القضية لن تموت..!
د. صلاح عودة الله / فلسطين المحتلة - القدس
"الغزلان تحب أن تموت عند أهلها.. الصقور لا يهمها أين تموت..!
لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي.. أو أقتلع من السماء جنتها.. أو أموت أو نموت معا..!
(الشهيد البطل غسان كنفاني)
"من شعبنا الصامد على الحدود، ومن ضمائر أمتنا المجاهدة، انبثقت طلائعنا الثورية، المؤمنة بالثورة المسلحة طريقا للعودة والحرية، لتثبت للمستعمرين وأذنابهم وللصهيونية العالمية ومموليها أن الشعب الفلسطيني ما زال في الميدان، وأنه لم يمت ولن يموت".
هذه مقدمة البيان الأول الذي سطره عرفات ورفاقه في الأول من يناير 1965 ليعلن للعالم بأسره بداية الثورة المسلحة الفلسطينية والتي بدأتها (طلائع قوات العاصفة) الجناح العسكري لحركة "فتح" الفلسطينية التي أسسها الشهيد (أبو عمار) مع رفيقه الشهيد (أبو جهاد)، ليمضى بها مع رفاقه لتصبح العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تضم إلى جانب "فتح" العديد من التنظيمات والقوى الفلسطينية ليصنعوا مع عرفات وتحت رئاسته انتفاضة الشعب الفلسطيني البطل ضد قوى البغي والعدوان، ضد المستعمرين الصهاينة وحلفاؤهم، ضد الامبريالية الأمريكية المتوحشة، ضد المتخاذلين، كل المتخاذلين.
ويقول البطل التاريخي (تشي جيفارا): "إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الوطن الثوار يملأون العالم ضجيجا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء، إن الطريق مظلم وحالك فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق، لن يكون لدينا ما نحيا من أجله، إن لم نكن على استعداد أن نموت من أجله".
فلسطين قضية لن تموت لاعتبارات متعددة، منها طبيعة المشروع الصهيوني نفسه الذي يُعتبر مشروعا استيطانيا استعماريا غربيا يستند إلى رؤية توراتية تهدف إلى نقل يهود العالم من الشتات إلى أرض فلسطين، وإبعاد الفلسطينيين عن أرضهم من خلال إبادتهم أو ترحيلهم، يقول "المفكر اليهودي" "آلان دواتي": "لا سبيل لاستمرار احتلال "إسرائيل" للأراضي العربية، إلا إذا قامت "إسرائيل" بما قام به النازي: التطهير العرقي والترحيل"، غير أن تطبيق نموذج النازي على فلسطين يبدو مستحيلا على الواقع الفلسطيني، فالفلسطينيون يختلفون عن الهنود الحمر الذين أبادهم الأمريكيون في العالم الجديد.
كما أن ترحيل الشعب الفلسطيني عن أرضه سيصطدم بدول الجوار العربي: الذين لن يسمحوا بتصدير المشكلة "الإسرائيلية" إليهم، إضافة إلى أن نصف الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات، وكما يقول المفكر الفرنسي (روجيه جارودي): "إن المقاومة الحقيقية للمقاومة الفلسطينية في شتاتها.
إضافة إلى فقدان المقاومة الفلسطينية لأية قاعدة انطلاق لها باستثناء الداخل فقط، وهو ما يعني اصطدام المشروع الصهيوني بالواقع الفلسطيني"، وهذا ما يؤكده رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق "نتانياهو": "إن صراع "إسرائيل" مع الفلسطينيين هو صراع وجود وليس صراع حدود"...! وتعطي الدراسة التحليلية الهامة التي أعدها وزير الخارجية الصهيوني الأسبق "شلومو بن عامي" عن أسباب زوال الإمارات الصليبية من بلاد الشام رغم مرور مائتي عام على قيام بعض هذه الإمارات، سندا تاريخيا على ضرورة فشل المشروع الصهيوني، حيث أرجع "بن عامي" فشل المشروع الصليبي إلى أنه وُجد في بيئةٍ معادية له، وهو ما أدى إلى انغلاقه على نفسه ووقوفه خلف جدران الحصون للدفاع، إضافة إلى اعتماد هذه البؤر الصليبية على إمدادات الخارج من الغذاء والبشر، وهو ما يعني إمكانية خنقها وحصارها في أي وقت تقوى فيه الجبهة العربية والإسلامية.
ولا شك أن هناك تشابها كبيراَ قائماً بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني، وهو ما يؤكد استمرار القضية الفلسطينية بدون حل عادل أو حل جذري، لاصطدام كلا الحلين بالمشروع الصهيوني والواقع الفلسطيني، فـ"الإسرائيليون" نجحوا في إقامة "الدولة" لكنهم فشلوا في تأمينها، لهذا لم تُلق تل أبيب السلاح منذ 1948 حتى الآن، كما أن "إسرائيل" تحمل في أحشائها جنينا فلسطينيا لا تستطيع أن تتخلص منه وهو عرب 1948 الذين يزيد عددهم عن مليون نسمة.
