بؤس وعي؟ أم بغاء ضمير؟

حول موقف البعض من الثورة العراقية

صلاح المختار

مقدمة

ونحن نقترب من دخول العام السادس لغزو العراق يؤسفنا أن نلاحظ أن هناك ظواهر سلبية، لا يمكن أن توجد أو تستمر، إلا إذا كان هناك عوقاً، فكرياً أو عقلياً أو نفسياً، لدى من تتجسد فيه، لذلك فأن خير ما نستقبل به العام السادس للثورة العراقية المسلحة ضد الاستعمار الأمريكي هو قرع أجراس التنبيه، فلعل هذه الظواهر نتاج سوء فهم، وعندها سوف نكسب إخوة لنا إلى قضية أمتنا العادلة ونسهم في تصحيح مسارات خاطئة عندما نذكرهم بحقائق الصراع، إن تناول أهم تلك الظواهر سيساعدنا دون شك على تقريب المسألة وتوضيحها لوضع العقل والضمير أمام حقائق لابد من أخذها بنظر الاعتبار.

طروحات مشوهة

إن بعض المثقفين والساسة والإعلاميين العرب، يروجون لما يلي من أفكار خاطئة ومضللة وخطيرة:

أ‌ - أن ساحة الصراع الرئيس، في هذه المرحلة، هي فلسطين وليس في العراق، ويبنى على هذه الفكرة الخاطئة موقفا خطيرا جدا وهو أن من يدعم القضية الفلسطينية هو حليف، بغض النظر عن موقفه من القضايا العربية الأخرى وبالأخص غزو العراق وتدميره ومحاولات تغيير هويته العربية تماما كما حصل لفلسطين!

ب - أن إيران تقود الصراع الإقليمي ضد أمريكا و"اسرائيل"، وهذه الفكرة كسابقتها تسقط من الحساب أهم الحقائق الستراتيجية ومفخرة العرب الأعظم في زمن الهزائم المتعاقبة، وهي المقاومة العراقية المسلحة، والتي تقود النضال التحرري عربيا وعالميا، كما أن هذه الفكرة تمنح إيران براءة شاملة من جرائمها في العراق وبقية الأقطار العربية، وتضعها في مكان ليس مكانها الطبيعي، طبقا لمعطيات الواقع الإقليمي والعالمي ودورها فيهما، بصفتها الداعم الأهم لأمريكا في غزو العراق وتدميره، والبطل الأكثر اقتدارا على نشر الفتن الطائفية في الوطن العربي.

ج - إن المقاومة العراقية قد تحولت إلى صراع طائفي ولم تعد حركة تحرر، مع أن المقاومة، كما أثبتت عمليات الأسابيع الماضية، ومنذ بداية آذار- مارس بشكل خاص، بأن ادعاءات أمريكا بانخفاض العمليات كاذب لأنها ارتفعت ولم تنخفض.

د - أن "حزب الله" يخوض الصراع الرئيس مع أمريكا و"اسرائيل"، مع أنه يقوم بدور، أصبح أكثر من واضح، وهو توفير غطاء ايجابي لإيران في الوطن العربي من خلال سمعته الطيبة، لأجل تمكينها من تنفيذ مخططها التوسعي الإمبراطوري الموجه أساسا ضد العرب تماما كالمخطط "الاسرائيلي".

أن هذا البعض من المثقفين العرب، سواء كان ناصرياً أو شيوعياً أو إسلامويا، ما زال أسير أحقاده السياسية وخلافاته الأيديولوجية القديمة والسابقة لغزو العراق، لذلك فأنه، وبعد فترة اضطراره لقبول حقيقة استراتيجية هي الأبرز في منطقتنا والعالم كله، تراجع عن ذلك، وتلك الحقيقة هي أن الثورة العراقية المسلحة ستقرر ليس فقط مصير الوطن العربي ودول الجوار غير العربية، بل أيضا ستكون العامل الأكثر تأثيرا في شكل النظام العالمي الجديد برمته، نتيجة هزيمة أمريكا سيدة النزعة الامبريالية المعولمة في العراق . ولئن كان مفهوما لم تتجاهل الفضائيات العربية، بلا استثناء، المقاومة العراقية ولأسباب تتعلق بتبعيتها للأنظمة، وبلا استثناء أيضا، وتمارس سياسة الصمت والتشويه لدورها وتتجنب نشر اغلب عملياتها الكثيرة والكبيرة، فأن من غير المفهوم أو المقبول أن نلاحظ أن وطنيين عرب (ناصريون وشيوعيون وإسلامويون.. الخ) يكتفون بامتداح إيران ودورها في مواجهة أمريكا والتحذير من (حتمية هجوم أمريكي وشيك عليها) وطلب دعمها ضد التهديدات الأمريكية، كما يقولون منذ أكثر من ربع قرن رغم أن أي اعتداء أمريكي أو "اسرائيلي" على إيران لم يقع (!) والدفاع عنها وتمجيد "حزب الله"، وإعطاءه دورا لم يدعيه حتى حسن نصر الله، مع تجاهل تام أو شبه تام للمقاومة العراقية لدرجة أننا وغيرنا، نرى تراجعا كبيرا في مقالات من كان يكتب لصالح المقاومة العراقية أو أنها انقطعت! ولإدراك درجة انزلاق هذا البعض في أوحال الحقد والنزعات التحزبية المقيتة نذكّر بأنه اعترف قبل تراجعه في عام 2006 بأن:

