واشنطن تسقط سياسيا في كوسوفو
بقلم نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين المحتلة
لقد كان الاعتراف الأميركي بإعلان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد سقوطا سياسيا كشف من ناحية مدى استهتار واشنطن بالأمم المتحدة وميثاقها وكشف من ناحية ثانية ازدواجية معايير السياسة الخارجية الأميركية بأجلى صورها ولا يكشف هذا السقوط السياسي الأميركي أكثر من تردد الحليف الاستراتيجي "الاسرائيلي" في الانضمام إلى واشنطن في اعترافها بكوسوفو خشية أن تجد تل أبيب نفسها مطالبة بتطبيق حيثيات أي اعتراف كهذا على نفسها.
فعلى سبيل المثال تمتلك "الأقلية" العربية الفلسطينية في "اسرائيل" كل الأسباب التي ساقتها واشنطن للاعتراف بإعلان كوسوفو الانفصال من جانب واحد عن صربيا، وقد بدأت هذه الأقلية منذ ما يزيد على عام تطالب بحقها في حكم ذاتي موسع كأقلية قومية بعد أن فقدت الأمل في الحصول على حقوق مواطنة متساوية مع حقوق "الأكثرية اليهودية" كما كانت تطالب طوال الستين عاما المنصرمة دون جدوى، لكن واشنطن تجاهلت مطالب الأقلية العربية في الحكم الذاتي، ناهيك عن المطالبة بالانفصال، مثلما كانت تتجاهل مطالبتها بالمواطنة المتساوية في دولة لكل مواطنيها منذ النكبة عام 1948.
ومن المعروف أن البديل للانفصال والاستقلال هو المواطنة المتساوية وأن الدولة التي ترفض منح أقلية فيها الحق في الانفصال يجب أن تمنحها حقوقها كاملة في المواطنة والأمثلة في العالم وافرة من (كويبك) في كندا مرورا بايرلندا الشمالية و(كتالونيا) الاسبانية والشيشان العضو في الاتحاد الروسي وصولا إلى مئات الأقليات العرقية والدينية والطائفية في الصين والهند، وينكشف السقوط السياسي الأميركي في كوسوفو في تأييد حق للأقلية الألبانية في الانفصال عن صربيا بالرغم من المساواة الكاملة لهذه الأقلية في حقوق المواطنة ومن هنا الذعر الذي أصاب المجتمع الدولي من السابقة الأميركية في كوسوفو.
ويذكر الاعتراف الأميركي خلال ساعات بعد إعلان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد بإعلان واشنطن اعترافها بدولة الاحتلال "الاسرائيلي" قبل ستين عاما وينذر هذا الاعتراف بتفجير وضع عالمي مماثل يهدد السلم العالمي بعدم الاستقرار والحروب خصوصا لأن واشنطن هذه المرة عملت خارج إطار الأمم المتحدة وضربت في الصميم احد المبادئ الأساسية التي قامت الهيئة الأممية عليها وهو احترام السيادة الوطنية للدول الأعضاء.
إن المجتمع الدولي الذي دعم الحروب الأميركية خارج إطار الأمم المتحدة أو بغطاء شفاف من شرعية الهيئة الدولية ضد صربيا وأفغانستان والعراق يكتشف الآن، مثل اسبانيا، انه إنما كان قد دعم سوابق أميركية تهدد نيرانها حاليا بالامتداد إليه بعد أن شاهد واشنطن تدير ظهرها لـ"الأمم المتحدة" و"مجلس الأمن الدولي"، مستهترة ومنتشية بغطرسة القوة العظمى الأوحد في العالم، عندما فشلت الإدارة الأميركية في حملهما على تأييد إعلان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد بسبب المعارضة الروسية والصينية بصفة أساسية ناهيك عن معارضة الهند واسبانيا واندونيسيا واليونان وغيرها من الدول المهددة بسابقة كوسوفو.
غير أن السابقة الأميركية في كوسوفو بالنسبة للعرب وخصوصا الفلسطينيين منهم قد سلطت أضواء قوية كاشفة على ازدواجية معايير السياسات الخارجية الأميركية لم تبق لأي رهان عربي وفلسطيني على واشنطن حدا أدنى من المصداقية يسوغ الاستمرار فيه.
