وانتصر العراق
سوسن البرغوتي - محررة وناشرة موقع (مبدعون عرب)
تحتل قضية العراق مكانة الصدارة، في التنافس المحموم للوصول إلى سدة الرئاسة الأمريكية، فكلا الحزبان المتصارعان على البيت الأبيض، لا يختلفان على مواصلة بلادهم لعب الدور الرئيسي في الهيمنة على العالم.
إلى جانب ذلك، تتفق قيادة الحزبين المتصارعين، "الجمهوري" و"الديمقراطي" على استمرار العلاقة الاستراتيجية الأمريكية بالكيان الصهيوني الغاصب، ليس لأن ذلك ينسجم مع القراءة الاستعمارية الدائمة لهذا الكيان باعتباره طليعة استيطانية غربية في قلب الوطن العربي فقط، بل لأن الرضى "الإسرائيلي" عن هذا المرشح أو ذاك، أحد الأوراق الهامة لفوز أي مرشح في الانتخابات هو رهن بتقديم إثباتات الطاعة والولاء لـ"اسرائيل".
لم نأت بجديد حين نشير إلى أن القرار السياسي الأمريكي، يخضع لضغط ورقابة اللوبي الصهيوني المهيمن على السياسة والاقتصاد والإعلام داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وتمتد سطوته لعموم القارة الأوروبية.
لقد أيد الكونغرس الأمريكي، قرار بوش بالحرب على العراق، رغم المعرفة المسبقة ببطلان الذرائع التي جرت محاولة ترويجها لتسويق العدوان، وقد ثبت للعالم بأسره بطلان تلك الذرائع، كما ثبت للقاصي والداني أن العراق لم يكن يمتلك، ضمن ترسانة أسلحته، أي نوع من أسلحة الدمار الشامل، وأقر "البنتاغون" مؤخراً، بعد فوات الأوان أن القيادة السياسية العراقية بزعامة الرئيس صدام حسين، والمعترف بشرعيتها دولياً، لم تكن على علاقة بتنظيم "القاعدة"، أما "المقابر الجماعية"، التي كان الحديث عنها جزءاً من حملة التحريض ضد العراق، فقد تجنب المحتلون حتى هذه اللحظة، أي محاولة لإجراء أي نوع من التحقيق بشأنها، وتراجع موضوعها إلى الخلف، كما تراجعت الذرائع الأخرى.
إن الإشارة إلى هذه النقاط، ليس من قبيل تأكيد المؤكد، بل بموجب ما تكشف من حقائق، أن الاحتلال الأمريكي للعراق، هو جريمة حرب، اعترف بها المحتلون أنفسهم، خاصة وأن تلك الحرب تزامنت مع حملات إبادة وحشية كلفت أكثر من مليون ونصف شهيد، عدا الجرحى، وملايين المشردين، الذين قدروا بأكثر من خمسة ملايين، إضافة إلى التدمير المنهجي للبنية التحتية الاجتماعية والعلمية والاقتصادية العراقية.
شمل التدمير الممنهج الجامعات، الصناعات والمعاهد العلمية، مراكز البحوث والدراسات ومقار المؤتمرات، المتاحف، الأماكن التاريخية وقتل العلماء.. وكان بالفعل كما وعد وزير الخارجية الأمريكية، بيكر نظيره العراقي السيد طارق عزيز عودة العراق المعاصر إلى العصر الحجري، هذا المنهج وبدقة هو ما يراد تعميمه ليشمل الوطن العربي بأسره، ابتداء بلبنان وسوريا ومصر والجزيرة العربية، إلى آخر القائمة.
إن الإدارة الأمريكية الحالية، ينبغي أن تحاسب، بموجب القانون الدولي، كقوة ضالعة بارتكاب جرائم حرب بحق الإنسانية، ليس ذلك فحسب، بل إن هذه النتيجة تسوقنا إلى الاعتراف بطرف التقابل الآخر، المقاومة العراقية، باعتبارها الجهة التي تصحح ميزان العدل، وتعيد للعراق مكانه اللائق في الخريطة العربية، والإقليمية والدولية، كعضو فاعل في نصرة النضال العربي من أجل تحقيق غاياته في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، وفي المقدمة الإسهام في تحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.
ليس هناك من قوة أخرى، مهيأة لإعادة الاعتبار للعراق والعراقيين سوى المقاومة، فهي وحدها التي تكتسب الشرعية الحقيقية في مواجهة الاحتلال بالقوة المسلحة، وإلحاق الضربات الماحقة والهزائم المتلاحقة في قواته، وذلك قانون طبيعي نما وترعرع مع تصاعد واستمرارية الكفاح الوطني ضد المستعمر.