1 - المقاومة العراقية هي أشجع مقاومة في التاريخ لأنها تقاتل أقوى قوة استعمارية في التاريخ الإنساني وتلحق بها الهزائم المرة.

2 - إنها استثنائية في التاريخ لأنها بلا داعم خارجي ووصفت بصواب تام بـ(الثورة اليتيمة).

3 - إنها تواجه تحالفاً دولياً أكبر وأقوى مما واجهته النازية والمعسكر الشيوعي.

4 - إنها تقع في قطر فيه ألغام خطيرة زرعتها بريطانيا وإيران بشكل خاص، وهي الطائفية في الجنوب والعنصرية في الشمال، ومع ذلك فأنه، ونتيجة لتمسك الفصائل القومية والوطنية المقاتلة بالانتماء الوطني بصفته المعيار الوحيد وليس الدين أو الطائفة في الاصطفاف الاجتماعي والسياسي، تم تجاوز هذه الألغام وحجمت أخطار تفجيرها.

5 - إنها مقاومة، ورغم تعدد فصائلها أيديولوجياً وتنظيمياً، نجحت حتى عام 2006 في احباط كل محاولات شقها وتفتيتها بعكس ماجرى لاغلب حركات التحرر، والتي كانت غالباً يقودها تنظيم واحد لكن العدو يجد فيه من ينشق عنه، وحتى بعد بروز خلافات، كان بعضها دموياً، بين بعض فصائل المقاومة العراقية، فأن الثورة المسلحة تواصلت بحدتها وزيادة عملياتها، خصوصاً بعد اعادة تنظيم الفصائل الاكبر عددياً والاهم عسكرياً، في (تنظيم القيادة العليا للجهاد والتحرير)، الذي ضم، وبشكل استثنائي وفريد في وسط المقاومة العراقية، كافة مكونات العراق بلا استثناء، ففيه العربي والكردي والتركماني، والمسلم والمسيحي واليزيدي والصابئي، وفيه الشيعي والسني.. الخ.

6 - لقد احبطت المقاومة العراقية كافة الستراتيجيات الامريكية العسكرية في العراق، ودحرتها وأوصلت أمريكا إلى حافة الانهيار الاقتصادي (وصلت التكاليف الى3 تريليون دولار)، والعسكري (تراجع مخيف في القدرة القتالية الامريكية)، أجبر العسكرية الامريكية على التخلي عن استراتيجية خوض حربين في وقت واحد، وهي ستراتيجية كونية دفنتها المقاومة العراقية باقتدار نادر، مما سمح ببقاء انظمة ودول بعيدا عن الشر الامريكي الاعظم في التاريخ الانساني . وهذه الحقيقة من ابرز مميزات الثورة العراقية المسلحة.

7 - المقاومة الوطنية العراقية حفظت للعراق وحدته، ومنعت نشر الفوضى العرقية والطائفية الى خارجه، كما خططت أمريكا ومعها (اسرائيل) وإيران، لأن تفجير لغم الطائفية تم احتواءه في العراق وتجاوز العراق محنة محاولة اشعال فتنة طائفية.

