حجم الدين الداخلي الأمريكي يزداد مليون دولار كل دقيقة

نهاية الإمبراطورية على أسوار بغداد

عمر نجيب /كاتب من مصر يقيم في المغرب *

في الربع الأخير من سنة 2003، وبعد أشهر قليلة من سقوط البوابة الشرقية للأمة العربية تحت الاحتلال، سخر الرئيس الأمريكي بوش وطاقمه من المحافظين الجدد وفي مقدمتهم وزير دفاعه رامسفيلد ووزير خارجيته باول من تحذيرات العديد من الخبراء العسكريين والسياسيين من أن المقاومة العراقية التي استمرت وتصاعدت بعد سقوط بغداد يوم 9 نيسان (أبريل) لن تتوقف مهما كانت طبيعة المخططات والمناورات الأمريكية التي ستنفذ داخل العراق أو خارجه بالتعاون مع أطراف إقليمية ساعدت بشكل أو بآخر العدوان والاحتلال.

خلال السنوات الخمس التي مرت على احتلال بلاد الرافدين جربت واشنطن وحلفاؤها كل الأساليب لوقف المقاومة وتشويه صورتها بعد أن أنكر حكام البيت الأبيض حتى وجود مقاومة عراقية، فنسبوا العمليات العسكرية ضدهم أحيانا للمتطوعين الأجانب وتارة لتنظيم "القاعدة" وغير ذلك من الأكاذيب التي برعوا في نسجها منذ أن شرعوا في سنة 1991 في حربهم الأولى بهدف تدمير العراق كقوة إقليمية قادرة على تهديد "إسرائيل".

 

المقاومة العراقية

لقنت المقاومة العراقية الاحتلال دروساً ستسطر بحروف من ذهب في كتب التاريخ، ومع مرور الأشهر والسنين وجد الاحتلال أنه لا يخسر الحرب في العراق فقط بل أدرك "المحافظون الجدد" المتحالفون مع الحركة الصهيونية أن مشروع الإمبراطورية الذي وضعوه ينهار ومعه مخطط "الشرق الأوسط الكبير" وحتى القوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والسياسية.

على مدى التاريخ البشري المعروف كانت الإمبراطوريات تنهار في الغالب من الداخل لأسباب كثيرة ومن أهمها انهيار قيمها وتورطها في صراعات خارجية تفوق قدراتها وتستنزفها.

في شهر آذار (مارس) 2008 كشف الاقتصادي الأمريكي البارز، الحائز على جائزة نوبل للسلام، جوزيف ستيغليتز، في كتاب جديد أن تكلفة حرب العراق، التي تدخل عامها السادس في 2008 تضاعفت ثلاث مرات بالمقارنة مع الأعوام السابقة، لتصل إلى 12 مليار دولار شهرياً في العام الحالي.

وتوقع سيتغليتز، والكاتبة المساعدة، ليندا بيلميز، أن تكلف حربا العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى التواجد العسكري طويل الأمد في الدولتين الذي تخطط له واشنطن، الخزانة الأمريكية ما بين 1700 مليار دولار إلى 2700 مليار دولار، أو أكثر بحلول عام 2017، وذلك في أفضل الأحوال وإذا ما تم تطبيق سيناريوهات واقعية ومعتدلة.

وقد تضيف الفائدة على قروض تمويل الحرب تلك وحدها مبلغ 816 مليار دولار إلى التكلفة، وفق المصدر.

وتفوق تلك التصورات توقعات مكتب الموازنة بالكونغرس الذي رجح أن تصل تكلفة الحربين إلى ما بين 1200 - 1700 مليار دولار بحلول عام 2017، سيذهب ثلاثة أرباعها للعراق. وقال مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي في هذا السياق: رغم تباين التوقعات إلا أن التكلفة ستكون هائلة.

وأوضح الكاتبان ستيلغيتز من جامعة كولومبيا وبيلميز من جامعة هارفارد، في كتابهما: (حرب الثلاثة تريليونات دولار) أن الحربين كلفتا الخزينة الأمريكية عام 2007 وحتى نهاية أيلول (سبتمبر) القادم، 845 مليار دولار، علماً أن الأرقام شاملة ولا تقتصر على العمليات العسكرية فقط.

وذكر مكتب موازنة الكونغرس أنه رغم تراجع معدلات الخسائر البشرية بين الحلفاء من العراقيين والعسكريين الأمريكيين خلال الشهور القليلة الماضية، إلا أن معدل الإنفاق في تصاعد. مشيرا إلى أن موازنة الحرب لعام 2008 أعلى بواقع 155 في المائة عن عام 2004، وعزا الارتفاع إلى أسباب منها: زيادة حجم القوات الأمريكية في العراق بقرابة 30 ألف جندي إضافي، ارتفاع أسعار الوقود، واستبدال المعدات العسكرية البالية أو المتضررة. ويسجل هنا أن الإدارة الأمريكية لا تتحدث عن كلفة ما بين 120 و140 ألفاً من قوات المرتزقة التي تشارك في حرب العراق ولا مصاريف القوات البريطانية التي تصل إلى 9000 مليون دولار.