ففي الخامس عشر من كانون الأول / ديسمبر 1988 أقر المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر "إعلان الاستقلال" وأعلن قيام دولة فلسطين ضمن حدود الرابع من حزيران / يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف واعترف أكثر من مئة بلد في العالم بذلك الإعلان وفي الرابع من أيار / مايو 1999 صادق المجلس الوطني الفلسطيني على إعلان الاستقلال وحظيت مصادقته مجددا على تأييد دولي ساحق، لكن الإعلان ظل حتى الآن حبرا على ورق لسبب واحد فقط هو معارضة واشنطن له.
ولا يسع العرب الآن إلا المقارنة بين القرار الأميركي بقصف صربيا عام 1999 ثم السماح لقوات "الناتو" باحتلال إقليم كوسوفو فقط من أجل منع صربيا من ممارسة سيادتها فيه تمهيدا لإعلان استقلال الإقليم من جانب واحد وبين الدعم الأميركي للحروب "الاسرائيلية" التوسعية ثم للاحتلال الناجم عن هذه الحروب العدوانية بالرغم من إعلان "اسرائيل" من جانب واحد توسيع سيادتها وممارسة هذه السيادة في القدس وهضبة الجولان اللتين ضمتهما من جانب واحد دون أن تحرك واشنطن ساكنا لا بل أنها ضاعفت معوناتها السنوية لدولة الاحتلال أكثر من ستة أضعاف وكأنما تكافئها على عدوانها.
التلويح بـ"كوسوفو فلسطينية"
إن الحجة الرئيسية التي تسوغ بها واشنطن سابقتها الخطيرة دوليا في كوسوفو كانت عمليات التطهير العرقي الصربية والمجازر وعمليات التهجير القسري والعقوبات الجماعية التي رافقتها وهذه جميعها ممارسات "اسرائيلية" موثقة وهي مستمرة منذ ستين عاما حتى الآن، واحدث حلقاتها تتركز حاليا في قطاع غزة، لكن استنكاف واشنطن عن التعامل مع "اسرائيل" بمثل ما تعاملت به مع صربيا واستمرارها في الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بالعرب هو مثال صارخ على ازدواجية المعايير الأميركية يقتضي وقفة فاصلة تعيد النظر في جدوى استمرار الرهان العربي والفلسطيني على أي دور مأمول في وساطة أميركية نزيهة، خصوصا بعد الضجة التي أثيرت بعد تلويح فلسطيني فردي وغير رسمي بـ"كوسوفو فلسطينية".
وينبغي للعرب والعالم الإسلامي عدم توفير غطاء "إسلامي" لتحدي واشنطن الصارخ لاحترام السيادة الوطنية للدول ولمبدأ أساس من مبادئ الأمم المتحدة وبالتالي للهيئة الأممية نفسها لأن أي غطاء كهذا هو سيف ذو حدين يمكن أن تستخدمه الإدارة الأميركية لاحقاً لتهدد السيادة الوطنية لكل دولة عربية وإسلامية تحتمي بسيادتها أقليات عرقية أو دينية أو طائفية أو ثقافية، وليس سراً أن واشنطن تسعى الآن جاهدة للحصول على مثل هذه التغطية "الإسلامية" للقنبلة الموقوتة ضد السلم العالمي التي زرعتها في كوسوفو.
إذ خلال إيجاز صحفي له بعد إعلان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد تملق وكيل وزارة الخارجية الأميركية "وليم بيرنز" العرب والمسلمين عندما أشاد بترحيب منظمة المؤتمر الإسلامي بهذه الخطوة التي قال عنها: "نعتقد أنها خطوة ايجابية جدا إن هذه الدولة المسلمة، الدولة ذات الأغلبية المسلمة، قد خلقت اليوم"، متجاهلا أن ثلاث دول فقط من بين حوالي ستين دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي قد انضمت للاعتراف الأميركي ليس بينها دولة عربية واحدة وهي تركيا والسنغال وأفغانستان.
إن الاعتراف التركي قد تزامن في مفارقة لافتة للنظر مع بدء حملة عسكرية كبرى عبر الحدود العراقية في مطاردة ساخنة لمقاتلين أكراد لا يطالبون بأكثر مما اعترفت به تركيا لألبان كوسوفو مما ينطوي على تناقض بين اعتراف أنقرة بحق الأقلية الألبانية في كوسوفو في إعلان الانفصال من جانب واحد عن السيادة الوطنية لصربيا وبين رفض الحق نفسه للأقلية الكردية في تركيا التي تمثل حوالي عشرين في المئة من السكان، ويبدو أن أنقرة قد حصلت على ضمانات من حليفها الأميركي في "الناتو" بأن لا تكرر واشنطن اعترافها بإعلان مماثل كردي – تركي أو كردي – عراقي وكلا الاحتمالين أعلنت أنقرة أنهما خط أحمر يسوغ لجوئها إلى الحرب لمنعهما، أو أن أنقرة تأمل في أن تسحب واشنطن المبدأ نفسه للاعتراف بجمهورية شمال قبرص المعلنة من جانب واحد.