8 - المقاومة العراقية منعت امريكا من تطبيق خطة تعاقب اسقاط احجار الدومينو العربية، فلقد كان متوقعاً من قبل من خطط لغزو العراق، ان يعقب غزوه سقوط سوريا ( كثمرة ناضجة بلا حرب في يد امريكا )، وهو ماقاله بعنجهية احد اهم من خططوا لغزو العراق، وهو ريتشارد بيرل ( امير الظلام )، كما يسمى، ثم يأتي دور السعودية والخليج العربي، الذي كما قلنا بعد العدوان الثلاثيني عام1991 بان امريكا تخطط لتحويله الى منطقة دولية وهاهو ذلك التوقع يتحقق الان، وبعدها يأتي دور مصر والسودان والمغرب العربي، إن ورطة امريكا القاتلة في العراق علمتها درساً قاسياً وهو ضرورة عدم الاستخفاف برد فعل الشعوب الاخرى، فاكتفت امريكا بالمناورات والدسائس السياسية ولم تقدم على خطوات اسقاط انظمة اخرى أو احتلال بلدان اخرى عسكرياً، لذلك يسجل للمقاومة العراقية انها، وليس غيرها، من منع تعاقب خطوات اعادة بناء ما يسمى بـ(الشرق الاوسط الجديد)، والذي كان مفروضاً أن يضم "اسرائيل" وتركيا وإيران وكيانات عربية مقزمة ومهمشة بلا هوية عربية أو وطنية.

9 - المقاومة العراقية، وليس غيرها، وضعت حداً لرعب اغلب حكومات وشعوب العالم من الوحش الامريكي، الأشد ضراوة ووحشية وشهية لافتراس الاخرين في كل التاريخ الانساني، إن من يقارن انحناء أو انبطاح الاغلبية الساحقة من العالم لامريكا قبل غزو العراق ووقوفها ضد أمريكا بشجاعة بعد انطلاق المقاومة العراقية، وجرها لامريكا الى اسوأ مستنقع، او اسوأ كارثة ستراتيجية في التاريخ الامريكي، حسب الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر ووزيرة خارجية امريكا الاسبق مادلين اولبرايت والقادة العسكريين، لذلك فللمقاومة العراقية الفضل في نهوض العالم من كبوة الخوف والاستسلام لامريكا.

10 - بل حتى التحالف الستراتيجي الامريكي- الاوربي تعرض للضعف والاهتزاز، مع انه كان القاعدة الاساسية، لنجاح الامبريالية الامريكية في السيطرة على العالم، فأنسحبت اغلب بلدان اوربا وغيرها من العراق، وهناك الان خلافات عميقة حول افغانستان بين دول النيتو تهدد بانهياره.

11 – انها مقاومة تحدث في قطر لاجبال فيه ولا اهوار ولا غابات، بل هو ارض منبسطة يسهل على الطيران والمدفيع المعادية فيها توجيه ضربات مميتة للمناضلين من اجل الحرية، بعكس ثورات التحرر الاخرى التي حدثت في غابات او جبال أو مناطق يسهل الدفاع عنها وهذه الصفة تمنح المقاومة العراقية قرادة نادرة في تاريخ الثورات.

إن هذه الحقائق المذكورة أعلاه تكفي لوحدها، ويوجد غيرها طبعاً، لتأكيد اهم حقيقة ستراتيجية في العالم برمته وهي أن المقاومة العراقية هي الطليعة الاساسية بلا منازع لكافة حركات التحرر، ومن لا يرى ذلك عليه أن يقدم مثالاً واحداً يناقض ذلك، هذه الحقائق كان يتناولها بفخر من يصمت الآن عنها! فما السر في هذا الصمت المريب والغريب؟

أساليب التضليل

لأجل منع اكتشاف الحقائق السابقة أو تمويهها وتشويهها، لان معرفتها والعمل وفقاً لما تتطلبه، وأهمها دعم المقاومة العراقية بالثقل الشعبي العربي والعالمي الأكبر للتعجيل بحسم الصراع ودحر العدو، الأخطر والرئيس وهو أمريكا، والذي يحمي العدو الذيل أو الفرعي وهو "اسرائيل"، فأن الدعاية الأمريكية - الإيرانية قامت منذ عام 2006 على ترويج الأفكار التي ذكرنا أهمها، ونضيف الآن ضرورة التذكير بأن القادة الأمريكيين في العراق والحكومة والبرلمان العميلين محاصرون في "المنطقة الخضراء" في بغداد، وبقاء العاصمة شبه محررة وهي حقيقة تؤكدها كل الوقائع، ومنها وآخرها عقد اجتماعات اتحاد البرلمانيين العرب في اربيل في الشمال الكردي من العراق وليس في مقر البرلمان وهو بغداد.

