها العالم فسوف يظهر ويأتي من جهات أخرى لا علاقة لها بهم، ولعلّ ذلك لم يعد مستحيلاً ولا بعيداً.