ويبقى أن تفسر أنقرة نفسها حيثيات اعترافها بكوسوفو لأن أحداً لا يفترض فيها السذاجة بحيث يعتقد أنها قد صدقت المسوغات التي أعلنها الناطق بلسان الخارجية الأميركية "سين ماكورماك" يوم الأربعاء الماضي ليسوغ رفض واشنطن لأي مقارنة بين كوسوفو وبين فلسطين تعليقا على اقتراح فلسطيني بإعلان الاستقلال من جانب واحد أسوة بكوسوفو عندما قال أن كوسوفو حالة "فريدة من نوعها" وأنها "ليست سابقة لأي حالة أخرى حول العالم".
إن واشنطن في اعترافها بكوسوفو وفي رفضها عقد مقارنة بينها وبين فلسطين على حد سواء قد أثارت من القضايا والتساؤلات المتفجرة قدرا لم يترك لأي عربي وبخاصة إذا كان فلسطينيا أي مهرب من المقارنة بين الوضعين وبين موقفي واشنطن المتناقضين حيال كل منهما، فصربيا و"اسرائيل" دولتان تعترف واشنطن بسيادتهما وكلتاهما عضو في الأمم المتحدة لكنها تنتقص من سيادة إحداهما، صربيا، باعترافها بإعلان أقلية فيها الانفصال من جانب واحد، في تحد صارخ لميثاق الأمم المتحدة بينما تعترف للثانية "اسرائيل"، بالتوسيع الإقليمي لسيادتها الوطنية خارج الحدود التي اعترفت الأمم المتحدة لها بها بواسطة الحروب العدوانية والقوة المسلحة على حساب السيادات الوطنية لدول مجاورة أعضاء في المنظمة الأممية وترفض مجرد فكرة الاعتراف بحق شعوب أصيلة لا أقليات خاضعة لاحتلال "اسرائيل" في إعلان استقلالها من جانب واحد في تحد صارخ أيضا للأمم المتحدة وميثاقها.
وإذا كان وضع الأراضي الفلسطينية والجولان العربي السوري ومزارع شبعا اللبنانية المحتلة عام 1967 وضعا لا يمكن مقارنته بالتأكيد بالوضع في كوسوفو، فإن هذا الوضع يمتلك من أسباب الشرعية والقانون الدولي والحق السياسي والإنساني ما يسوغ مطالبة واشنطن بأن تتصرف حيال "اسرائيل" تصرفا لا يقل عن الحرب المدمرة التي شنتها على صربيا بغير حق بذرائع لا مسوغ لها في الشرعية والقانون الدوليين.
لقد كان الاختلاف العلني بين أعضاء الفريق المفاوض لمنظمة التحرير الفلسطينية حول اقتراح التلويح بإعلان الاستقلال الفلسطيني من جانب واحد على طريقة كوسوفو دليل وصول "مبادرة آنابوليس" الأميركية لإحياء "عملية سلام" فلسطينية مع الاحتلال "الاسرائيلي" إلى الطريق المسدود الذي كان متوقعا لها بعد مضي ثلاثة أشهر على إطلاقها في 27 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي بقدر ما كان دليل تخبط قيادة المنظمة حول ما ينبغي عمله في حال فشل هذه المبادرة الذي بات شبه مؤكد، بغض النظر عن بصيص أمل فيها تحاول الرئاسة الفلسطينية التعلق به لأسباب لا تعرفها سوى الرئاسة نفسها.