ومن هنا، فإن أي اتفاق تعقده الإدارة الأمريكية مع الإدارة العميلة التي جرى تنصيبها في العراق، إثر احتلاله تفتقر قانونياً إلى الشرعية.
إذاً المقاومة العراقية وحدها التي تملك حق تمثيل الشعب العراقي، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات باسمه، ووفقاً لهذا المنظور، تصبح كل محاولات الإدارة الأمريكية لتوقيع اتفاقيات مع العملاء، تكبل العراق وتنتقص من استقلاله، باطلة وغير مشروعة، وتتناقض مع مفهوم القانون الدولي، الذي لا يجيز للقوة المحتلة، العبث بالقوانين واللوائح والدساتير التي كانت سائدة قبل قيامه بالعدوان، وأن أي تغيير يقوم به المستعمر في هذه الاتجاهات باطل جملة وتفصيلاً.
لقد كشف العدوان الأمريكي على العراق ثم احتلاله، زيف المزاعم بتحقيق الديمقراطية، الشعار الذي طرحه اليمين الأمريكي، في ماكنته الإعلامية، والذي اعتبر مقدمة لازمة لتحقيق الاختراقات في البنية الوطنية للأقطار المستهدفة بالعدوان، فجاءت النتائج، كاشفة عن الوجه المضمر والقبيح للنوايا لتنفيذ مشاريع الاحتلال، فإذا هي في حقيقتها تدمير ونهب وحرق للأرض ومقابر جماعية شملت المدنيين، دون تمييز بين مختلف شرائح النسيج العراقي.
في هذا السياق، يجدر التذكير، إلى تصريح قائد الجيش الأمريكي الذي شن العدوان على العراق عام 1990م، "نورمان شورزكوف"، فإثر تدمير العراق، وانتهاء ما عُرف في حينه بـ "عاصفة الصحراء" زار "شوارزكوف" تل أبيب، وهناك ألقى خطاباً حماسياً، أبلغ فيه الصهاينة بالنص أن القتال كان من أجل أمن "إسرائيل" (لقد قاتلنا من أجلكم، وأنتم الآن أكثر أمناً).
وفي "مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط"، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر نظيره السوري آنذاك، السيد فاروق الشرع بأنه ليس أمامكم سوى القبول بالسلام مع "إسرائيل".
فهزيمة صدام حسين، قد جردت العرب من أي قوة استراتيجية وقتالية تمكنهم من مواجهة الكيان الصهيوني، وما عليهم سوى القبول بالعروض الأمريكية.
على الرغم من تشغيل مصانع الأسلحة، وتجنيد قوات لشركات خاصة ومارينز لتدمير العراق كدولة وشعب، إلا أن الدولار ينهار إلى الحضيض، وهذا أكثر ما يشغل فكر الشعب الأمريكي بالدرجة الأولى، فلا تحقق الرخاء الاقتصادي، ولا شعار الديمقراطية المرفوع على الدبابات وأساطيل حربية، نشر الأمن والاستقرار في العراق، بل على العكس تماماً.
كما أن مخططات التحكم عن بعد بثروات العراق، أخفقت وفشلت فشلاً ذريعاً، بالرغم من إشاعة الفتن الطائفية البغيضة، وإطلاق استيراتيجات جديدة، وفقاً لتصعيد المقاومة لإحباطها والقضاء عليها، وهذا لم يحدث، بل زادها قوة وصمود وإصرار على التحرير.
فأحفاد سعد ابن أبي وقاص وصلاح الدين الأيوبي كانوا لهم بالمرصاد، وقاموا بدورهم التاريخي، وصدق الوعد أن (بغداد مصممة على أن تجعل مغول العصر ينتحرون فوق أسوارها).
لن ينجح الصهاينة ولا الإدارة الأمريكية بالاعتماد على حفنة من العملاء والأقزام، ولن يكون هناك مكان لمصالحة وطنية في العراق، إلا تلك التي تصنعها سواعد المقاومة. وبالمثل، لن يكون هناك مكان للذين يساومون على حقنا في فلسطين، من النهر إلى البحر، تحت كل الذرائع والاعتبارات. وستفشل خطط باتريوس في العراق، وسفارة أمريكا- وكر المؤامرات- في لبنان ودايتون في فلسطين، وخارطة الطريق فقط تلك التي تتجه بوصلتها إلى تحرير كل فلسطين، دون تفريط في مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.
مع نهاية العام الخامس لاحتلال ما بين النهرين، تنتصر إرادة النضال، ويتراجع مشروع الاستعمار في العراق وفلسطين ولبنان، وبقيت قوى الممانعة الحيّة صامدة وشامخة. فحق لنا أن نهتف.. وانتصر العراق.
20/3/2008