ويشار إلى أن البنتاغون خصص قرابة 17 مليار دولار هذا العام لتزويد القوات الأمريكية بالعراق بمركبات مدرعة حديثة لحماية الجنود من القنابل التي تزرعها المقاومة على جانبي الطرق.

واستمد التقريران أرقامهما من سيناريوهين اثنين مختلفين: توقع في الأول حسب مكتب الموازنة بالكونغرس خفضاً حاداً لعديد القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان بـ30 ألف جندي في أواخر 2009، و55 ألف جندي بحول العام 2012 في تقرير ستيليغيتز.

التقريران أهملا احتمال اضطرار الولايات المتحدة إلى الانسحاب من العراق تحت ضغط المقاومة وانهيار المسرحية السياسية الوقحة التي يمثلها الاحتلال مع مجموعة من العراقيين وأشباح من الجوار، والذين استقدموا على دبابات الأمريكية ومعهم من جندتهم طهران ليعيشوا حينا في "المنطقة الخضراء" وتحكم واشنطن باسمهم.

 

قنبلة زمنية موقوتة

الكشف عن هذه المصاريف يأتي في وقت يحذر فيه الخبراء من أن الدين الداخلي الأمريكي أشبه بقنبلة زمنية موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، حيث يزداد بحوالي 1400 مليون دولار يومياً، أي بحوالي مليون دولار كل دقيقة.

ويبلغ حجم الدين الداخلي الأمريكي حالياً 9130 مليار دولار، ولكن ماذا يعني هذا؟ ببساطة يعني أن مديونية كل أمريكي، سواء أكان رجلاً أم امرأة أم طفلاً أم رضيعا، تبلغ 30 ألف دولار تقريباً.

ووفقا لـ"أسوشيتد برس"، فإنه حثي وإن تمكن المواطن الأمريكي من النجاة من أزمة الإسكان وقروض الائتمان ونجح في التعامل مع ارتفاع أسعار الوقود، فإنه يتجه نحو حالة من البؤس الاقتصادي.

ومثل ملاك البيوت والمنازل، الذين حصلوا على قروض عقارية معتدلة الفائدة، فإن الحكومة تواجه إمكانية رؤية دينها الداخلي ولو بمعدل الفائدة المنخفض نسبياً ينقلب إلى معدلات عالية، الأمر الذي يفاقم من الأزمة المالية المؤلمة ويضاعفها ويزيد أخطار الانهيار.

ويؤكد اقتصاديون غربيون أن الاقتصاد الأمريكي يواجه خطراً كبيراً غير مسبوق بسبب مشكلة الديون الداخلية والخارجية، فمن جهة يواجه مشكلة الديون الضخمة المستحقة للمستثمرين الأجانب الذين قاموا باستثمار أموالهم في الولايات المتحدة في عصر الاقتصاد المزدهر وسوق الأوراق المالية المنطلقة، ومع تباطؤ النمو الاقتصادي الأمريكي وتدهور ربحية البورصات الأمريكية يخشى على الاقتصاد الأمريكي أن يجد نفسه أمام مأزق ديون لا يستطيع سدادها مثله مثل شركة ضخمة أفلست ولكن بفرق شاسع هو أن الولايات المتحدة تحتاج لعقود طويلة من العمل الشاق والتقشف المطلق إذا أرادت الوفاء بجزء من ديونها.

 

بوش أغرق الولايات المتحدة

كان حجم الدين الداخلي، عندما تولى الرئيس الأمريكي جورج بوش مهام منصبه في كانون الثاني (يناير) عام 2001 حوالي 5700 مليار دولار، وسيبلغ 10000 مليار دولار عندما يحين موعد مغادرته البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 2009، في حين أنه كان في العام 1989 حوالي 2700 مليار دولار، ورغم وعود الحزبين بتقييد الإنفاق الفيدرالي، فإن نسبة الدين الداخلي من إجمالي الإنتاج المحلي الأمريكي ارتفعت من حوالي 35 في المائة في العام 1975 إلى نحو 65 في المائة حالياً.

وقال كبير الخبراء الاقتصاديين في "ستاندرد آند بورز"، ديفيد ويس: المشكلة تمضي قدماً، وتقديراتنا هي أن الدين القومي سيصل إلى 350 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول العام 2050، إذا لم يتغير المنهج المتبع.