وبغض النظر عن صواب أو عدم صواب الاقتراح الذي أعلنه أمين عام اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه بإعلان الاستقلال من جانب واحد أسوة بكوسوفو، كخيار ثان في حال فشل "الخيار الأول" ل"مفاوضات ناجحة" مع دولة الاحتلال على حد قوله، وبغض النظر عن صواب أو عدم صواب المعارضة لاقتراحه من الرئاسة الفلسطينية ودائرة المفاوضات في المنظمة ورئاسة الوفد المفاوض الذي هو عضو فيه، فان مجرد لجوئه إلى "الإعلان" عن اقتراحه ولجوء بقية أركان فريقه المفاوض "علنا" إلى معارضة اقتراحه بإعلانهم الإصرار على مواصلة مفاوضات عقيمة يقول هو ويتفقون معه في أنها غير مثمرة ولم تحرز أي تقدم حتى الآن، ثم إعلان الرئيس محمود عباس لاقتراح "العودة إلى الأشقاء العرب" إن استمر وضع المفاوضات على حاله الراهن كاقتراح بديل لاقتراحه، إنما هو اعتراف صريح بفشلهم جميعا في استراتيجية الرهان على الولايات المتحدة لانتزاع الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية من دولة الاحتلال حتى وفق "الرؤية" الأميركية المشوشة عمدا والمنحازة لتفسير دولة الاحتلال لما يسمى بـ"حل الدولتين".
إنه اعتراف بفشل قنوات التفاوض المعلنة والسرية التي انطلقت من "آنابوليس" في التوصل إلى "مفاوضات ناجحة" وتعبير عن يأس خبراء مخضرمين في التفاوض كسبوا من الأعداء الفلسطينيين أكثر مما كسبوا من أصدقاء السلام الأجانب نتيجة تمسكهم بالسلام والتفاوض كخيار استراتيجي حد الإدانة العلنية للمقاومة الوطنية بـ"الإرهاب" بالرغم من "شرعية" مقاومة الاحتلال التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة، هذا الميثاق الذي يعتبر المرجعية الأم للشرعية الدولية التي بح صوتهم وهم يطالبون بتطبيق قراراتها علنا لكنهم في الواقع ينتهجون استراتيجية للتفاوض لا تستند إليها بل تتناقض معها، كما يتضح من استراتيجية "آنابوليس" التي وقعوا في فخها، وربما لهذا السبب بالذات يجدون أنفسهم الآن في حالة التخبط التي هم فيها والتي لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا.
كما كان الاختلاف العلني بين أعضاء الفريق المفاوض إعلانا أيضا عن عدم وجود استراتيجية موحدة مدروسة لهذا الفريق وكذلك إعلانا عن عدم وجود حد أدنى من التنسيق بين فريق من المفترض انه يفاوض على تقرير مصير الشعب الفلسطيني وإعلانا عن غياب أي تقويم لما وصلت إليه المفاوضات وعن غياب أي آلية لإجراء أي تقويم كهذا.
ومما يزيد الإحساس بالإحباط وخيبة الأمل أن فريق المفاوضات هو نفسه فريق القيادة التي تخوض اصطراعا داخليا لتأكيد سلطتها كممثل شرعي ووحيد لشعبها.
إن الاختلاف العلني بين أعضاء الفريق الفلسطيني المفاوض يعكس غلبة الاجتهاد الفردي وتضارب الاجتهادات الذاتية وردود الأفعال الآنية على ما يفترض أن يكون جهدا استراتيجيا موضوعيا لعمل مؤسسي مبرمج لقيادة جماعية في لحظة تاريخية قد تقرر مصير القضية الوطنية لفترة طويلة مقبلة، مما يزيد في الصدمة من الحالة التي تسود قيادة منظمة التحرير وهي تظهر نفسها كمجموعة غير متماسكة من القادة الأفراد الذين يفتقدون التنسيق البيني ولا يتورعون عن الانزلاق إلى التناقض مع بعضهم علنا في وقت عصيب أحوج ما يكون فيه الشعب والقضية إلى وحدة القيادة، خصوصا في مرحلة تتنازع فيها قيادتان وشرعيتان وحكومتان على الولاء الوطني دون أن يسمح الانقسام الوطني لأي منهما بان توسع قيادتها وشرعيتها وحكومتها على المستوى "الوطني".