ومن بين أساليب التضليل الأخرى ادعاء أن المقاومة العراقية تتشكل بغالبيتها من بقايا (النظام السابق) لذلك يجب عدم دعمها لمنع عودته للحكم! مع أن كل الوقائع تثبت بأن الفصائل المقاتلة بعضها بعثي أو صديق للبعث وبعضها الآخر لديه خلافات جوهرية مع البعث، إضافة لحقيقة أن البعث قد أكد مراراً في (المنهاج السياسي والستراتيجي للبعث والمقاومة لعام2003)، وأعاد تأكيد ذلك في ستراتيجية القيادة العليا للجهاد والتحرير، التي أعلنت عام 2007، بأن النظام الجديد بعد التحرير سيكون نظاماً ائتلافياً وديمقراطياً الفيصل الحاسم فيه هو الانتخابات الحرة.

وأخيراً وليس آخراً فشل ما سمي بـ(مجالس الصحوات) التي استغلها الاحتلال لضرب المقاومة، باسم تصفية "القاعدة"، وحصول انقسامات عميقة وانسحابات كثيرة منها، وانضمام قسم منها إلى المقاومة الوطنية، مع أنها كانت آخر أسلوب في محاربة المقاومة، نعم لقد ضعفت "القاعدة" بشكل كبير نتيجة إعلانها (الدولة) في ظل الاحتلال وسياستها التكفيرية والطائفية، وفقدت اغلب الدعم الشعبي الذي حصلت عليه في عامي 2004- 2005، ولكن بقية الفصائل الوطنية والقومية والإسلامية المقاتلة ملأت الفراغ في بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة "القاعدة".

لعبة استبدال الرئيسي بالثانوي

إن خلاصة ما تقدم، من وجهة نظر أمريكية - إيرانية، هي أن استبدال ساحة الصراع الرئيسي وتقزيمها، وهي ساحة العراق، بساحة فرعية، وهي فلسطين وتعظيمها، وافتعال أزمة ساخنة في لبنان لا مبرر ستراتيجي لها لأن لبنان لا يشكل ساحة صراع رئيس بكل المعايير الموضوعية، من وجهة نظر لبنانية وعربية، لكن إيران وأمريكا لهما مصلحة في إبراز زعامات ترتدي الزي المقاوم، وبعضها مقاوم فعلاً مثل حماس، وتسليط الأضواء عليها ووصفها بأكبر من دورها الفعلي، مع تجاهل تام، وتعتيم أتم، وتشويه لا مثيل له لدور المقاومة العراقية وواقعها، هذا ما نراه في الفضائيات التي تركز على المعركة في فلسطين وتهمل بنفس الوقت معركة العراق، مع أنها ستراتيجيا وقوميا معركة الحسم الفلسطيني والعربي العام! ونحن مع حماس ومع كل مقاتل فلسطيني يطلق الرصاص على "اسرائيل"، لكننا يجب أن لا نهمل حقيقة أن مصير معركة فلسطين يتوقف على المقاومة العراقية، لذلك لا يجوز لمن يدعم المقاومة الفلسطينية أن يتجاهل او يحط من شأن المقاومة العراقية، كما أن البعض وصل في وقاحته أو نقص وعيه إلى حد إطلاق وصف (سيد المقاومة) على حسن نصر الله، مع انه يخوض معارك لصالح إيران وضد مصالح لبنان والعراق والأمة العربية، لسبب بسيط هو أن "حزب الله"، وكل قوى لبنان، ليس لها برنامج أو ستراتيجية تؤدي إلى تحرير فلسطين، وهو ما اعترف به نصر الله مراراً.

إذاً السؤال المنطقي المهم هو: إلى أين يريد "حزب الله" الوصول من وراء إصراره، وإصرار التيار الأمريكي في لبنان، خصوصا نظير حسن نصر الله والمكمل لدوره في تقسيم لبنان وجعله ساحة صراع مفتعل وهو سمير جعجع، على إبقاء أزمة لبنان مشتعلة تحرق الأخضر واليابس لا لشيء الا لخدمة إيران في العراق من قبل "حزب الله"، ولخدمة أمريكا في العراق ولبنان وسوريا من قبل التيار الأمريكي؟

هنا نصل إلى جوهر الموضوع الذي يتجاهله البعض عمداً، أو انه لا يدركه بحكم وعيه الستراتيجي القاصر، والذي يتجسد في حقيقتين:

الحقيقة الأولى هي أن ساحة الصراع الرئيسي والحاسم هي ساحة العراق وليس فلسطين أو لبنان، لأن أمريكا وكم كبير من الأوربيين والآسيويين يقاتلون في العراق، باختصار أن أعظم قوى الإمبريالية المعاصرة تقاتل في العراق ضد حركة التحرر الوطني العراقية بقيادة المقاومة المسلحة، لذلك فأن مصير الوطن العربي، بما في ذلك مصير فلسطين، ومصير العالم وطبيعة "النظام العالمي الجديد" مرتبطة مباشرة بمصير حرب تحرير العراق، فهزيمة أمريكا في العراق ستحدث سلسلة هزات ستراتيجية وانقلابات جذرية في وضع العالم برمته، لذلك فأن العدو الأخطر والأول بالنسبة لأمريكا هو المقاومة العراقية.

الحقيقة الثانية هي أن المقاومة الفلسطينية، وبعد أن قزمت مقارنة بالمقاومة الفلسطينية في السبعينيات مثلاً، وحوصرت في فخ قاتل هو استدراجها إلى الضفة والقطاع تحت عنوان مضلل، ومدمر للروح النضالية، وهو (إقامة سلطة وطنية فلسطينية) مستحيلة في ظل الاحتلال "الاسرائيلي"، كاستحالة أن تكون حكومة المالكي سلطة وطنية في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، نجحت أمريكا و"اسرائيل"، وبعد أن تعرضت المقاومة الفلسطينية لضغوط هائلة، في دفع أهم طرفين فيها، وهما (حماس) و(فتح)، لقبول حل ضمن التوازن الستراتيجي، القائم على بقاء "اسرائيل" وتفوقها، بعد أن قبلت فتح بدولة في الضفة والقطاع لحقت بها (حماس) بعد ان تورطت، أو ورطت في الانتخابات، فواجهت استحقاقات الوجود في السلطة، فأعلنت على لسان السيدين خالد مشعل واسماعيل هنية عن قبول نفس ما قبلته (فتح) قبلها: دولة مقزمة في الضفة والقطاع تكون حاجزاً بشرياً فلسطينياً بين "اسرائيل" والأمة العربية، وهو هدف صهيوني قديم، ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تقوم إدارة جورج بوش بطرح خطة دولتين هما فلسطين و"اسرائيل"، وهو حل تدعمه "اسرائيل".

فأين الخلاف إذن بين الطرح الفلسطيني الرسمي (فتح) و(حماس) والطرحين الأمريكي- "الاسرائيلي"؟ إنه خلاف يدور حول الكم وليس النوع، أي أن (حماس) و(فتح) تحاولان انتزاع أكبر ما يمكن من "اسرائيل" وأمريكا وليس لتحرير كل فلسطين، مقابل محاولات "اسرائيل" وأمريكا جعل الكيان الفلسطيني حاجز حماية "لاسرائيل" وأداة تسللها إلى باقي الأقطار العربية.

أين التغيير في خارطة التوازن الستراتيجي الذي سيحدث نتيجة الصراع في ساحة فلسطين؟ لن يحدث تغيير جوهري ولا ستراتيجي، سواء فاوضت (حماس) أو (فتح)، وسيبقى الأمر الواقع كما هو، إذا اعتمدنا على المقاومة الفلسطينية وحدها، مع إجراء تعديل ثانوي هو قيام كيان فلسطيني، تكون وظيفته إضافة لما سبق، تقديم سلاح دعائي أقوى لأمريكا و"اسرائيل" لإقناع الأنظمة العربية، وربما أجزاء من الجماهير العربية، بأن الشعب الفلسطيني أقام دولته الوطنية على جزء من فلسطين، لذلك لا ضرورة ولامبرر لمواصلة العداء "لاسرائيل" أو مقاطعتها، وتلك هي من أهم متطلبات قيام "الشرق الأوسط الجديد والكبير"، إن قومية قضية فلسطين تفرض نفسها مجدداً، واهم تعبيرات هذه الحقيقة هو ضرورة وحدة المقاومة في العراق وفلسطين، لأنها وحدها من ستعيد للمقاومة الفلسطينية روح التمسك بالمنطلقات الأصلية (لفتح وحماس) المثبتة في الميثاق الوطني الفلسطيني قبل تغييره، وستقلب الموازين الستراتيجية مجددا لصالح حركة التحرر الوطني العربية قاطبة، وتجبر "حزب الله" على الاختيار الحاسم بين نقيضين لا يمكن الجمع بينهما وهما عروبته وتبعيته التامة لإيران.