"مات زمن الأندلس وولد زمن الانتحار / فلسطين القتيلة تنادي على أكوام من حجار / ويسقط نخل العراق جريحا وليس ثمة انتصار / أجوب أزقة حزني وأتجرع أكواب يأسي / وأضطجع على فراش موتي وكل شيء أضحى انهيار / أه لو أننا يا صديقي ما خلقنا في أوقات الإعصار / أه وألف أه / متى يسطع الفجر؟؟ متى سيطلع النهار".
إلى شعبنا العربي الفلسطيني في الداخل والخارج، يا أبطال الصمود والتصدي، يا أطفال الحجارة يا كل عربي شريف يرفض الاحتلال ويرفض التطبيع ويرفض الاستكانة والتخاذل: نعزيكم.. نشد على أياديكم.. ونقول ما قاله الشهيد الفلسطيني (توفيق زياد):
"ادفنوا أمواتكم وانتصبوا.. فغدا لو طار.. لن يفلت منا.. نحن.. ما ضعنا.. ولكن من جديد.. قد سُبكنا".
ورغم الوضع المأساوي الذي تمر به قضيتنا اليوم وذلك نتيجة لاقتتال داخلي بين حركتين على سلطة بل محمية لا سلطة لها تحت الاحتلال، ففلسطين كلها محتلة. أشخاص وتيارات وضعت مصالحها الحزبية والفئوية الضيقة فوق مصالح شعبنا الوطنية العليا..
أقول مستذكرا ما قاله (أيمن الرفايعة): "شكراً لرموز النضال / شكراً لدعاة الاقتتال / شكراً لكل رمز / ترك القضية / واشتغل بالهمز واللمز / شكراً لكل عربي / ناح وصاح وشجب واستنكر / وطالب بحل القضية / دعم مناضل ضد مناضل / حتى صاروا وحوش البرية / شكراً لكل من حمل السلاح لأخيه / عتباً على كل فلسطيني ألقيه / أما العربي فلا يوجد عتب يفيه / شكراً لكل الدول الشقيقة والصديقة / شكراً لكل زعيم آزر / وشكل اللجان لتقرر المحاضر / شكراً لكل زعيم غضب لما يحدث / وهو يحتسي فنجان القهوة بالحديقة / شكراً لمن كانوا رمز الثورية / رمز الحق والشرف والقومية / شكراً لمن كسر عزيمتي اليوم / تقبل الله منكم يا من سجدوا بعد دخولها / والراية خضراء إسلامية / وشكراً لمن يتعزز بأسلحة أمريكية / شكراً لكل اللاعبين بمصير أمتنا / شكراً لكل من جللها بالخزي والعار ونشر الرعب والدمار / شكراً لكل الفتحاوية شكراً لكل الحمساوية / شكراً لمن (حرر) المباني من الأجهزة الأمنية / وإن تخطى الحدود الحمراء / وكسر همتنا / شكراً يقولها لكم / كل طفل يرى فيكم مستقبل عزتنا / كل امرأة تتحسر على دموع تذهب على فرقتنا / ولا تنسوا شكر الشهداء / يلوحون لكم من السماء / كنتم شر خلف لخير سلف / شكراً وسنراكم فوق / ولكن بالجانب الآخر بنار لظية / تقاتلوا وببعضكم ناضلوا / ستموتون ولكن.. لن تموت القضية..!
الإنسان في نهاية الأمر قضية، ولكن لن تموت قضيتي إذا ماتوا من يعتبرون أنفسهم قادة للقضية، لم تولد القضية ولن تموت بوجودهم، في هذه الأيام وبهذه الظروف موتهم أفضل وأشرف لهم..!
في البدايات كانوا قلة، تمسكوا بإيمانهم لم يبق لهم سواه، فالقضية على حبل المشنقة، والقائد في السجن ومعه المئات، ومن في الخارج، مشردون تائهون متهمون، والشهداء صيروهم قتلة أو مقتولين، حتى في عيون البعض من أمهاتهم، كثيرون ربما، لم يدركوا أن القضية روح لا تموت، ولا تخبو إلا لتنهض من جديد، وحدهم، أولئك القلة، حملوا وجعهم وعادوا إلى حيث الروح في هيكلها الأبدي منذ مئات السنين، ليسجدوا أمام عظمتها، وينصتوا إلى همسات رفاقهم الراقدين.
نحن هنا، القضية هنا، لا تخافوا، نحن والقضية بألف خير وأسباب الخوف كثيرة كانت، فعلت فعلها في الكثيرين إلا في هذه القلة الشريفة التي لا تخاف الخوف.
وأختتم بما قاله شاعرنا وعظيمنا توفيق زياد:
كأننا عشرون مستحيل / في اللد، والرمل، والجليل / هنا على صدوركم، باقون كالجدار / إنا هنا باقون / فلتشربوا البحر / نحرس ظل التين والزيتون / ونزرع الأفكار كالخمير في العجين / هنا.. لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل / كأننا عشرون مستحيل / في اللد، والرملة، والجليل / يا جذرنا الحي تشبث / واضربي في القاع يا أصول..!