بوارجهم الحربية هي سياستهم النفطية!
بقلم: نصر شمالي - سوريا
تجوب شوارع العالم على مدار الساعة أكثر من نصف مليار سيارة، ولنا أن نتخيّل حجم استهلاك هذه السيارات للطاقة من جهة وحجم التلوث البيئي المدمّر الذي تسببه من جهة أخرى! وفي ما يتعلّق بالاستهلاك وبغضّ النظر عن التلوّث فإنّ ما تستهلكه السيارات على ضخامته الهائلة يبقى محمولاّ قياساً بما تستهلكه قطاعات الحياة الأممية الأخرى جميعها، السلمية والحربية، البرّية والبحرية والجوية، الصناعية والخدمية، العامة والمنزلية، خصوصاً في البلدان الثرية حيث المليار البشري الذهبي، فالحياة المعاصرة صارت تعتمد في أدقّ تفاصيلها على النفط، والنفط سلعة محدّدة زائلة، فماذا سيحدث للحياة البشرية في حال زوال هذه السلعة جزئياً ثم كلياً، بينما بدائلها لم تتبلور بعد ولا يبدو أنّها سوف تتبلور بصورة كافية ومجدية في المدى المنظور؟
الاحتكار إضافة إلى الأزمة العامة!
غير أنّ مشكلة الطاقة لا تقف عند حدود الأزمة العامة المتعلقة بحجم الاحتياطي النفطي العالمي العاجز مستقبلاً عن تلبية احتياجات الحياة الأممية، بل تتعدّاها إلى الاحتكار الأميركي الذي يزيد الأزمة استفحالاً ويجعل من النفط سبباً لحروب الدّمار الشامل، فالولايات المتحدة تهيمن على قطاع النفط العالمي في معظمه، من منابعه إلى مصباته إلى أسواقه وميادين استهلاكه، وهي كلما انخفض حجم الاحتياطي العالمي كلما ازدادت شراسة في تأكيد وتثبيت هيمنتها، والسبب أنها لوحدها تستهلك حوالي ربع الاستهلاك العالمي (أكثر من 21 مليون برميل يومياً!) علماً أن عدد سكانها لا يتعدّى 6% من سكان العالم، ويشكل النفط العربي 12% من هذا الربع بمزاياه المتفوقة نوعاً وتكلفة، ولذلك تحوّلت المنطقة العربية منذ عقود طويلة إلى جبهة للحروب الأميركية المفتوحة!
غير أنّ المسألة لا تقتصر على تأمين الاحتياجات الأميركية من النفط، بغض النظر عن كونها منطقية أو غير منطقية، بل تريد واشنطن بسيطرتها على النفط السيطرة على الأسواق الدولية، والتحكّم بالسياسات الدولية، والاحتفاظ بمكانتها كعاصمة إمبريالية، أي إمبراطورية، يخضع العالم لإرادتها، حيث السيطرة على النفط تعني التحكم بنسغ أو دماء الحياة الأممية! لكنها في خطابها الرسمي لا تقول ذلك طبعاً، بل تتحدّث عن الاقتصاد العالمي الذي لا يحتمل أية خضّات أو انقطاعات للإمدادات النفطية، وأنها ملزمة بأن تأخذ على عاتقها التصدي للاضطرابات السياسية في مناطق النفط وتوفير الغطاء العسكري الرادع، والدفاع عن حقول النفط ومنشآتها وطرق مواصلاتها، وإتباع حتى أسلوب "الحرب الاستباقية" لضرب الحكومات التي تهدد النظام الإقليمي، العربي خاصة، الذي هدّده الاتحاد السوفييتي في الماضي والعراق بالأمس وتهدّده إيران اليوم!
القوات العسكرية غير كافية لوحدها!