أما لبنان فأنه ساحة صراع مفتعلة بكل المعايير، الستراتيجية أو الوطنية أو المصلحية اللبنانية، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد مبرر حقيقي لجعل لبنان ساحة حرب مستمرة، ما دام من يصر على ذلك، وهو "حزب الله"، يعلن صراحة أن هدفه ليس تحرير فلسطين بل إعادة مزارع شبعا! إن أي عقل ومهما كان صغيراً ومتخلفاً يستطيع أن يرى الجوهر الاصطناعي لأزمات لبنان منذ اغتيال الحريري، ونحن لا نشك في أن من قام بذلك لا يتعدى ثلاثة أطراف على الإطلاق "اسرائيل" أو أمريكا أو إيران، فهذه الأطراف، وليس سوريا، هي من لها مصلحة في دفع لبنان نحو المحرقة، إن لبنان ساحة تنافس ستراتيجي وليس صراع ستراتيجي بين "حزب الله" و"اسرائيل"، كما يتوهم بعض السذج، بل بين أمريكا وإيران، لأن أمريكا، وبعد أن استغلت إيران في المساعدة على غزو العراق وأفغانستان، وهو ما اعترف به خاتمي، تريد الآن تقليم أظافر إيران وتحجيم دورها، وليس إلغاءه، ليبقى في خدمة استراتيجية أمريكا و"اسرائيل" القائمة على نشر الفتن الطائفية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، أما إيران، وبعد أن سمحت لها أمريكا بدخول العراق، أخذت تنفذ ستراتيجيتها القومية الاستعمارية الخاصة بها، والقائمة على افتراس الوطن العربي، انطلاقاً من العراق، لإقامة إمبراطورية فارسية تموه هدفها القومي الصرف بغطاء إسلامي مزور، لذلك فأنها تضغط على أمريكا في لبنان وفلسطين وغيرهما.

إذن نحن بإزاء ثلاثة مشاهد في الوطن العربي:

1 - مشهد الصراع الستراتيجي الحاسم بين اعظم قوتين في عصرنا، وهما أمريكا وحلفاؤها والمقاومة العراقية الباسلة بكافة فصائلها، وبكافة مسانديها من القوى السياسية الوطنية العراقية، وفي هذا المشهد فأن أمريكا تواجه، كما قال الرئيس الأمريكي بوش وهو يتجرع سم العراق القاتل كما تجرعه حليفه وسلفه خميني، (إما الانتصار في العراق أو هزيمة أمريكا عالمياً).

2 - مشهد صراع حقيقي وأساسي لكنه يدور في ساحة لا تتوفر فيها عوامل وشروط الحسم لمعركة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (حماس وفتح) وغيرهما لحسم الصراع لصالحها، بحكم ظروف موضوعية بالأساس، لذلك قبلتا بدولة مقزمة تقام تحت اشراف أمريكي –"اسرائيلي"، مهما كانت نوايا القيادات الفلسطينية، (ما دامت أمريكا قوة لا تهزم)، ومن ثم فأن مواصلة "اسرائيل" قوتها يستمد من قوة امريكا وليس العكس.

3 - مشهد صراع مفتعل يدور بالنيابة على أرض لبنان بين أمريكا وإيران، والهدف الأهم من وراءه، هو إبعاد النظر عن الصراع الرئيسي في العراق، لأجل تقزيمه بنظر محيطه الحيوي وهو الأمة العربية، من وجهة نظر أمريكية، وإزالة الدم العراقي الذي يغطي الجسد الإيراني، من الرأس حتى القدمين، المتورط في غزو وتدمير العراق، عن طريق معارك "حزب الله" مع "اسرائيل"، والتي تجيّر حتماً، وكما رأينا، لصالح تحسين صورة إيران وكسب الأنصار العرب لها لكي تواصل دورها الإجرامي التفتيتي في العراق، ثم في بقية الوطن العربي، وتحت غطاء أنها (قيادة الطرف المعارض) لأمريكا كما ادعى علي خامنئي، الرجل الأول في إيران!

