عندما تقلب شروط بدء المفاوضات إلى أهداف لها
بقلم محمد السهلي
لم يكن "إيهود باراك"، وزير الحرب "الإسرائيلي"، بحاجة إلى تصريحات "كوندوليزا رايس"، وزيرة الخارجية الأميركية، حول الاستيطان حتى يعتبرها مسوغاً لتغيبه عن اجتماع "اللجنة الثلاثية"، فالمصادر "الإسرائيلية" ذاتها أشارت إلى أن "باراك" سينأى بنفسه عن أية اجتماعات تبحث، ولو شكلياً، في سبل حل "الصراع "الإسرائيلي" – الفلسطيني"، وتؤكد هذه المصادر أن هذا الرجل يقدم نفسه أمام الجمهور "الإسرائيلي" كنموذج "للقيادة الصلبة والحازمة" مقابل "الذراع الرخوة" التي يمثلها برأيه معظم القيادات السياسية "الإسرائيلية" وفي مقدمتهم بالطبع "إيهود أولمرت"، رئيس الوزراء.
وإلى جانب ذلك، ينقل عنه المحيطون به إصراره على مواصلة سياسة الضغط بالقوة العسكرية على غزة والضفة الفلسطينية على حد سواء، ويعتبر أنه استطاع "أن يلقن غزة وأهلها درساً مؤلماً" سيجبر الحالة السياسية في القطاع على الانصياع لشروط تل أبيب في موضوع التهدئة.
كما يفصل ما بين المفاوضات التي دارت بين ممثلي السلطة والجانب "الإسرائيلي" وبين مواصلته عمليات الاغتيال والاعتقال وتوسعة الاستيطان في الضفة، فهو يترك لغيره "إيهود أولمرت ووزيرة خارجيته ليفني" مهمة هذه اللقاءات فيما يبقى هو أمام الناظر "الإسرائيلي" في صورة القائد العسكري القابع في غرفة العمليات متربصاً بـ "أعداء إسرائيل".
لذلك لا يستحق، برأيه، حدث عرضي وشكلي مثل اجتماع "اللجنة الثلاثية" لأن يخرجه من الصورة "الاسبارطوية" التي لا يريد استبدالها بصورة المحاور الذي يخوض جدلاً عبثياً لا فائدة ترجى منه، ومن هذه الزاوية أرسل إلى الاجتماع مستشار وزارته للشؤون السياسية "عاموس جلعاد" المشهور في الأوساط الدبلوماسية بـ "الدكتور لا" لأن الرد المحبب عنده والذي يردده في لقاءاته مع الفلسطينيين هو لا.. ولا فقط.
الاجتماع الثلاثي (14/3/2008) جمع ما بين "د. سلام فياض"، رئيس حكومة السلطة الفلسطينية، و"الجنرال وليام فريزر"، ممثلاً للجانب الأميركي، و"عاموس جلعاد" المستشار السياسي في وزارة الحرب "الإسرائيلية" بديلاً عن "باراك" الذي كان يفترض به حضور الاجتماع.
ويفيد التذكير هنا، بأن "اللجنة الثلاثية" هذه كانت شكلت في "لقاء أنابوليس" الدولي الشهير (27/11/2007) وورد ذلك في البيان المشترك الفلسطيني - "الإسرائيلي" على أن تكون اللجنة بقيادة أميركية، وتكلف بمتابعة تطبيق خطة "خارطة الطريق".
اجتماع اللجنة هذا هو الأول لها منذ انفضاض عقد "لقاء أنابوليس"، ولم يحدد له أصلاً آلية تحدد دورية اجتماعاته وجاء بعد تطورات دامية إثر العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة والاستمرار بالتلويح بمواصلته وفي ظل توسعة الاستيطان، ونذكر هنا أن الحكومة "الإسرائيلية" كانت قد أصدرت قرارات لمنح عطاءات بناء 138 وحدة استيطانية خلال إحدى عشر شهراً قبل "مؤتمر أنابوليس"، لكنها بالمقابل أصدرت وخلال الأسابيع الخمس التي تلته، قرارات بعطاءات بناء 747 وحدة استيطانية وقد أعلنت مؤخراً قرارها، الاستمرار في بناء نحو 750 وحدة سكنية في مستوطنة "جفعات زئيف"، وإلى جانب ذلك فإن "أولمرت" ذاته أكد في غير مناسبة، وبشكل علني، تأييده توسعة الاستيطان في القدس ومواصلة جهوده الاستيطانية لفصلها عن محيطها الجغرافي في الضفة الفلسطينية.
من هذه الزاوية ساد الاجتماع جوّان متقابلان: شكوى فلسطينية من الاستيطان والاغتيالات والاعتقالات على لسان "سلام فياض"، قابله برود "إسرائيلي" حيث اكتفى "جلعاد عاموس" بالاستماع دون أن يعطي أية إجابات واكتفى بالقول بأنه سينقل هذه الملاحظات إلى قيادته، في الوقت الذي اكتفت القنصلية الأميركية في القدس في بيان لها بعد الاجتماع بالقول: "بحثنا في المجالات التي لم يلتزم فيها الطرفان بتعهداتهما، والأسباب التي أدت لذلك، واستعرضنا سبل الإسراع في العملية".
