"سرية" المفاوض الفلسطيني تفقد مبرراتها

بقلم: نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين المحتلة

إن الجدل الدائر "دون حسم" حتى الآن بين رئيس وزراء دولة الاحتلال "الاسرائيلي" "ايهود اولمرت"، الذي كرر خلال الأسبوع الماضي الإعلان عن اتفاقه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على تأجيل التفاوض على القدس المحتلة إلى آخر مرحلة في المفاوضات، وبين شريكته في عملية السلام منظمة التحرير الفلسطينية، التي كرر كبير مفاوضيها لقضايا الوضع النهائي احمد قريع ومثله رئيس دائرة المفاوضات فيها صائب عريقات نفي أي اتفاق مع" اولمرت" حول التأجيل، إن هذا الجدل هو أحدث مثال على الأسباب المشروعة للقلق العميق الذي يساور الرأي العام الفلسطيني حول السرية المفروضة بإحكام حتى على تفاصيل الاتصالات والمحادثات "العلنية" الجارية بين الطرفين في معزل عن أي مشاركة أو رقابة شعبية أو مؤسسية فلسطينية.

والضغوط الخارجية الضخمة على الرئاسة الفلسطينية التي تحول حتى الآن دون استئناف الحوار الفلسطيني ودون الاستجابة للمطالب الشعبية والرسمية الوطنية والعربية والعالمية للعودة إلى الوحدة الوطنية، ملوحة بإعادة فرض الحصار المالي والسياسي على الرئاسة الفلسطينية إن هي استجابت لهذه المطالب، تزيد القلق الوطني من احتمال أن تنجح هذه الضغوط في انتزاع تنازلات استراتيجية طالما هي ضغوط مؤثرة وفاعلة حد منع الوحدة الوطنية.

وفي مواجهة المؤشرات المتسارعة القوية على أن "عملية أنابوليس" تتجه بدورها نحو مصير مماثل لكل مبادرات وعمليات "السلام السابقة"، حسب تصريحات كل أركان التفاوض الفلسطيني أنفسهم وتصريحات قادة الاحتلال الذين يكادون يجمعون معا في الأقل على أن ما وعدهم به الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش وما وعدوا به هم استنادا إلى وعده بتحقيق رؤيته لحل الدولتين قبل انتهاء ولايته أوائل العام المقبل هو وعد لن يتحقق خلال ولايته، فإن إصرار الرئاسة الفلسطينية على "سرية" المفاوضات لم يعد له الكثير الذي يسوغه وربما حتى قد بدا يعطي نتائج عكسية.

فلم يعد الانقسام الوطني الفلسطيني مسوغا "مقنعا" لاستمرار الرئاسة في السرية بحجة أن خصمها (حماس) سوف تستغل علانية التفاوض في اصطراعها معها على صنع القرار الوطني، لا بل إن الرئاسة باستمرارها في رفض الشفافية والعلانية إنما تزود (حماس) بذخيرة إعلامية "مقنعة" لاتهام الرئاسة بأنها تنزلق نحو تنازلات وطنية ولذلك فأنها تخشى الإعلان عن سرية حراكها السياسي لأن هذا الحراك أيضا ينطوي على "التآمر" ضد (حماس)، التي لم يفتها أيضا تسليط الأضواء على المقارنة بين إدارة الرئاسة "السرية" لعملية التفاوض وبين إدارة حكومة الاحتلال لهذه العملية.

إن النفي المتضارب على أرفع مستوى لفريقي المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال "الاسرائيلي" لوجود اتصالات ومحادثات سرية بين الجانبين يعيد تسليط الأضواء كذلك على سرية التجارب السابقة والمحاولات الراهنة لتقرير مصير الشعب الفلسطيني في دهاليز الدبلوماسية بعيدا عن أي رقابة أو مساءلة أو مشاركة بالرغم من الحصاد المر لتجارب الدبلوماسية السرية الفلسطينية الماضية.