في مشهد الصراع اللبناني هذا ليس ثمة من تجرأ وقال بأن المطلوب هو دحر "اسرائيل" كلياً، أو تجاوز قاعدة التوافق اللبنانية، لذلك فأنه صراع، مهما استمر وتطور، لن يغير التوازن الستراتيجي الإقليمي، وكل ما سيقود إليه هو المزيد من الخراب في لبنان، وربما في سوريا، وتعميق الصراعات الطائفية في لبنان: فرداً على طائفية "حزب الله" ظهرت جماعات سنية طائفية "فتح الإسلام" مثلاً، وأعيد الاعتبار وبقوة للطائفية المسيحية، بعد أن هدأت وضعفت الطائفية اللبنانية نتيجة "الحرب الأهلية" السابقة وإدراك كل الأطراف أن لا حسم عسكري في لبنان وإنما التوافق هو الحل (1975-1990).

جهل أم تجاهل؟

في ضوء ما تقدم لا يسعنا إلا أن نطرح، مرة ثانية وثالثة وعاشرة، سؤالاً منطقياً: هل ما قلناه من حقائق عن الوضع الستراتيجي الإقليمي والعربي والعالمي غير معروفة أو غامضة؟ كلا، فمن يزج بنفسه في معارك المصير عليه أن يبدأ، أولا وقبل كل شيء، بمعرفة أوليات الستراتيجية والتكتيك، لكي يرى بصواب طبيعة التوازنات الستراتيجية السائدة والقوى التي تؤثر فيها، ودرجات ونوعية هذا التأثير، فبدون ذلك لن يكون الفهم ممكناً.

وأولئك الذين تجاهلوا المقاومة العراقية منذ عام 2006، أو طرحوا آراء مضللة بصددها (مثل أنها تحولت إلى حرب أهلية وانحسرت) لا يمكن أن يفسر ذلك إلا كما يلي:

1 - أما أن يكون وعيهم متخلفاً، إلى درجة البؤس، فلا يدركون ما يجري ويكتبون وفقاً لمعايير هذا البؤس في الوعي، ولذلك فأن ما يقولونه لا قيمة له، لأن الجاهل لا يحق له توجيه الناس.

2 - أو أنهم يتغابون عمداً، خضوعاً لحالة بغاء الضمير والذي يعد أسوأ وأحقر من بغاء الجسد، أي أنهم باعوا ضميرهم إما بالدولار الأمريكي، أو بالبتروتومان الإيراني.

3 - أو يكونوا أسرى نزعة حقد حزبي مقيت يجعلهم (يعرفون ولكنهم يحّرفون)، كما يقول المثل العراقي، وأمثال هؤلاء هم أخطر من العملاء وأخطر من الجهلة، فالقومي الناصري، وهو حتما ناصري سابق مهما ادعى غير ذلك، الذي يناصر إيران وهي تذبح العراق مع أمريكا وتنشر الطائفية، وهي أهم أهداف "اسرائيل" وأمريكا، هو عبارة عن قارورة سم تسفح أينما حلت ما فيها، أما الشيوعي (السابق) فأنه، وهو يتقيأ أحقاده الآن على الحركة الوطنية العراقية واقفا مع الاحتلال، أو في ظلاله المخفية، فأنه يعبر عن حالة انحطاط أخلاقي لا بد أن يكون جذر الانحطاط الوطني.

وإذا كان هناك من يدعي الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية والإسلامية ومع ذلك يتمترس بتحزبيته وانطباعاته الحسية الشيطانية، القائمة على الحقد والغيرة من نجاحات الآخرين، فأنه يقدم لنا أنموذجاً من العوق العقلي أو الأخلاقي والذي لا مفر من أنه يقود إلى خدمة الاحتلال المشترك: الأمريكي – الإيراني - "الاسرائيلي" وبغض النظر عن النوايا.

إن المعيار الرئيس والحاسم الآن، في كل الوطن العربي وفي كل العالم المناهض للاستعمار، هو معيار دعم المقاومة العراقية المسلحة ضد الاستعمارين (الأمريكي وحليفته "اسرائيل") والإيراني، فما لم تدعم المقاومة العراقية لأجل تسريع إلحاقها الهزيمة بامريكا في العراق فأن معركة فلسطين ستنتهي إلى كيان مقزم أقل من الحكم الذاتي، أما لبنان فسوف يواجه حرباً أهلية جديدة لا محالة تشعلها إيران وأمريكا، ولا يختلف مصير باقي الوطن العربي عن ذلك فأنه سيواجه خيارات كلها مدمرة وتقسيمية تنتهي بدفن الأمة العربية.