ومما لا شك فيه إن هذا الاختلاف العلني للقلة النافذة في "اللجنة التنفيذية" للمنظمة يسلط الأضواء على الشلل الذي تعانيه هذه اللجنة كمؤسسة قيادية باتت وظيفتها الوحيدة مقتصرة على اجتماع دوري مهمته الموافقة على بيانات معدة سلفا تصدر باسمه، صياغتها تسبب صداعا لأي محرر الصحفي، اختلافا يسلط الضوء على أكثرية من شيوخ المناضلين الوطنيين اختارت الصمت في العلن، وبعضهم نسي الرأي العام الوطني حتى أسماءهم وهو يتساءل إن كان الصمت هو خيارهم أيضا داخل تلك الاجتماعات الدورية، مما يعطي أولوية قصوى لإحياء وتفعيل المنظمة وليس مؤسساتها القيادية فقط بحيث تكتسب الصفة التمثيلية الوطنية حقا وتحتوي إن لم تمنع مثل هذا الاختلاف والفردية والتناقض وغير ذلك من مظاهر الهرم والشلل والتخبط في هيئة ما زال العدو قبل الصديق يعترف بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وإلا فأنها بالتأكيد ستفقد أكثر مما فقدت حتى الآن من صفتها التمثيلية لدى شعبها نفسه ولن ينفعها في هذه الحالة اعتراف العالم كافة بها.
لقد زاد الاختلاف والتضارب والتناقض بين أعضاء الفريق القيادي من اهتزاز الثقة الشعبية في المنظمة وقيادتها واستراتيجيتها غير أن ما هو أهم من ذلك انه كشف للخصم التفاوضي وحليفه الأميركي مدى نجاحهما في خلق حالة من الإرباك والعجز واليأس لدى التفاوضي الفلسطيني تجعله مرتهنا بين العجز عن وقف مفاوضات عقيمة وبين العجز عن إيجاد بدائل لهذه المفاوضات وبالتالي في حالة ضعف تسهل عليهما انتزاع تنازلات استراتيجية أو في أحسن الحالات تبقي على الوضع الراهن لمنح الاحتلال المزيد من الوقت لخلق حقائق على الأرض، خصوصا في القدس، تستبق نتائج أي مفاوضات مجدية على ما اصطلح على وصفه بقضايا الوضع النهائي.
وكانت مسارعة الاحتلال وحليفه الأميركي إلى رفض المقارنة بين كوسوفو وبين فلسطين دليلا على تسرع الرئاسة الفلسطينية ورئاسة وفدها المفاوض ودائرة مفاوضاتها في رفض التلويح بكوسوفو فلسطينية لا يقل عن تسرع صاحب الاقتراح في التفرد بإعلانه دون تنسيق مسبق ودراسة مؤسسية، اذ ما الضير في حشر الوسيط الأميركي غير النزيه في موقف الدفاع عن ازدواجية معاييره.
أما التلويح بالاقتراح في حد ذاته ثم رد الرئاسة عليه باقتراح "العودة إلى الأشقاء العرب" كـ"خيار ثان" في حال اليأس تماما من جدوى الاستمرار في عملية "آنابوليس" فأنهما اقتراحان يعبران فقط عن يأس أصحاب الاقتراحين ويؤكدان صدقية شبه الإجماع الفلسطيني على عقم هذا النهج التفاوضي المستند فقط إلى المراهنة على وسيط أميركي مجرب فلسطينيا بعيدا عن الأمم المتحدة وشرعيتها، بالرغم من أن عجز المنظمة الأممية مجرب بدوره منذ ستين عاما، وبعيدا عن المؤسسات والقوى والوحدة الوطنية.
والاقتراحان لا يعدان الشعب الفلسطيني بغير استمرار الوضع الراهن للعقم التفاوضي والانقسام الوطني وحصار قطاع غزة والارتهان السياسي للضفة الغربية ومحاصرة المقاومة بكل أشكالها وتسارع تهويد القدس مما يعكس إفلاسا سياسيا حان له أن يتوقف، فعندما يعلن وزير خارجية "العربية السعودية" الأمير سعود الفيصل مباشرة بعد زيارته لواشنطن "إن الدول العربية قد تعيد النظر في مبادرة السلام العربية" وينضم أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى اليه والى قيادة منظمة التحرير وزوارها الاجانب، وكان وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير آخرهم، في الإعلان بأن "مفاوضات السلام لا تحرز أي تقدم" لا يعود أمام المفاوض الفلسطيني سوى خيار واحد هو العودة إلى الوحدة الوطنية للبحث الموحد عن مخرج وطني، لأنه لا يجوز تعميم "يأس" هذا المفاوض لينعكس حالة عامة من اليأس لم تكن أبدا في أي وقت خيارا لعرب فلسطين طوال نضالهم الوطني.