فقد "نفى" رئيس الوفد الفلسطيني لمفاوضات الوضع النهائي احمد قريع يوم الخميس الماضي ما أعلنه رئيس حكومة "دولة" الاحتلال "ايهود اولمرت" بأن الجانبين اتفقا على تأجيل التفاوض على وضع القدس إلى المرحلة الأخيرة من المفاوضات وأيده في نفيه هذا رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الذي "نفى" أيضا وجود قناة سرية للتفاوض حول القدس بين "حاييم رامون" نائب "اولمرت"، وبين "رجل الأعمال الفلسطيني" محمد رشيد، المعروف سابقا بخالد سلام، مؤكدا أن أحداً لم يفوض رشيد بإجراء أي محادثات، لكن دون توضيح ما إذا كان رشيد ربما كان يفاوض بمبادرة شخصية غير رسمية، وكان مفاوضو المنظمة "الرسميون" قد نفوا سابقا وجود قنوات سرية "رسمية" للتفاوض تحدثت تقارير إعلامية عن وجودها داخل الوطن المحتل وخارجه، خصوصا في أوروبا، لكنها أيضا لم تنف وجود اتصالات كهذه بصفة غير رسمية.

إن الخط الفاصل بين الصفتين الرسمية وغير الرسمية للاتصالات والمحادثات هو حد غير رمادي ولم يعد يخدع أي مراقب، فعلى سبيل المثال كيف يمكن الفصل بين الرسمي وغير الرسمي فيما كررت وسائل الإعلام نشره عن محادثات بين الدكتور سلام فياض وبين رئيس دولة الاحتلال ووزيرة خارجيتها "تسيبي ليفني" إضافة إلى رامون بينما فياض يشغل منصب رئيس الحكومة في رام الله وهل توجد أي مصداقية في القول أن اتصالات فياض غير رسمية لآن قريع هو المفوض رسميا بالتفاوض؟

ومن المعروف أن "سرية" المفاوضات الجارية قد خلقت أزمة في الائتلاف الحاكم في دولة الاحتلال اضطرت "اولمرت" و"ليفني" إلى تأكيد "نفيهما" التوصل إلى أي اتفاقيات سرية خصوصا حول القدس لكن بالرغم من تكرار إعلان "اولمرت" و"ليفني" "سرية المفاوضات" سياسة رسمية لحكومتهما فأن كليهما وعد يوم الخميس الماضي بعدم إجراء محادثات سرية لا بل أن "ليفني" بعثت رسالة خطية إلى وزراء حكومتها تطلب فيها من كل منهم أن يرسل ممثلا لوزارته ينضم إلى الفريق الرسمي المفاوض برئاسة "الجنرال اودي ديكيل" ومن المعروف أن هؤلاء الوزراء ليسوا تكنوقراط أو "مستقلين" كما هو الحال في حكومة الطوارئ في رام الله بل ممثلين لأحزاب سياسية، أي أن حكومة "اولمرت" أشركت القوى السياسية في المفاوضات وأخضعت هذه المفاوضات لرقابتها.

ولا مناص من المقارنة مع إدارة المفاوضات على الجانب الفلسطيني، حيث تدور في ظل انقسام وطني وحالة طوارئ رسمية معلنة وحكومة غير ممثلة للقوى السياسية وقيادة لمنظمة التحرير تحاول حاليا عقد المجلس الوطني للحصول على حد أدنى من التمثيل السياسي الفاعل لشعبها بعد ما يقارب العقدين من الزمن من التهميش والشلل.

ولا مناص أيضا من المقارنة بين المعارضة السياسية في دولة الاحتلال التي فرضت على الحكومة إشراكها في المفاوضات وفي تحديد مضمونها وبين المعارضة الفلسطينية التي تنتقد المفاوضات ومضمونها دون أن تقرن قولها بالفعل لتفرض على المفاوض الرسمي منح آرائها الحد الأدنى من الاحترام العملي. إن "المعارضة الشرعية" في إطار منظمة التحرير التي تطالب علنا بوقف المفاوضات أو تعليقها أو ترشيدها دون أن تردف معارضتها المعلنة بمواقف سياسية فعلية تنسجم معها إنما تسقط في فخ التناقض نفسه بين القول والفعل الذي سقط فيه المفاوض السري.