أن من يريد لفلسطين ان تتحرر من الغول الصهيوني عليه دعم المقاومة العراقية، أولاً، بصفتها السند الأقوى للمقاومة الفلسطينية، وأن من يريد صد المد الأمريكي- الإيراني ومنعه من مواصلة نشر الفتن، بكافة أنواعها، عليه مساعدة المقاومة العراقية على دحر الاستعمارين الأمريكي والإيراني.

فقط بانتصار المقاومة العراقية ستهزم أمريكا عراقياً وعربياً وعالمياً، وذلك هو المدخل التاريخي والوحيد الآن لتحرير فلسطين.

فقط بانتصار المقاومة العراقية ستهزم الفتن الطائفية والعرقية في الوطن العربي، خصوصاً في لبنان.

فقط بانتصار المقاومة العراقية سنعيد للأمة العربية عزها وكرامتها ومجدها على طريق هدفنا الأسمى والأعظم الوحدة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

النصر أو النصر ولا شيء غير النصر.

17/3/2008

[email protected]

 

ملاحظتان هامشيتان:

1 - هناك من يقول يجب أن لا نستفز إيران أو ننتقد "حزب الله"، حرصاً على وحدة الصف المقاوم! مرة أخرى هذا البعض الذي يقول ذلك يتجاهل أو يجهل أن المقاومة العراقية كانت ومازالت تدعو لوحدة المقاومة العربية، خصوصاً في فلسطين والعراق ولبنان، وتعمل من أجل ذلك بجدية مثلما تعمل لوقف التدهور في العلاقات مع إيران، وعبرت عن استعدادها للحوار والتفاهم مع إيران و"حزب الله"، ولكن من يخرب وحدة المقاومة العربية وينشر الصراعات؟ إنها إيران التي تصر على نشر الفوضى الطائفية، إنها إيران التي تصر على مواصلة التقاءها الستراتيجي مع أمريكا ضد العراق ومقاومته المسلحة، إنها إيران التي تدعم الحكومة العميلة في بغداد، أنها إيران من يمنع التوحد ضد أمريكا، وحينما ستتخلى إيران عن استخدام الدريل (المثقاب الكهربائي) كأداة أساسية ليس لثقب رؤوس العراقيين وعيونهم فقط بل لثقب قربة الماء الوحيدة لديهم، وهم يغذون السير في صحراء مجدبة، وهي قربة الماء الذي تحتفظ به المقاومة العراقية لأوقات العطش القاتل . لتوقف إيران دعمها لأمريكا في العراق، ولتوقف نشر الفتن الطائفية في الوطن العربي، عندها لن تصدر عنا كلمة واحدة ضد إيران، أما "حزب الله"، فكما قلت في مقالتي (نحن وحزب الله وإيران) عقب حرب عام 2006، فان كل مصادر خلافاتنا معه متأت من تبعيته لإيران، فإذا حلت مشاكلنا مع إيران فسوف تحل مشاكلنا تلقائيا مع حزب الله . الكرة في الملعب الإيراني وليس في ملعبنا، وعلى البعض عدم نسيان هذه الحقيقة، وإذا كان جادا في الدعوة لوحدة مناهضي أمريكا فعليه أن يوجه النقد لإيران، بل أن يجلدها، وليس لنا.

2 - ملاحظة أخرى تثير الغثيان للفقر الرهيب في فهم البعض وبؤس الوعي لديه، هذا البعض يقول أن انتقاد إيران يخدم أمريكا ويصب في صالحها مع أن من ينتقد إيران هو المقاومة العراقية، بكافة فصائلها ودون أي استثناء، وهي القوة الأساسية التي تخوض حرب المصير مع أمريكا، وليس إيران التي سهلت لأمريكا غزو العراق وتدميره، أو أي طرف آخر، عربيا كان أو أجنبياً! فهل يوجد ضلال وتضليل أسوأ من هذا؟!

أيها الوالغون في دمنا وأنتم لا تدركون أفيقوا الآن وليس غدا، فنحن ضحايا أمريكا و"اسرائيل" وإيران وما قدمناه من شهداء من أجل فلسطين والأمة العربية يعادل أكثر من نصف نفوس فلسطين، أي ثلاثة ملايين عراقي استشهدوا منذ عام 1991 وحتى الآن، ولو كنا نساوم لما تعرضنا لما نتعرض له ولما فقدنا السلطة وعدنا نناضل تحت الأرض وفوقها بالبندقية وبالكلمة الحرة.