في المقام الأول، تعتمد واشنطن على قواتها العسكرية في تأمين إمدادها بالنفط من منطقة الخليج العربي، وهي لا تسمح أبداً لأية قوة إقليمية أو دولية بمزاحمتها في هذه المنطقة حتى لو كانت صديقة أو حليفة، لكنها اقتنعت مع الوقت أنّ القوات العسكرية غير كافية لوحدها من أجل ضمان مصالحها وهيمنتها في الخليج، ولذلك وافقت على تأسيس وكالة الطاقة الدولية وعلى توفير مخزون استراتيجي نفطي يكفي الاستهلاك المحلي في كل دولة عضو لمدة ثلاثة أشهر، وبالطبع فإنّ مهمة هذه الوكالة هي تعزيز الاحتكار الأميركي ودعمه وليس منافسته ومزاحمته، كذلك وافقت واشنطن على المساهمة في مجال توفير بدائل النفط، وعلى غير ذلك من الإجراءات التي تدعم هيمنتها ولا تهددها، غير أنها عزّزت في الوقت نفسه علاقتها الخاصة بالمملكة السعودية أمنياً وسياسياً لتبلغ مستوى العلاقة العضوية حقاً، والتي لا يستطيع أيّ منهما الفكاك منها دون أن يتعرّض لانهيار خطير! وقد اعتقد المحافظون الأميركيون الجدد أنّ تغيير النظام العراقي واحتلال العراق والسيطرة على نفطه سوف يحرّرهم من الارتباط العضوي بالمملكة السعودية، وأنهم بتملكهم للنفط العراقي (الاحتياطي الإجمالي العراقي يفوق 400 مليار برميل) سوف يسيطرون أكثر على أسواق النفط وفي جملتها السوق السعودية، غير أنّ الاحتلال فشل في تحقيق هذا الهدف العظيم، وها هم يصارعون اليوم في العراق فقط من أجل رفع مستوى الإنتاج النفطي إلى الحدّ الذي كان عليه قبل الاحتلال وفي ظلّ الحصار الطويل المحكم، أي إلى مليونين ونصف المليون برميل تقريباً!
خطّ الدفاع النفطي الأول!
لقد اضطربت أسواق النفط الدولية عام 2003 بسبب اضطراب الأوضاع الداخلية في فنزويلا، وتدمير بعض خطوط الإمداد النيجيرية، والحرب في العراق، فكانت تلك مناسبة لاختبار الحاجة إلى مخزون الدول الأعضاء في وكالة الطاقة، وإذا بهذه الدول، ويا للعجب، لا تحتاج إلى مخزونها الاحتياطي الاستراتيجي لأنّ دول الخليج بقيادة السعودية سدّت النقص في حاجة الأسواق، فبرهنت بذلك أنّ منظمة دول الأوبك (حامية المنتجين) هي خطّ الدفاع الأول عن المستهلكين الشرهين الاحتكاريين! والحال أنّه، منذ 16/12/1991 ليلة البدء بعملية "عاصفة الصحراء" ضدّ العراق، وضعت موضع التنفيذ أسس التنسيق الاستراتيجي بين واشنطن ووكالة الطاقة الأميركية ووزارة النفط السعودية، وهو تنسيق دقيق تمّ من دون ضجيج إعلامي، مفاده أن يجري ضخّ كميات محدّدة من النفط للتعويض عن أيّ نقص يحصل نتيجة العمليات الحربية، وقد وفّر هذا التنسيق المستمر وغير المعلن الأرض الصلبة للتعاون بين الطرفين من أجل التحكم بالأسواق النفطية الدولية من حيث الإمداد والأسعار!
وماذا عن الكيان الصهيوني؟
قبل احتلال العراق سئل أحد وزراء الخارجية الأميركية السابقين عن سياسة بلاده النفطية فأجاب: "سياستنا النفطية هي بوارجنا البحرية"! وبالطبع، فإنّ الكيان "الإسرائيلي" ليس في التحليل الأخير سوى حاملة برّية للطائرات الحربية لها دورها الهام في "السياسة" النفطية الأميركية، وقد حاول "المحافظون الجدد" مكافأة "الإسرائيليين" بعد احتلال العراق، بإشراكهم جزئياً في المشاريع النفطية، وذلك بإعادة فتح أنبوب كركوك-حيفا، وكان من المقرّر تنفيذ ذلك على الفور والانطلاق في عملية تصدير النفط عبر ميناء حيفا، حيث تبيّن أنّ تفاهماً تمّ بين أحمد الجلبي وبعض أعضاء الإدارة الأميركية حول هذا الموضوع، غير أنّ التطورات المذهلة في أداء المقاومة العراقية جعلت مثل هذا المشروع غير قابل للتحقيق، وكيف لا والمشاريع الأساسية الأميركية العظمى في العراق قد تعثّرت جميعها وأصبحت عرضة للفشل الذريع؟