وعلى سبيل المثال فإن إحجام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن المشاركة في المؤتمر الوطني الذي انعقد في دمشق مؤخرا بعد أن كانت أعلنت سابقا موافقتها على المشاركة فيه بذريعة أعلنتها النائبة خالدة جرار بأن الجبهة وافقت على المشاركة عندما كان المؤتمر سينعقد متزامنا مع "مؤتمر أنابوليس" لكنها انسحبت عندما انعقد بعده هي حجة غير مقنعة، لآن من غير المقنع أن تعارض الجبهة "أنابوليس" يوم انعقاده فحسب ثم تحجم عن معارضة وضع قراراته موضع التطبيق الفعلي لاحقا، فقد أفقد غياب الجبهة مؤتمر دمشق ثقلا إضافيا حاسما يؤكد شبه الإجماع الوطني على معارضة "عملية أنابوليس" والمفاوضات "السرية المعلنة" المنبثقة عنها وشجع المفاوض السري على التسلح بشبه إجماع الفصائل المنضوية تحت مظلة شرعية منظمة التحرير على المعارضة اللفظية لمساره التفاوضي العقيم دون أن تقدم هذه الفصائل بديلا لهذا المسار أو بديلا لمعارضة مؤتمر دمشق له، مما يلخص الموقف الفعلي لهذه الفصائل بالدعم العملي لـ"أنابوليس" ومفاوضيها ومفاوضاتها وبالتالي يحولها إلى شريك في أية نتائج قد تتمخض عنها، تماما مثلما كانت عمليا شريكا في عملية أوسلو ومؤسساتها والنتائج التي نجمت عنها بالرغم من معارضتها اللفظية المعلنة لعملية أوسلو برمتها أو لمحاور رئيسية فيها.

وكان أحدث تأكيد للمفاوضات السرية الجارية التي ينفي فريق المنظمة المفاوض وجودها ما أعلنه النائب السابق حاتم عبد القادر، مستشار فياض لشؤون القدس، في مقابلة الثلاثاء الماضي مع "الجروزالم بوست" "الاسرائيلية"، من أن المفاوضات حول القدس تجري "علنا وسرا" و"فوق الطاولة وتحتها".

ويحصد الشعب الفلسطيني اليوم الثمار السامة للنبتة الخبيثة التي زرعتها المفاوضات السرية مع دولة الاحتلال "الاسرائيلي" منذ عام 1993 ومع ذلك فإن المفاوض السري السابق نفسه يكرر هذه الأيام التجربة المرة ذاتها وهو يشكو علنا من أن الحصاد المر لما زرعته يداه يهدد بإفشال تجربته الجديدة دون أن يشير إلى أنه قد اعتبر من تجربته السابقة، فقد أعلن "كبير المفاوضين" قريع يوم الأربعاء الماضي أن المشاريع الجديدة التي أعلنتها حكومة دولة الاحتلال لتوسيع المستعمرات الاستيطانية اليهودية في الشطر المحتل عام 1967 من القدس هي بمثابة "إعلان حرب على شعبنا وحقوقه الوطنية وكذلك على عملية السلام".

إن وجود أكثر من ست عشرة مستعمرة استيطانية وأكثر من مائة وثمانين ألف مستوطن يهودي فيها إضافة إلى الجدار الذي وصفته المنظمة بجدار الضم والتوسع وتصفه وسائل إعلامها بجدار الفصل العنصري الذي عزل بيت المقدس ماديا عن بقية الأرض المحتلة عام 1967 بعد أن كان قد عزلها سياسيا و"أمنيا" منذ وقع المفاوض الفلسطيني في تلك السنة نفسها "إعلان المبادئ" لاتفاقيات أوسلو اللاحقة وكذلك عملية تهويد بيت المقدس الجارية على قدم وساق فوق الأرض وتحتها، إن كل ذلك ما هو إلا غيض من فيض الحصاد المر الذي جنته المدينة والشعب الفلسطيني تحت مظلة "عملية السلام" التي انبثقت عن المفاوضات السرية في أوسلو، وهي العملية والمفاوضات التي يسعى قريع وقيادة المنظمة، التي جددت تفويضها له، إلى تكرارها حاليا.

ولا بد أن روح القائد الوطني الفلسطيني الراحل الدكتور حيدر عبد الشافي تنتفض غضبا واستنكارا عند باريها كما انتفضت في حياته احتجاجا على القناة السرية التي انفتحت في أوسلو من وراء ظهر المفاوضات العلنية التي كان يقودها في واشنطن ولا يسع مواطنيه اليوم إلا استذكار أن السبب الرئيسي لاستقالته ومعارضته لأوسلو واتفاقياتها إنما كان موافقة مفاوضي القنوات السرية على إبرام "اتفاقيات أوسلو" دون اشتراط وقف الاستيطان الاستعماري الذي يعلن قريع محقا اليوم أن استمراره يعتبر "إعلان حرب" على الشعب الفلسطيني وعلى "عملية السلام" لكنه وهو أحد كبار مهندسي "اتفاق أوسلو" يصر دون أي وجه حق على أن يلدغ من الجحر ذاته مرتين بدل أن يتوقف ولو مؤقتا لكي يتبصر في أفضل طريقة لجعل مواقفه التفاوضية منسجمة لا متناقضة مع تصريحاته الصائبة.

