كيف لا يخجل الطّغاة المتألّهون؟
نصر شمالي- سوريا
أثناء
زيارته لمنطقتنا العربية، وعلى مدى ثمانية أيام، تجوّل الطاغية العالمي الأميركي في
بلادنا كإقطاعي من القرون الأوروبية الوسطى يتفقّد ممتلكاته! لقد ذكّرتنا تصرّفاته
الشاذة وتصريحاته الغريبة بآخر الطغاة الرومان والفرس قبل انهيار عروشهم، فهو تحدّث
عن المزيد من الحروب والدّمار الشامل، غير آبه للويلات والفظائع من حوله وتحت سمعه
وبصره، في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، فنزل في فلسطين لأيام وغادرها ضاحكاً
من دون أن يلتفت للمذابح "الإسرائيلية" على مدار الساعة ضدّ الأطفال والنساء
والشباب والشيوخ، بل أوصى عملاءه "الإسرائيليين" بالمزيد منها! وإنّ الإنسان
الطبيعي ليصعق وهو يرى أمثال هذا الطاغية يتحكّمون بشعوب العالم أجمع، بل يعرّضون
كوكب الأرض بكامله لخطر الدمار الشامل!
إنّ الذاكرة البشرية الجمعية، عندما تستعرض وقائع العصر الأوروبي الأميركي، التي تفوق في هولها جميع أوصاف الجحيم، فسوف يكون غريباً أن لا تصاب بالإعياء والتشويش والكآبة، ولسوف يكون طبيعياً أن تلجأ إلى الاسترخاء، والعودة إلى البدايات، في محاولة مشروعة ومفهومة للإمساك بالسياق التاريخي البشري الذي أضاعه طغاة هذا العصر الاحتكاري الربوي، وهي عندما تحاول ذلك لا بدّ أن تستردّ شيئاً من روعها وصفائها، باستحضار المآثر الخالدة للأجداد العظام من الأنبياء والرسل، الذين كانوا يشفقون على الإنسان شفقة الأم على رضيعها، فيتوجّهون إلى عقله عبر روحه، وإلى معارفه ومواهبه عبر إنسانيته، ويناضلون من أجل تنظيم أشغاله وأعماله ومعيشته عبر تهذيبه وتربيته، لأنّ الإنسان كان هدفهم ووسيلتهم في آن معاً، به يتحقق كلّ شيء ومن دونه لا يتحقق أيّ شيء، وعلى هذا الأساس رأيناهم يتطلّعون إلى مجتمعات إنسانية تعي المعنى والعبرة والجدوى في دورة الحياة، فتتوازن وتنسجم مع الوقائع المرئية المحسوسة ومع الوقائع المفترضة غير المرئية ولا المحسوسة في دورة الحياة، وهي الدورة التي لم يقرّر الإنسان بدايتها ولا نهايتها، لأنّه مثله مثل بقية الكائنات، عظيمها وحقيرها، يمرّ بأطوار الحياة المتوالية كرحلة قصيرة مشتركة، تتوالي مثل الفصول الأربعة، من البزوغ إلى الأفول، ومن الانبثاق والتعاظم إلى الاضمحلال والتلاشي، ومن الوجود إلى العدم!إنّ إرادة الإنسان، وحرّيته، ومسؤوليته المباشرة، تقتصر على مراحل ما بعد البداية وما قبل النهاية، فهو يمارس حريته في اختيار نمط حياته، لكنه لا يستطيع أبداً اختيار بدايته ونهايته!
إنّ البدايات والنهايات ليست في متناول إرادة الإنسان، غير أنّ الظلم والعدل هما في متناول إرادته ومن صنع يديه! لكنّ الطّغاة على جميع مستوياتهم لا يأبهون لذلك، فتراهم يندفعون وراء مصالحهم الخاصة كأنّهم مخلّدون، غير أنّ مصالحهم لا تتفق مع الاحتياجات المفهومة والمشروعة للإنسان الطبيعي العام، بل تتعدّاها إلى أحجام هي في مستوى أمم وأجيال، وليس في هذا القول أيّة مبالغة، فاليوم هناك بضع عشرات من الأفراد يملكون من الثروة ما يفوق ملكية بضع عشرات من الدول والأمم، وهؤلاء الأفراد يتصرّفون فعلاً كأنّهم مخلّدون، ولا يأبهون لهلاك الملايين كل يوم بسبب الفاقة والمرض وهم القادرون حقّاً على إنقاذهم دون أن تتأثّر مواقعهم وأنماط حياتهم! ويحدث هذا، بالطبع، بسبب حرمان الإنسان العام من ممارسة حرياته ومسؤولياته المباشرة التي تنشد العدل عموماً، وهذا الحرمان بلغ أوجه في العصر الراهن الأوروبي الأميركي الذي قسّم البشرية جمعاء إلى خمس ذهبي مرفّه رفاهاً وحشياً وأربعة أخماس بائسة يعاني ثلثها على الأقل من حياة تشبه الاحتضار!
