الدولار يترنّح والعالم يتأهّب: هل يبقي الملك ملكاً؟

نصر شمالي - سوريا

تؤكّد المراكز المالية في العالم أنّ الدولار الأمريكي الملك يتآكل، وأنّ تآكله يمكن أن يستمرّ إلاّ إذا حدث ما يوقفه حتى نهاية العام الحالي 2008، وهذا الذي يمكن أن يحدث هو تكهّن من قبل البعض الذي يعتقد أنّ الإدارة الأمريكية تسيطر على الزّمام المالي والاقتصادي عموماً داخل الولايات المتحدة وخارجها، وأنّ انخفاض قيمة العملة الأمريكية يتمّ بمعرفتها بناءً على خطة موضوعة لها أهدافها الداخلية والخارجية المحدّدة! أنها تكهّنات أو تمنّيات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والبنوك المركزية الكبرى التي تعتمد الدولار كاحتياطي رئيسي، تعلن أنّها توقّعات! أن ملك العملات يترنّح حقاً فهل هي مجرّد وعكة عابرة؟

وأيّاً كان الحال فهل تستطيع المؤسسات التابعة له أن تقول غير ذلك، وهل يمكن أن يصدر عنها سوى تمنياتها بالشفاء العاجل لصاحب الجلالة؟ إنهم يهمسون أنّ العلّة الخفيّة مصطنعة، وأنّ السبب يكمن في سياسة اقتصادية سرّية وضعتها الحكومة الأمريكية بهدف ترويض وضبط اقتصاديات العالم المتمرّدة، خاصة الصينية والروسية والهندية! غير أنّ مثل هذا التفسير لا يصمد أمام سبب واقعي مثل الخسائر الحربية الهائلة التي تمنى بها القوات المسلحة الأمريكية في حروبها الخارجية، فالجيوش الأمريكية المنتشرة في أنحاء العالم هي الدعامة الأولى لمكانة وسيادة الدولار الملك، وها هي في العراق تستنزف حتى الآن ما يزيد علي ثلاثة تريليونات دولار، أي ثلاثة آلاف ملياراً، ذهبت جميعها هدراً وليس في ميادين الاستثمار والإنتاج!

غير أنّ الكتلة الأعظم من الاحتياطي المالي العالمي في المصارف المركزية العالمية ما زالت من نصيب الدولار الملك، فهي تشكّل 64,8 في المائة من هذا الاحتياطي، مقابل 25,6 لليورو الأوروبي، و4,7 للجنيه الاسترليني الانكليزي، و2,8 للين الياباني، و2,1 لباقي العملات الصعبة الأخرى!

لقد احتفظ الدولار بهذه المكانة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء في فترات أزماته أم في فترات ازدهاره، بفضل الهيمنة العسكرية الأمريكية العالمية، وما استجدّ اليوم هو دخول وسيلة هيمنته الأولى العسكرية في طور الأزمة الخطيرة، كما نرى في العراق!

وجدير بالذكر هنا، من باب المقارنة والاستئناس، أنّ 80 في المائة من الكتلة النقدية الدولية في العام 1910 كانت في قبضة أربع دول! فمن أصل 600 مليار هي الاحتياطي النقدي العالمي آنذاك كانت انكلترا تستأثر بمبلغ 142 ملياراً، والولايات المتحدة الأمريكية 132 ملياراً، وفرنسا 110 مليارات، وألمانيا 95 ملياراً، أما بقية الاحتياطي النقدي العالمي (121 ملياراً) فكانت موزعة بنسب متفاوتة على بقية بلدان العملة الصعبة وعددها حوالي 12 دولة أوروبية كبيرة وصغيرة، بينها اليابان فقط من خارج أوروبا! ولنلاحظ هنا أنّ انكلترا رغم انحدارها المتواصل، بعد الحربين العالميتين، ظلت تحتفظ بمكانتها بين الأربعة الكبار، وإن تخلّت عملتها عن العرش لصالح ابنتها العملة الأمريكية!

ولكن، في رؤيتنا لأزمة الدولار الأمريكي، وحتى للأزمة العسكرية الأمريكية، ينبغي التمييز بين مدلولاتها على المدى القريب والمتوسط والتاريخي البعيد، فالعالم المقهور يحقق معظم نجاحاته بالنقاط كما يقول الرياضيون، النقاط التي لا تعدّ ولا تحصى.

أما الانعطافات الايجابية الحاسمة التاريخية فهي نادرة ومعدودة، وهذا يعود إلى تشابك العلاقات الإنسانية واندماجها عضوياً إلى حدّ يفوق تشابك واندماج المواد الكيماوية بما لا يقاس! وهكذا فانّ أزمة الدولار لا ينعكس أثرها علي الولايات المتحدة فحسب، ولا يكون سلبياً في جميع القطاعات وفي جميع الولايات الأمريكية، بل يكون ايجابياً في بعضها، فعلي سبيل المثال حقق الانخفاض الراهن لسعر الدولار وفراً كبيراً في عجز الميزان التجاري لصالح الصادرات الأمريكية إلى الأسواق الدولية، ومكّن هذه الصادرات من المنافسة، بينما تضرّر المورّدون إلى الولايات المتحدة بسبب ارتفاع أسعار العملات الأخرى وتراجع قدرتها على المنافسة!

تستطيع الولايات المتحدة إرغام الآخرين على مشاركتها تحمّل أعباء أزمتها، بسبب تحكّمها بالسلع الغذائية والمنجمية والنفطية وبتسعيرها وتحرير عقودها بالدولار، ولكن إلى متى؟ فها هو المصرف المركزي الصيني يباشر تقليص حجم احتياطه بالدولار متحوّلاً إللا اليورو وغيره، وها هي شركات آسيوية مثل هيونداي الكورية لا تقبل عقوداً محرّرة بالدولار، وها هم الفرنسيون يوقّعون عقوداً مع الصينيين باليورو، وتلك شركات هندية لم تعد تقبل أبداً التسديد بالعملة الأمريكية، أمّا الدول المصدّرة للنفط فلا تزال تعتمد الدولار في التسعير، ما عدا إيران وفنزويلا، لكنّ الموضوع بات مطروحاً بإلحاح على دول مجلس التعاون الخليجي النفطية رغم ارتباطها الوثيق بالولايات المتحدة وبدولارها، ورغم أنّ السعودية أكّدت قبل أيام أنها لن تفكّ ارتباطها بالدولار! وبالطبع فأنّ الوضع الخاص لدول مجلس التعاون، من حيث ضخامة الموارد وضآلة القوى الاجتماعية، يجعل تأثّرها بأزمة الدولار أو غيرها محدوداً، فهي ليست مسؤولة عن مئات الملايين من أهلها العرب، وقادرة على تحمّل الأزمة مستعينة بارتفاع سعر النفط، ولكن إلى متى والتصدّع الأمريكي حقيقي وانعكاساته لن تقف عند حدّ، ربما على المدى المتوسط؟ أنّ العالم يتأهّب لعصر ما بعد الدولار فلماذا لا يتأهّب العرب؟