ما بين شكوى "فياض" وتجاهل "جلعاد" لأسباب شكواه، يتأكد مرة أخرى أن عدم التمسك بالشروط اللازمة لإطلاق مسار المفاوضات في "أنابوليس" (وقف الاستيطان وبناء الجدار ووقف الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات..) جعل من هذه الشروط أهدافاً كبرى يسعى المفاوض الفلسطيني يائساً لتحقيقها، في الوقت الذي يدرس الجانب "الإسرائيلي" بخبث وهدوء معادلات جديدة يعرض فيها مقايضات حول كل من هذه المطالب موضوع الشكوى.
هذا التكتيك أكدته وزيرة الخارجية "الإسرائيلية" "تسيفي ليفني" عندما قالت يوم 12/3/2008 أمام طلبة جامعة هارفارد الأميركية "إن خطة توسيع مستوطنة جفعات زئيف لا تساعد، ولكنها لن تضر في اتفاق سلام نهائي يجري التباحث حوله مع الفلسطينيين".
تصريحات معسولة
ومن المؤسف أن المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية في السلطة، لا يزال يطرب لبعض التصريحات الأميركية ومن بينها النقد الذي وجهته "رايس" للخطط "الإسرائيلية" في توسيع الاستيطان وكانت تتحدث يوم 12/3 أمام المشرعين الأميركيين في مجلس الشيوخ فقالت: "ترى الولايات المتحدة أن التوسع الاستيطاني لا يتفق والتزامات "إسرائيل" إزاء "خارطة الطريق"، كما أشدد على أن ذلك لا يساعد على تحقيق عملية السلام..".
من السذاجة بمكان اعتبار أن تصريح "رايس" يشكل بديلاً للموقف الأميركي الذي عبر عنه رئيس الإدارة الأميركية "جورج بوش" عندما أكد "أنه من غير الممكن الالتزام بحدود العام 1967 كجغرافيا للدولة الفلسطينية" وأيد بشكل معلن ضم الكتل الإستيطانية إلى "إسرائيل".
على كل حال، لم يتأخر التوضيح الأميركي على لسان "ديك تشيني"، فأكد خلال زيارته للعراق (17/3) أن القدس هي عاصمة "إسرائيل" وهو بذلك يدخل على خط تأييد موقف "إيهود أولمرت" حول استكمال تهويد القدس.
ولكن السؤال المزدوج الرئيسي هو لماذا لم يعقد أي اجتماع "للجنة الثلاثية" منذ اختتام "لقاء أنابوليس" قبل نحو أربعة أشهر؟ ولماذا عقد أول اجتماعاته الآن؟.
هذا السؤال يعيدنا إلى الدور الأميركي عراب "لقاء أنابوليس"، ومن المعروف للجميع أن "بوش" وإدارته أرادوا من عقد اللقاء بث الروح ليس في العملية السياسية المعطلة في "الشرق الأوسط"، بل لإنعاش موقع "الحزب الجمهوري" في المجتمع الأميركي وهو على أبواب عام الانتخابات الرئاسية، ولوحظ بشكل جلي ارتفاع أسهم "بوش" وحزبه ولو نسبياً في استطلاعات الرأي الأميركي على إيقاع انعقاد اللقاء ومن ثم مسلسل اللقاءات الدورية بين "أولمرت" و"عباس" والتي وظفت كمشهد سياسي "يوحي" بأن العملية السياسية بدأت تسترد سكتها وأن العام 2008 سيشهد حلاً للصراع "الفلسطيني - "الإسرائيلي"".
مبدأ التوظيف السياسي للأحداث والمشاهد السياسية فن لطالما أتقنته إدارات استعمارية عدة، والإدارة الأميركية ليست بعيدة عن هذا، ويساعدها في ذلك أنها لا تزال معتمدة لدى المفاوض الفلسطيني كمرجعية في حل الخلافات التي تنشب مع المفاوض "الإسرائيلي"، وكان من المتاح أمام الولايات المتحدة الاستمرار بهذا المشهد لوقت أطول لولا التطورات الدامية التي وقعت في قطاع غزة على يد العدوان "الإسرائيلي".
وكان واضحاً أمام قيادة السلطة الفلسطينية أنه لم يعد أمامها بد من إعلان تعليق المفاوضات، إثر ذلك، هرعت "كوندوليزا رايس" إلى المنطقة في محاولة لإعادة الصورة إلى إطارها السابق، لكن الذي وقع في غزة وما يقع في الضفة وإصرار الحكومة "الإسرائيلية" وأجهزتها الأمنية على الاستمرار في ممارساتها، كل ذلك أعاق تحقيق ما صبت إليه "رايس".
هنا، استحضرت الإدارة الأميركية "اللجنة الثلاثية" تحت عنوان تقييم الخطوات المنجزة وتحديد مسؤوليات الطرفين في عدم تنفيذ التزامات كل منهما كما وردت في خطة "خارطة الطريق"، وهذا أيضاً مشهد سياسي يراد له أن يوحي بأن سكة المفاوضات لا تزال مرئية، وبأن ما يجري، الآن هو مباحثات ثلاثية من المفترض أن تدفع الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي" إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالعودة إلى المفاوضات واستعادة لقاءات القمة الدورية فيما بينهما.
المعادلة القائمة الآن ليست جديدة، لكن ما يستجد بها على نحو متواصل هو موقع المفاوض الفلسطيني الذي يزداد ضعفاً وارتباكاً وأصبحت الشكوى عنواناً أساسياً لخطابه.
برأينا، سيبقى الوضع يتردى من سيء إلى أسوأ إلا إذا "اقتنع" المفاوض الفلسطيني ومرجعيته في السلطة بضرورة إعادة رسم معالم الطريق إلى طاولة المفاوضات بما يكفل حل الصراع ربطاً بالحقوق الفلسطينية.