ومن بين إجمالي الديون، فإن الديون المستحقة للمستثمرين الأجانب تبلغ 2230 مليار دولار، أي ما نسبته 44 في المائة من إجمالي الدين، بزيادة تسعة ونصف في المائة عما كان عليه قبل عام، وتحتل اليابان المرتبة الأولى بين الدول الدائنة حيث يصل إجمالي الديون المستحقة لها 586 مليار دولار، ثم الصين بحوالي 400 مليار دولار فبريطانيا بحوالي 244 مليار دولار و"السعودية" والدول المصدرة للنفط بحوالي 123 مليار دولار، وفقاً للأرقام الصادرة عن المصرف المركزي الأمريكي.

الولايات المتحدة في نطاق نزعتها الإمبراطورية أصبحت مدينة للعالم كله وعملتها الدولار لا تساوي عملياً أكثر من الورق الذي طبعت عليه إذا ما قررت مختلف الدول استعادة ديونها من واشنطن، تلك الديون المتمثلة في العجز التجاري الأمريكي.

فأمريكا تستورد أكثر مما تصدر مما جعلها أسيرة عجز ميزانها التجاري، حيث بدأ العجز في الميزان التجاري الأمريكي (سلع وخدمات) منذ العام 1971 وقد بلغ في العام 2005 مبلغ 723616 مليون دولار أمريكي وهو رقم قياسي غير مسبوق وأسوأ بحوالي أكثر من 25 في المائة من العجز المسجل في العام 2004، الوضع زاد تأزما حيث تشير الأرقام إلى أن العجز في الميزان التجاري بلغ في العام 2006 الرقم 763600 مليون دولار أي بزيادة حوالي 40 مليار دولار عن 2005، والمتوقع بعد صدور البيانات الرسمية أن يكون العجز سنة 2007 أكبر بكثير.

الولايات المتحدة تفقد منذ سنوات وخاصة منذ بداية القرن الحادي والعشرين صدارتها في العديد من الميادين وخاصة التكنولوجية المتقدمة التي هي عماد أساسي لقوتها العسكرية، فقد انخفض الطلب على الخدمات الأمريكية مثل السياحة والتعليم وانحسر الطلب على التكنولوجيا الأمريكية، فوفقاً لمكتب الإحصاءات الرسمية الأمريكية حققت الصادرات التكنولوجية الأمريكية فائضاً بلغ 4600 مليون دولار في الربع الأول من العام 2001، وبعد ذلك بدأ الانحدار حيث سجل عجز في الربع الأول من العام 2006 مقارنة بالربع الأول من العام 2001 بلغ 7200 مليون دولار.

تدهورت قيمة الدولار أمام اليورو إلى أقصى حد منذ صدور العملة الأوروبية حتى وصل سعره إلى واحد فاصلة 54 دولاراً وقد كان هذا التطور أحد نتائج التدهور الاقتصادي الأمريكي.

والخلاصة المستنتجة أن الاقتصاد الأمريكي دخل في نطاق الحلقة الجهنمية أو لنقل بين فكي كماشة، فإما أن يتابع قياديوه إصدار العملات الورقية بدون غطاء لتغطية النفقات المتصاعدة والتي زادت بعد حروبهم الأخيرة لاسيما في العراق، والمداولات والمناقشات في مجلس الشيوخ والنواب تشير بوضوح إلى ذلك، إن الاستمرار في الإصدار الورقي يشكل ضغوطاً تضخيمية تؤدي إلى خلل في كل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنتائج العاجلة لهذه السياسة زيادة البطالة وارتفاع الأسعار، وتلك المؤشرات التي تسبق الانهيار، والحل الثاني لتغطية الإنفاق يكون عن طريق رفع نسبة الضرائب والتي يقدر نسبتها الضرورية أستاذ الأنثروبولوجيا في "مركز الدراسات العليا" لجامعة نيويورك بزيادة فورية مقدارها 78 في المائة على الضرائب الفيدرالية لتتمكن من تغطية العجز في خزينة الدولة، والأخذ بهذا الرأي سيضيف صعوبات هائلة أمام عمليات التصدير للزيادة في قيمة منتجاتها بعد رفع الضرائب والرسوم، ومن ثمة إلى عجز أكبر في الميزان التجاري ومن ثم الانهيار.

إدارة البيت الأبيض تتجه الآن إلى دول الخليج العربي وما يسمى بالصناديق السيادية التي من المتوقع أن تجني أكثر من 6300 مليار دولار لتعالج بها ولو مؤقتاً الاقتصاد الأمريكي المريض.

وبواسطة الضغط السياسي والتهديد والابتزاز تساند واشنطن صناديق الاستثمار الأمريكية، للحصول على حاجتها الماسة إلي استثمارات لزيادة أصولها الخاصة، والتي لا تجدها إلا لدى الصناديق السيادية، تتقدمها صناديق دول الخليج العربي.

إنها نهاية العهد الإمبراطوري الأمريكي، النهاية على أسوار بغداد في قلب بلاد الرافدين التي ظلت طوال تاريخها تبني أسس الحضارة الإنسانية قبل أن تنتقل إلى مرحلة التضحية في سبيل أمة عربية واحدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي.

* (القدس العربي) 23/3/2008