فاستمرار الاتصالات بهدف التفاوض مع دولة الاحتلال يتناقض تماما مع "إعلان حرب" استيطانية على الشعب الفلسطيني ويتناقض تماما مع السلام ومع أي عملية تفاوضية تجري باسم السلام، لقد كانت هذه الرسالة للراحل عبد الشافي صحيحة في حياته وهي اليوم تؤكد صحتها في غيابه، وهي رسالة يوجد أجماع فلسطيني عليها يتجاوز الانقسام الوطني، لفظيا وعلنا في الأقل كما تثبت تصريحات قريع، مما يقتضي وقف الاتصالات والمفاوضات فورا وتعليق استئنافها على الاشتراط المسبق المعزز بضمانات موثوقة ومؤكدة ومحايدة بالوقف الكامل لاستشراء السرطان الاستيطاني في الجسم الوطني الفلسطيني كاملا وليس في بيت المقدس فقط.

غير أن التناقض بين قول المفاوض الفلسطيني وبين فعله يكسر ذاك الإجماع ويبعث رسالة واضحة لا لبس فيها إلى حكومة الاحتلال بعدم وجود أي جدية أو مصداقية في معارضة المفاوض الفلسطيني لمواصلة التوسع في الاستيطان الاستعماري كما يبعث رسالة للمجتمع الدولي الساعي إلى إحلال السلام في المنطقة بعدم جدوى ممارسة أية ضغوط على دولة الاحتلال لوقفه كشرط مسبق للسير في أي عملية سلام تمتلك الحد الأدنى من الصدقية.

إن "السرية" الكاملة التي تكتنف الاتصالات والمحادثات "العلنية" و "السرية" على حد سواء التي يجريها المفاوض الفلسطيني مع حكومة الاحتلال ووكلائها الأميركان تعزز تلك الرسائل الخاطئة التي يبعثها وتعكس عدم ثقة في الشعب المفروض أن يكون هذا المفاوض ممثلا "شرعيا ووحيدا" له، مما يوسع فجوة عدم الثقة المتبادل بين الجانبين وينعكس بالتالي ضعفا اختياريا في موقف المفاوض "السري" الفلسطيني يجعله أسهل تورطا في اتفاقيات يبدو شبه مؤكد أنها ستكرر الحصاد المر لقناة أوسلو السرية، لكنها هذه المرة قد تكون قاتلة للقضية الوطنية بعد أن لم يبق الاحتلال تحت مظلة أوسلو الكثير الذي يمكن التفاوض عليه.

ويكفي لمن لا يدرك واقع الاحتلال على الأرض أن يقوم بزيارة قصيرة جدا ل"العاصمة المؤقتة" للمفاوض السري الفلسطيني في "كانتون" رام الله المطوق بالمستعمرات الاستيطانية والحواجز العسكرية التي تحولت إلى شبه معابر حدودية دولية ليدرك "بقايا الوطن" الذي يتفاوض هذا المفاوض على إنقاذها بطريقة "سرية" تكاد تضيع حتى هذا النزر اليسير المتبقي.

فمنذ أعلن الرئيس محمود عباس في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" أواخر آذار / مارس عام 2006 أنه اقترح على حكومتي الاحتلال ووكيلتها الإدارة الأميركية "قناة خلفية للمحادثات، بعيدا عن الأضواء" والشعب الفلسطيني مغيب تماما عما يجري في الدهاليز السرية، فالتصريحات العلنية عن الاتصالات العلنية مثل الطلاسم لا تشفي غليلا، أما "القنوات السرية" فلا أحد يعترف بها والجميع ينفيها، وتركز القيادة المفاوضة في رام الله بديلا لذلك على ترويج الأنباء عن اتصالات ومحادثات "سرية" يجريها، لكن ينفيها، خصمها في غزة وتكتفي بتكرار الإعلان عن التزامها بعرض أي اتفاق تتوصل إليه سواء علنا أو سرا على استفتاء شعبي، وكأنما يكفي ذلك لتسويغ التفاوض ب"حرية سرية" تامة في مبعد عن أي رقابة أو مساءلة أو مشاركة وفي تغييب للشعب تعزز بشلل المجلس التشريعي وبإعلان حالة الطوارئ في حزيران / يونيو الماضي، أو يكفي لتحصين المفاوض السري نفسه ضد تكرار الحصاد المر لصولاته وجولاته السرية السابقة.

[email protected]