حينما يبتسم راضي فرحات
صلاح المختار
مرت الذكرى العطرة لأربعينية مناضل آخر يغادرنا قبل تحرير العراق، بعد عمر مديد قضاه ببر النضال وتقوى أصحاب المبادئ الكبار، الذين لا يحنون الهامة إلا لله، ولا يحترمون إلا المبادئ ومن يمثلها في سوح النضال.
لقد كان (أبو فادي) رجل قيم راسخة رفض المساومة عليها، فكان طبيعيا أن يتعرض للتنكيل بسبب ذلك، لكنه واصل درب النضال مع رفاقه وتحمل الآلام والتشرد وحملها فوق ظهره، شاباً قوي البنية ينحت الجبال بأظافره، وشيخا عليلا لا يكاد يستطيع الوقوف فوق ساقيه.
كنت معه في بيروت في صيف 2006 وأصر على أن يأخذني لأرى معه شارع الكورنيش ومشيناه كله، وهو يستند على ذراعي، وهواء بحر بيروت يلفح وجوهنا، وأنا أتساءل رغم أنني أعرف الجواب: هذا هو بحر بيروت يمتد إلى أقصى نهايات عشق القلب، وهي نهايات لا نستطيع رؤيتها مهما حاولنا، فهل وصلت مشاعر الحزن واليأس لدى غادة السمان حد أنها غيبت البحر احتجاجا، فأطلقت اسما لمجموعة قصصية لها وهو (لا بحر في بيروت)؟ أتخيل قادتنا في الحزب الذين قضوا وقتا طويلا في بيروت، وفي ذلك الشارع العتيد بالذات، وأستعيد صورهم كلهم، وهي صور حبيبة على قلب كل بعثي حتى صور من خرج منهم من الحزب.
كان أبو فادي يؤشر بيده ويقول لي: كان هنا المقهى الفلاني الشهير، وكان هنا المكان المفضل للرفيق فلان، وكنت فرحاً ببيروت رغم أنني كنت أراها بعين حزينة لعراقي تمنى كثيراً، في زمن مضى، أن يكون في بيروت حينما كانت مركزاً للإشعاع الفكري، ومتنفساً لكل مضطهد من كافة أقطار الوطن العربي، قبل الحرب الأهلية في عام 1975! قلت له: أريد شراء الكتاب الفلاني، فقال إنه يوجد في مكتبة بعيدة من هنا، فقلت له إذن انسى الموضوع.
لكنه بحركة نمر لم ينهكه الزمن صرخ: كاسترو لنذهب إلى شارع الحمرا لشراء كتاب! وكاسترو هو سائق (أبو فادي)، الذي أطلق عليه والده هذا الاسم اعتزازا بالقائد العظيم فيدل كاسترو، صعدنا في سيارته وخضنا في غمار زحام بيروت، مقاتلين الرطوبة، التي كانت تنهش من لحم راحتنا، والزحام العنيف الذي كان يجفف منابع الهدوء في ذاكرتنا، وشخصيات رواية مطاع صفدي (جيل القدر) تتراقص في مخيلتي في شوارع بيروت، رغم مرور عقود على قراءتها، وكنت أتذكر تركيزها على قلق جيل البعث، الذي تصدى لتغيير العالم مع أنه بلا تجربة أو خبرة! فواجهنا عالمنا الظالم والقاسي بلحم صدور شباب لا يعرفون سوى حب الأمة العربية والاستعداد للاستشهاد من أجل وحدتها القومية.
كنت أرى بهّم عظيم صور تجسد الوضع الطائفي في لبنان تنتشر في شوارع جنوب بيروت! أسأل (أبو فادي): ألم يكن جنوب بيروت مركزاً للقومية العربية؟ فيهز رأسه ويجيب بابتسامة غامضة بكلمة واحدة فقط: نعم. وأعرف ما يجول برأسه لأنه نفس ما كان يجول في ضميري، فهذا الحي العروبي الذي عرفناه في العراق منذ الحرب الأهلية في عام 1958 والحرب الأخرى في عام 1975، بأسماء الكثير من حاراته، تحول إلى وكر للطائفية فاكتملت استدارة الحلقة الطائفية في لبنان! دمدت وأنا أخرج نفسا عميقاً: هذا هو سرطان الطائفية!
انحدرت الشمس إلى المغيب ولم يقل (أبو فادي) أنه تعب، مع أنني كنت أرى تعبه يتسلق وجهه الذي تنز منه حبات عرق لم ينجح هواء بحر بيروت في تجفيفها! كان أبو فادي رمزا للانضباط الحزبي، والذي عده، بصواب تام، مفتاح النجاة من المؤامرت التي تترى بلا توقف على البعث، لذلك كان يقول لي: لن أقبل أن أتجاوب مع أحد حول الحزب في أي قضية ما لم يكن الحزب وقيادته قد أقرتها، وكان يشير إلى بعض الأشخاص الذين استغلوا الاحتلال وتعرض الحزب لمجازر رهيبة، مما سمح للبعض بانتهاك قدسية اسم الحزب.
اليوم وقد مرت أربعينية الرفيق المناضل أبو فادي أتذكر شيئا واحداً يسربل وجه الحقيقة، وهو أن راضي فرحات عاش مناضلاً ومات مناضلاً وترك لابنه فادي، ولكل عائلته الكريمة، الفخر بكرامة الإنسان ورفضه المساومات على حساب المبادئ.
تحية لذكرى أبو فادي أسكنه الله فسيح جناته وألهمنا، نحن محبيه، وأهله الصبر على رحيله، قبل أن يحقق ما كان يمنحه زخم الحياة ودفق الحيوية رغم مرضه، وهو تحرير العراق.
4/3/2008