إنّ الطّغاة لا يأبهون أنّ الحياة البشرية مجرّد رحلة قصيرة جدّاً، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات، فقبل عشرة آلاف عام تقريباً، حين بزوغ فجر الزراعة في بلادنا هذه عام 8000 قبل الميلاد، كان عدد سكان هذه البقعة المأهولة من كوكب الأرض في حدود خمسة ملايين نسمة، وكانت الحياة المجتمعية التي يتميّز بها الإنسان عن الحيوان قد بدأت في بلادنا فقط، لأسباب أهمّها صلاحيتها المناخية للحياة المجتمعية، أما المناطق الأخرى فكان عليها أن تنتظر آلاف السنين قبل أن تصبح صالحة لظهور الحياة المجتمعية التي تسمح لإنسانها بالانتقال من الحالة الوحشية شبه الحيوانية إلى الحالة المجتمعية الإنسانية!
كذلك فإنّ الطغاة لا يأبهون إلى أنّ عدد سكان كوكب الأرض كان في حدود 200 مليون نسمة في العام الذي ولد فيه السيد المسيح، بل هم لا يأبهون أنّ المسيح فلسطيني، فيذبحون أحفاده ويحرقون أرضه! وفيما بعد، في القرن السابع الميلادي، حين انطلقت الدعوة الإسلامية مكمّلة ما بدأه السيد المسيح، لم يكن عدد سكان كوكب الأرض قد زاد كثيراً عنه يوم ميلاد المسيح، ولعل سكان العالم المعروف آنذاك بأجمعه لم يكن تعدادهم يتجاوز الربع مليار نسمة! غير أنّ الطغاة لا يأبهون لذلك، ولا يلتفتون إلى أنّ حياة البشرية هي من القصر والضآلة بحيث لا يبدّدها إلاّ الحمقى والمتوحشون، خاصة عندما نتذكّر أنّ عمر الشمس يقدّر بأكثر من أربعة مليارات عام، لا يشكّل عمر البشرية قياساً به أكثر من ومضة!
إنّ عدد سكان كوكب الأرض لم يبلغ المليار نسمة حتى العام 1850! أي حتى ما قبل قرن ونصف القرن من الزمان تقريباً فقط! وحسب تقديرات العلماء يفترض أنّ خمسين مليار إنسان ولدوا وعاشوا على سطح الأرض منذ عهد الإنسان الأول وحتى يومنا هذا، فإذا كان عدد سكان الأرض اليوم حوالي ستة مليارات أو أكثر فإنّه يشكّل حوالي سدس العدد الإجمالي لكلّ البشر الذين سكنوا الأرض!
لقد قلنا ما قلناه عن سكان الأرض من البشر، في رحلتهم القصيرة المأساوية التي لا يدّ لهم في بدايتها ولا نهايتها، كي نتساءل بكل براءة، أو سذاجة: كيف لا تحمرّ وجوه الطغاة المتألّهين خجلاً عندما يعودون إلى أنفسهم ويلقون نظرة على مسيرة الحياة البشرية البسيطة القصيرة؟ كيف لا تأخذهم الشفقة والرحمة؟ لكننا نعرف أنّ الشفقة والرحمة والخجل عواطف إنسانية إيجابية يتحلّى بها الأسوياء، بينما هم قطعاً غير أسوياء يفتقرون تماماً لمثل هذه العواطف، ولذلك لا يبقى أمام البشرية سوى التصدي لهم، لوضع حدّ لشرورهم، ولتحرير إرادتها كأعزّ ما تملكه بعد البداية وقبل النهاية!.